حاتم الصكر - القصيدة إبنة نافرة والشعر راعٍ أبوي

1- القصيدة والشعر: جدل التحديث والتقليد
التفرقة بين (الشعر) و(القصيدة) ليس من الحماسة للتكثير المصطلحي أو السفسطة كما قيل يوماً.لقد دعا أكتافيو باث بحكم تجربته الشعرية إلى ذلك، ولدى النقاد مبررات كثيرة تبدأ من تاريخ النصوص الشعرية وسيرورة التحديث.الشعر يراكم تقاليده ويتحصن وراءها؛ ليثبت كنوع ويستمر ؛ لذا يقاوم أي تجديد أو تعديل أو تحديث.
القصائد هي التي تغير الأساليب و التقاليد الشعرية.ويمضي زمن لكي يستوعب المتلقي الخاص والعام تلك الهزات والتقلبات في الكتابة .
دوما تكون ثمة مسافة بين النص ومتلقيه.مسافة جمالية عدَّها نقاد القراءة والتلقي ضرورية لتعيين شعرية النصوص.هي تخلق تلك الفجوة أو المسافة الجمالية التي اقترح كمال أبو ديب أن يدعوها مسافة التوتر.
القصيدة ابنة عاقة للشعر باعتباره كينونة مكتملة ومسوَّرة بتقاليدها التي تأسست بحكم تراكم نصوصها عبر تاريخها.ولكن يأتي التعديل والإنزياح النوعي الأكبر. قصيدة تجد طريقها الخاص. هي(( انقطاع في سياق الزمن وانبثاق حاضريعود دوريا ً بلا ماض أو غد.. وتظل الحياة منتظرة القصيدة التي ستنقذها، وتجعلها تصير على ما هي عليه)).كما يقول اكتافيو باث في مقالته الشعر والتاريخ( ترجمة عبدالقادر الجنابي) والشواهد على ذلك كثيرة.في الشعر الغربي والعربي على السواء. مراكب سان جون بيرس الضيقة وفصل رامبو في الجحيم وأنشودة مطر السياب أو هذا هو اسم أدونيس وفتاة فراشة فتاة أنسي الحاج ،والوصول إلى مدينة سركون بولص و رهائن صلاح فايق ومحاولة وديع سعادة لوصل ضفتين بصوت وغيرهم..
القصيدة تعدّل وتحوّر وتتمرد ليرفضها الجسم الشعري المنبني وفق ما توفر في الذخيرة الشعرية للجماعة، بعد أن تكدست النصوص وأعطت شكلاً لنوعها وتحصَّنت بأسواره.هو يرفض كراعٍ أبوي، و بآلية الحفاظ على النوع، أيَّ جسم غريب تأتي به جرثومة القصيدة التي لا تكف عن محاولة القفز من شِباك الشعر وكمائنه.
حصل هذا في التاريخ الشعري العربي أيضاً.لدى المعري مضمونياً بفكر مخالف عبر القصيدة، ثم برفض مواضعات الشعر السائد وأبعاده بتضعيف أغلاله عبر اللزوميات التي مثلت تمرداً انتحارياً ،يدخل إلى قلب اللعبة الشعرية ويحفر أسسها لتنهار. وقبل ذلك في تصاوير أبي تمام وتهاويله اللونية ،والإنزياحات التي جعلت قصيدته تقول مالا يُفهم عند قاد الشعر ورواته.
فإلى أن تتجه القصيدة اليوم - وأعني قصيدة النثر تحديداً - لتتخلص من شعرية الشعر الفائضة والزائدة والمكررة والتقليدية حتى تحت لافتة الحداثة؟
تلك أهم مسؤوليات الشعراء.القصيدة تفتح لهم أبوابها لتتخلص من زوائد النظم والتسطيح النثري.وتبتكر لها شكلاً .وتختط لها طريقاً.
2- الإقتصاد اللغوي والتكثيف..
الشعراء تقدموا بمقترحات عدة عبر قصائدهم، لكنها سرعان ما تغدو(حصيلة (شعرية)تخلق لها أعرافاً يسهل على الآخرين أن يحذو حذوها.وتتكرر النصوص لتراكِم نفسها في هيئة كُتْلوية، أو جسم جديد يتحصن شعرياً ضد أي تغيير تالٍ عليه.
ولنمثل لذلك سنتحدث عن الهايكو أو القصيدة القصيرة والقصيرة جداً أو قصيدة الومضة والجملة الشعرية باختلاف مسمياتها.لقد استقر شكل الهايكو عربياً وتابعه كثيرون بقصائدهم التي تطوِّر أعراف الهايكو كما جاءت من منبته في اليابان وأجزاء أخرى من آسيا تلقفته وتوسعت فيه كالصين.
ولاشك في أن تلقف الشعراء العرب لقصيدة الهايكو تم بيسر أكثر بسبب التمهيد السياقي المتمثل بالتقنيات الرقمية لتي دخلت الحياة اليومية وسنذكرها في موضعها لاحقاً.
يحمل شيوع كتابة القصيدة القصيرة جدا أو الهايكو في شعرنا المعاصر دلالتين في اعتقادي:
- أولاهما:مواصلة الشعراء الحداثيين العرب بحثهم عن أشكال مبتكرة وكيفيات جديدة للمحمول الشعري، ومحاولة اجتراح طرق جديدة لتخليص قصيدة الحداثة ( الوزنية والنثرية) من رتابتها وتقليديتها .
- وثانيتهما:البحث عن مراجع ومؤثرات مغايرة لما ألف الشعراء احتذاءه في تجاربهم السائدة، فقد مر بالحداثة الشعرية العربية زمن طويل يقرب من سبعة عقود وهي تستلهم المؤثرالغربي بشقيه الانجليزي والفرنسي، ومؤخرا ببعض التجارب في اللغات الاجنبية الأخرى. لكن الالتفات إلى الشرق وتحديدا لتجارب اليابان بماضيها الفكري والفني هو الجديد في تغير المراجع والمؤثرات.
لكننا لا نستطيع إغفال الظروف الموضوعية والمبررات الفنية الداخلية التي أوجبت هذا التأثر، وشيوع ما عرف من قبل بقصيدة الومضة أو القصيدة البرقية التي تتكتل في عدد محدود من الأبيات لعله تطوير للقصائد المقطعية –ذات المقاطع المتعددة-أو استلهام لبعض التجارب التراثية في النثر والشعر، كقصائد البيت الواحد أو المقطعات و التوقيعات التي غدت فنا مستقلا في الكتابة العربية سنجد اثرها في القصة القصيرة جدا بجانب الأخبار والحكم و الأمثال المختزلة.
ومن هذه المؤثرات الموضوعية الميل العام في التلقي أو المزاج المترافق مع إيقاع الحياة المتسارع ،وتداول المخترعات الحديثة التي أوجبت الإيجاز ملاءمة لشكلها او طبيعتها التوصيلية كالبرق والفاكس و الهواتف والرسائل النصية في الأجهزة المحمولة والبريد الإلكتروني والإعلانات والثقافة الصورية عبر القنوات البصرية .
لكن الحماسة المفرطة والإقبال الجمعي الآتي من تقليد للسائد أو الموضة الشعرية تجعلنا -كقراء ومتابعين لجدل الأشكال في الممارسة الكتابية - نفضي بقلقنا من أن تصبح الهايكوات وسيلة أخرى للتكرار والتماثل الصوتي، بحيث لا يكون ثمة تميز أو خصوصية لا سيما والكثير من كتبة الهايكو لم يطلعوا على مبرراته الفنية وموضوعاته وتاريخه كنوع شعري.ولم يتم التعرف الكافي على نماذجه كما تداولها في سفرها من موطنها القديم –اليابان- عبر الترجمات شعراء عالميون مثل أوكتافيو باث وجورج سيفيرس وبورخيس والنوبلي السويدي ترانسترومر وظهرت باللغات الأوربية انطولوجيات ومختارات من الهايكو وكتب بليث – عامي 49 19و1964 تاريخها بتوسع ودقة كما وضع أنطولوجيا شاملة لهذا الفن.لكن تأخرنا المعتاد في اللحاق بالظواهر جعل ترجمة هذا العمل لا تتم الا مؤخرا حيث ظهرت ترجمة الشاعر الراحل بدر الديب لكلاسيكيات الهايكو ،رغم أن كتابة الهايكو تجاوزت بداياته اليابانية التي اقتصرت على وصف الطبيعة أو المواقف العاطفية من الموجودات وما يدور حولها من ظواهر.وأهم ما في التطوير الذي شهدته الهايكو هو تنويع موضوعاتها وارتباطها بالذات الإنسانية بشكل أكبر، وكأنها انسحبت من وصف الخارج غلى رصد الدواخل والأحاسيس، مع الحفاظ على ذلك التوتر اللغوي والاكتناز الدلالي وهو ما يوجبه التكثيف والإيجاز الملازمان لهوية الهايكو النوعية وتميزه بين الاشكال الشعرية .
ربما غاب التعمق في فلسفة الزن أو الكونفوشيوسة او التصوف عن مراجع كتاب الهايكو العربي لكنهم بكل تاكيد مدركون لما يمكن تسميته بتر الاستطالات والترهلات الصورية واللغوية والإيقاعية، وانتفاخ القصائد بما لا يضيف لمحتواها. وهي دوافع تناثرت كمظاهر في كتابات مبكرة لجبران وبعض شعراء مجلة شعر في المرحلة التبشيرية من ظهور قصيدة النثر، ولكنها صارت اليوم وسيلة تعبير تعززها القنوات الاتصالية وبشكل خاص تلك المواقع والوسائط الافتراضية ،حيث لا بد من إيجاز وتكثيف لملاحقة التواصل والتفاعل الحي المتاح عبرها. وليس بعيدا أن تظهر تجمعات ومنتديات للهايكو ومختارات وموسوعات تؤرخ للقصيدة المختزله
و المكثفة في شعر الحداثة العربية كما هو حاصل في كثير من بلدان العالم.
المعالجة و المقاربة السابقة تثير أسئلة وتمهد لسؤال أكثر أهمية حول مستقبل قصيدة النثر، وسط تطور النوع الشعري وتجدده، واحتكاماً إلى الشعرية عبر التاريخ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى