عدنان أبو أندلس - جان دمو : أسمال الملوك وقصائد أخرى.. شراسة النص المشاكس ونهاياته العبثية

ــــ ليس من السهولة الكتابة عن شاعر تمرد على الحياة ، وملأ المسافات تسكعا و صعلكة بهذه الأسطر القليلة , لكن ما الجدوى في ذلك ، والرغبة تلحُ في ولوج معترك هذا الكائن ، العدمي ، الغامض الغاطس أبدا في حلمه الكحولي ,والممتد منذ صباه و حتى نهاية عمره , هذا الطفل الكهل الذي أفزعني تشرده , التائه في نهار الدنيا و القياف في عتمه ليل الحانات , له دراية بخرائط الأرصفة و فهارس الليالي العبثية البريئة؛ انه أمير الصعاليك وحامل بيرق مريديه إلى حرائق الشعر، وليل المساجلات إن كان صاحب مزاج رائق وهو يمسكُ كأسهُ ويتجشأ الجرعة الأخيرة ، لهُ باعٌ باذخ في الذائفة الشعرية ، لهذا ترى الشعراء الجُدد يلتفون حولهُ على مدار الوقت ، ومتمسكين بظلهِ .
، ” جان دمو ” . ذلك المتمرد الأثيري بامتياز، والمتشرد الطفولي ، والغاطس بالحلم الكحولي ، انه صعلوك مع سبق الإصرار . صعب المراس ” فوضوي، ساخر ، بوهيمي ” عادةً ذلك الإنسان الذي لا يهتم بمظهرهِ لأنهُ مشغول بطقوسهِ الغريبة ” ، مشاغب , مشاكس , عنيد , منفلت , سليط اللسان ,عبثي, جريء ، إمبراطور الكحول ، إلى حد يتفاداه المتسلطون , لم يخضع لنظام ولا تقيده ضوابط ,هذه صفات لم تكن يوما ما مثلبة عليه وإنما مدحا , وهو الأبيض النقي يحسد عليها لأنها من صلب إنسانيته الصافية… لكنه وديع جدا” في لحظة الانتشاء … قد غير إسمهُ الصريح من ” دنخا ” إلى ” جان ” لتأثرهِ بمقولات المفكرالوجودي الفرنسي الشهير” جان بول سارتر ” .
هكذا يتحدث عنه معاصروه بمفارقات تشبه النكات يتناقلوها ويتندرون بها عن حُبهم الشديد لهُ وأفعالهِ عن سجية بريئة ” تطوع جان في منظمة التحرير الفلسطينية لا لكي يحارب ، بل من أجل أن ينام على سطح البناية ، كما أودع في ديرٍقد شملتهُ ً الرعاية الإجتماعية لا ليصلي ويقيم طُقوس القُداس ، بل ليشرب النبيذ المعتق ” خفيةً ” في الدهاليز البعيدة ، وقف وتمرد حينها على واقعهِ الميؤس منهُ بالتغيير وتقبل الآخر ، لم يخدم في الجيش أو أن يشترك في القتال ” وقد شملهُ الأعفاء من الخدمة العسكرية ” جان مرخص عن زلة اللسان ولا يشملهُ قانون رغم الحالة التي يمرُ بها البلد آنذاك ” كان معجباً بأغنية فائزة أحمد ” أنا قلبي إلك ميال \ أنت وبس إللي حبيبي ” يردًدها دائما حتى بغير مناسبة ، يحكي أنهُ أُعجب بفتاة وبادلتهُ الشعور ذاتهِ ، إلا أنهُ جزع من إرشاداتها عن النظافة ، تركها ومضى كلٌ في طريق .
وقد وصفه قرينه وأحد أقطاب المربع الذهبي للصعلكة والذي يشكلهُ مع حسن النواب ، نصيف الناصري، كزار حنتوش آنذاك . وقد وصفهُ الشاعر حسن النواب” بالمتشرد الاستثنائي ” وأيقونة في الشعر العراقي المعاصر, ” كتب عنهُ الكثيرون منهم الشاعر ” حسين علي يونس ” في روايتهِ ” يوميات صعلوك : والشاعرعبد العظيم فنجان في ملفِ : جان دمو السَاطع كصلاة صباحية . رغم شراستهِ ونزواتهِ وشطحاتهِ ، إلا إن أسمه ظل متداولا كصدى الإلتماعات الفريدة سواء في كتاباته المُقِلة أو في انطباعاته الشفوية المثيرة والمدهشة حول الكتابة,أو في سلوكه الحياتي كصعلوك (استثنائي) وساخر كبير لصاحب ديوان صغير”أسمال.”…1″
فهو حتى بثمالته ومزاجيته الرائقة تراه حينا أودع من حمَل , و أهدأ من حمامة .
كان أكثرهم … توقا إلى الحرية ,وأكثرهم تهكما وبعدا عن الواقع ومصابا بكره الماضي الذي يربطه به، لذا تراه مبتعدا عن أهله ووطنه دون ادنى خفقة قلب,
كان حسن الدعابة لديه باذخاً واستعداده للتهجم حتى على نفسه ,يبصق على كل شيء ولمرات تعكسها الريح فترتد عليه,
لذا كان أكثرهم إصرارا” على التمرد … ضمن جماعة كركوك …
و كما ورد عن زميله و معاصره الأديب (فاروق مصطفى ).” هو المليء بمتفجراته و نفوره الداخلي الحاد حتى مع نفسه ساعة الغضب تعتريه نوبات لو تحققت لنسفت كل النظيرات المطروحة آنذاك … وحتى سكون هذا الكون “2…”
لكن خنقته الغربة ، وأصبح عصيَا” على الوطن , عاش حياته كلها بعيدا عن أية قيود و كما يشتهي حتى أضحت قصائده في اللامعقول و اللاوعي و العبث و اللامبالاة طاغية في نصوصه الشعرية وعناوينها تمثل بمسمياتها حالة من الضياع والغرق في دهاليز الرعب ومتاهات هذا العالم, وكأن في عنونتها قصدِيه لإستغاثة من شبح يحيط به ، ورُبما يراها المتلقي نصوص من خارج اللغة ، .
لذا تراه يستغيث للخلاص من شدّة الضيق الذي بات يخنقه فجاءت مسميات قصائده – السقوط- الظل- الصوت يبحث عن الصوت – آه ,لِمَ القوارب هذه- هذه مسالك غير سالكة,إضافة إلى عنونة قصائده الأُخرى بغرائبية فجة – الجلد الذي سافر بالقطار ونسي أن يقول للبروفيسور – نعم ,هذا هو العنوان ,أما متن القصيدة عبارة عن كلمات ثلاث …فقط , هل يا تُرى هل توجد أكثر من هذه الغرائبية في الشعر المعاصر ؟… أكيد وجزماً … لا؟!..
وقصيدة ثاني أكسيد البيجاما – صدى الضفادع – هذه غرائبيته و مفارقاته في الأسلوب يعرف بها عبر إرسالياته المتخمة بالنوادر و الافتراضات و التكهنات ، و عوالم غير مأهولة البتة بنصوصها الكهنوتية وطلاسمها اللفظية إضافة إلى الهالات من الغموض والشطحات الغنوصية الهذيانية الغير مطروقة أو مألوفة في نسيج هذا الشرق.
منها مقطعا” من مجموعته” أسمال ” اليتيمة يقول :
حبيبتي
فمك حمار كهربائي
حيث أسناني تسافر
في الريح
هذا المقطع و كما يقول الباحث د. يوخنا ميرزا الخامس …. انه نص يتسربل بالغموض و عصي على الإدراك , ” فلا نلمس
منه وعيا” شعريا” سوى انه يحمل غرابة مبهمة لا طائل من تحتها .””3…”
كذلك للناقد د.سنان النفطجي رأي مشابه بذلك يقول :”لا يجد القارئ شعرية في هذا النص,ولكن بقليل من التأمل يتوصل إلى أن هذا الشاعر قدّ عبر عن موقف في ” القرف من ثرثرة امرأة لا تمل ولا تكِل من الكلام المستمر,وعن نفاذ صبر الشاعر من خلال صوت طقطقة أسنانها في حالة من العصبية المستديمة وهذا ديدنه ، هي ” الأسنان ” التي تسافر في الريح .
شراسة المفردات أدت إلى هذه الخشونة في تصلب المشاعر وتقعرها , وهل يمكننا التعامل مع هذا المقطع ببقايا عقل نجا من سطوة العنف الخيالي بصوره الحادة المزاج ومدببة النهايات ولا يخلو من القسوة والألم على حدّ رأي د.خزعل الماجدي في وصف الشعر الذي ينحو نحو هذا التوظيف بـ الشعر الشرس . .
لذا أقول من تأويل هذا النص : :
حمار كهربائي … أسناني تسافر في الريح
ما الربط بين مفرداتها /حمار / كهربائي / أسناني / تسافر في الريح / ربما تساوي فقط ” فمك “… انه نص هلامي – أميبي – فوضوي- أخطبوطي ، لا يخضع لعادات الفكر المنطقي .. وعصيٌ على الإدراك ” مثل دخان يتلاشى في الفضاء ” . فان الكلمة لا تساوي المعنى اسما” و رسما” في الجملة … إذ” أنها تتشكل بوجود مستقل أكثر فأكثر و لم تعد مدرجة في نظام سياق الجملة في المفهوم العام كي يمر عبرها المعنى … أنها حالة هذيان أو هذر , أو حالة إغماء أو تعاطي ما يصبو إليه من حالات سُكر مستديم ، كل حين في عرق الفكرة بهذا الشكل السَيال أو السائب الذي لا تتقبله الذائقة في هذا النهج العقلاني السائد في هذا الزمن, أنما كان ثورة في الزمن الجميل – عصر التمدن ستينيات العصر المنصرم …
ومن مجموعة أسمال في قصيدة بلا عنوان كُتبت في حانة دلير في 7-5- 1992، يتضح للمتلقي المكان الذي دونت به القصيدة ونكهة الكحول العابقة في ثناياها من مفرداتها المشاكسة والعسيرة على الإدراك سطرت جليا في لحظات ثمالة واضحة يقول فيها :
مع كل الغيوم التي تشكل زبدا”
تحت فم الكركدن
يتعين وضع بعض الأسلاك
حول وقت الأطباء
و البغاة و السفاحين
ماذا يفهم المتلقي من استعمال هذه الكلمات النافرة و الغريبة و المثقلة بالغموض والإبهام لا رابط بين تناغماتها و شفرات النص ,لإدخاله ربما الفلسفة كعنصر مطعم بإيهامها و إيهام المتلقي بحبكتها التشكيلية … أنها قصيدة الهوة والمتاهة المعتمة
في ليل إعصار لا يهدأ و زمجرة تنعق من مكان لا يرى ,الإ حس دعابة عبثية فائقة يرن في أحاسيسه لحظة النشوة,
كان أسمه يسبق شعره دوما , ومعظم الذين عرفوه ظلوا يجهلون شعره حتى غدا شاعرا بلا نص,وكما قال فيه مرة الناقد عبد القادر الجنابي ” شاعر يجيد الشعر ,ولا يحتاج أن يكتبه”.
و في قصيدة بغداد ص (24) من المجموعة حيث يظن المتلقي حالما” يقرأ العنوان بأنه يصف أو يمجد العاصمة ” بغداد ” على غير دراية .
انه لم يذكرها حتى ولو بالتنويه لكن عنوان القصيدة فقط ….
يقول :
الشيخ يشرح الفواكه
وحدي ,تحت ,المطر
اليوم يموت بتؤدة
أأترك صيفي
ينبت على شفاه الماموت ؟
إنها اختلاجات نفسية و حقائق افتراضية و تراكيب فلسفية قال عنها الناقد هشام القيسي ( نسجت من اللاوعي و تحت
تأثير ألانتعاش الدائم أبعدته عن الواقع نحو المجاهيل و إلى “هوة من فراغ ، وصرخة عميقة ) “4”
هذه المفردات الغرائبية كصخرة يدحرجها من قمة جبل شاهق تظل ترتطم نهاياتها في الحافات إلى إن تستقر مخلفة وراءها
تقعرات و تصدعات تنهار رويدا رويدَ …. فجاءت هذه المفردات مرتدية أسمال الاستحالة بلا نهايات مختومة مثل …..
اللامحدود – اللامنظور – ما لا نهاية – اللاجدوى – اللاوصول – اللاحرب – اللا أحد –اللا منتهي… تلائم المديات البعيدة و من الصعب اللحاق بها وهذه التي عطلت حياته لصراحتها الأكيدة.
و هذا النص في المجموعة اليتيمة – أسمال….
كلا اللوعة
كلا الوصول
الوصول إلى أين
غريب أن توقظ الأشياء
بأسمال الرعب
أسمال الجغرافية
فلتكن أسمال الملوك .
انه انحلال حقيقي للجملة حدثت بها تناغمات متنافرة و مفككة حينا بأبعاده كل المفاهيم و المعطيات الملموسة التي يفهمها
الفكر حينا” أخر … تحررت من العقلنة التي تقيده بضوابط صارمة.
هذا هو – جان دمو- الذي أتحف الأدب العراقي عامة و كركوك خاصة بمسميات و تعابير و رؤى حُلمية , أو قل ايهامات و تجليات اشراقية تحتاج إلى ذهن متحفز دوما” بشيء من
التأمل و الاجتهاد كي تقتحم مجاهيله و حل ألغازه لغته و اختراعاتها المتواصلة و تفوهاته الاعتراضية في حالة مزاجه الرائق نوعا ما ….
كل ما تناولته يدخل في إبداع شاعر لن يتكرر بهذه الفرادة المعكوسة غرائبية في السيرة و مفارقات في الشعر وفق تجربة امتدت قرابة أربعين عاما” قضاها بين الحانات و المقاهي و الأرصفة التعبى التي لا تفضي إلى شيء سوى- أسمال الملوك – التي ورثها عن صعلكة كثُر حسادها و غبطها المخلصون في الشعر ليس إلا…..


الإحالات:-
1. أسمال / جان دمو / منشورات دار الامد- بغداد -1993 .
2. الإستذكارات الناقصة / فاروق مصطفى / كركوك 2005 .
3. كركوك فضاءا” نثريا” / د. يوخنا ميزرا خامس / الأديب بغداد 2008 .
4. شعراء جماعة كركوك / هشام القيسي / كركوك 2009 .



أعلى