الدكتور عادل الاسطة - يافا : في ذكرى النكبة..

آخر مرة زرت فيها يافا كانت في العام 1987 . وكنت زرتها في نهاية 60 وبداية 70 ق 20 مرارا .
منظر المدينة ، كلما استرجعتها ، لا يفارقني : التلة والبحر والميناء القديم . ولكن عدم زيارة المكان عيانا لم يحل دون زيارته في النصوص الأدبية.
لم أقرأ الأدبيات كلها التي كتبت عن يافا في العقدين الأخيرين ، أو أنني لم أقرأ كتابة لافتة عنها تركت أثرا في نفسي . وربما كانت قصة أكرم هنية "دروب جميلة" و
رواية عاطف أبو سيف " حياة معلقة " آخر ما قرأت عن المدينة ، ومع أن روايته "الحاجة كريستينا " تعود إلى يافا لتكتب عنها كما أخبرني إلا أنني لم أكمل قراءتها ، ربما لأنني لاحظت فيها استطرادا وتكرارا ، وهو ما لاحظته في روايته الأسبق "حياة معلقة" وفي كتابة عاطف أبو سيف عن يافا ما يدفع بعد الاستماع إليه إلى المتابعة ، فهو ينحدر من هناك وزار المدينة وأقام فيها فترة لا بأس بها . وأشير إلى كتاب المتوكل طه " وريث يافا " الذي أخذت أقرأ فيه ولكنني للأسف لم أواصل .
لا أعرف كتابا من يافا ما زالوا يقيمون فيها أو أقاموا فيها في 50 و 60 القرن 20 . لقد كانت المدينة شبه مهجورة من سكانها وتركزت الحركة الأدبية والثقافية الفلسطينية بعد النكبة وحتى الآن في حيفا والناصرة وعكا.
غابت الحياة الأدبية والفكرية في يافا بعد النكبة ، ولكن المدينة لم تغب ، فقد حضرت في أدبيات المنفى حضورا لافتا وربما حضرت في 50 القرن العشرين حضورا يفوق حضور حيفا وعكا والناصرة ولم تحضر أي من المدن الثلاثة حضورا بارزا طاغيا إلا في 70 القرن العشرين بعد أن توهجت أشعار محمود درويش وأحمد دحبور ابني المدينة لعلاقتهما المتميزة بها ؛ الأول بعد مغادرتها وشعوره بأنه ، مثل آدم ، خرج من فردوسه فندم ندما شديدا وآخذ يستعيد ولو في الشعر ذلك الفردوس ، والثاني من خلال بؤس حياة أهله في المنفى ومحاولة الأم تعويض أطفالها عن واقعهم بالحديث عن الجنة المفتقدة والمنتظرة في الوقت نفسه ، فلقد استحضرت الأم المدينة كلما سألها أحمد عن قسوة حياته في المخيم .
لم يتهيأ ليافا في الوطن أو في المنفى من أبنائها كاتب أو شاعر كما تهيأ لحيفا وعكا . لقد تهيأ لحيفا اميل حبيبي ومحمود درويش وأحمد دحبور ، والكاتب الذي عاش في يافا قبل 1948 وغادرها وهو في الثانية عشرة من عمره ، ولم يكن من يافا أصلا ، هو غسان كنفاني ابن عكا ، وعلاقته بيافا تختلف عن علاقة درويش وحبيبي بحيفا .
لقد حضرت يافا في شعر شعراء المنفى بين 1948 و 1967 باعتبارها رمزا لفلسطين كلها ، ولقد كتب عنها شعراء أقاموا فيها وشعراء كثر لم يقيموا فيها وإنما نظروا إليها ، كما ذكرت ، رمزا للوطن السليب كله .
وعلى الرغم مما سبق تبقى هناك نصوص شعرية وروائية ونثرية تبقى عالقة في الذاكرة ومنها قصيدة راشد حسين
"الحب...والغيتو " 1963 . يفتتح راشد قصيدته بمقطع عنوانه
" يافا مدينتي " يقول فيه :
" مدافن الحشيش في "يافا " توزع الخدر
والطرق العجاف حبلى...بالذباب والضجر
وقلب يافا صامت...أغلقه حجر
وفي شوارع السماء...جنازة القمر
؟!؟!؟!؟!
؟!؟!؟!
يافا بلا قلب إذن! ؟
يافا بلا قمر !؟
يافا..دم على حجر ؟! "
ويافا التي رضع الشاعر من أثدائها حليب البرتقال تعطش وكانت أمواجها تسقي المطر . لقد شلت ذراعها هي المدينة التي كانت حديقة أشجارها الرجال . ولقد مسخت محششة توزع الخدر .
ولمن يجهل يافا فإنها كانت مدينة مهمتها " تصدير برتقال " ولكنها هدمت وحول الإسرائيليون مهنتها إلى مهنة تصدير لاجئين .
لقد زار راشد يافا ورآها مدينة أنقاض تنتشر فيها الجثث ، فالقتلى بلا رؤوس وبلا ركب .
وفي يافا يتعرف راشد على يافا الفتاة اليهودية التي هربت من النازي ونجت من المحرقة .
في 30/12/1966 نشر سميح القاسم في جريدة " الاتحاد " الحيفاوية تقريرا عن زيارة قام بها إلى يافا .
يفتتح سميح تقريره بالآتي :
"ريبورتاج من أقبية الحشيش وبار "المسجد " !
المعذبون في يافا "
يكتب سميح بأنه قدر عليه أن يذهب إلى يافا ليكتب عن مآسينا
" يافا التي كان اسمها مرادفا للعزة والسعادة والحياة...يافا التي كانت طيبة وشهية وغنية كالبرتقال..لماذا تصبح مثارا للشفقة ومنجما الحزن؟ " (ص 289 من السيرة الذاتية لسميح "إنها مجرد منفضة ").
الصورة التي تظهر في التقرير للمدينة تبدو قاتمة ، فالبيوت مهجورة وأهل المدينة الباقون عاطلون عن العمل والمخدرات منتشرة بينهم والوضع التعليمي في الحضيض والمدرسة الباقية للخمسة آلاف الباقين ، وهي مدرسة حسن عرفة ، تخرج لصوصا و :
" هانذا في يافا التي كانت أسماء شوارعها شعارات خصبة من تراثنا الخصب ، وكانت لافتاتها معرضا مشرقا للخطوط العربية ..من الكوفي إلى الرقعة إلى الديواني ..هذه يافا الباقية ..لافتات لامعة من النيون والفسفور على لافتات شاحبة تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد ".
ويدخل سميح إلى بيوت السكان في حي العجمي ليرى طبيعتها ، فالضيق والرطوبة والإهمال ، ومثل البيوت المقاهي والمقابر والمساجد .
مرة قلت إن الأدب الفلسطيني هو الوريث الحقيقي للشعر العربي القديم فيما يخص ظاهرة الوقوف على الأطلال ، وكتبت مقالا عن هذا واقترحته موضوعا لرسالة ماجستير .
إن تقرير سميح القاسم ، على أية حال ، يصلح أن يدرس تحت الموضوع المقترح .
ينهي سميح تقريره بالآتي :
"هذه هي يافا الباقية ..هذه هي المدينة التي كانت واحة خير وجمال على شاطيء البحر المتوسط .أصبحت حذاء عتيقا في مزبلة النظام القائم على العنصرية وكراهية العرب ودوس كرامتهم وإهانة موتاهم وتاريخهم ..ولكنها - كما قال مردخاي نمير - وصمة عار في جبين حكام إسرائيل "(299)
صورة يافا المشرقة قبل 1948 كتب عنها القاص أكرم هنية في قصته "دروب جميلة " ، وقد خصصتها قبل سنوات بمقالة خاصة لا أرى ضرورة لإعادة الكتابة عنها ثانية ، فهي مدرجة على موقع ديوان العرب وفي مقالاتي في جريدة الأيام الفلسطينية .
طبعا هناك عملان مهمان لكاتبين طالما كتبت عنهما لم تغب عنهما يافا ؛ الأول هو رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا "1969 والثاني هو عنوان قصيدة محمود درويش في رثاء "أبو علي إياد " "عائد إلى يافا" 1971 .
حضور يافا في رواية كنفاني كان موازيا لحضور حيفا ولكنه كان حضورا ثانويا ولذلك غاب عن الذاكرة وظل الحضور الأبرز لحيفا ، وأما في قصيدة درويش فقد كان التركيز على المرثي لا على المكان كون القصيدة قصيدة رثاء شخص بالدرجة الأولى ، وفيها تكون يافا " حقائب منسية في قطار ".
الكتابة عن يافا يطول وكان الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري قد زار المدينة قبل العام 1948 وخصها بقصيدة .
لا بد من صنعا وإن طال السفر ولا بد من زيارة يافا.


الأربعاء 17 نيسان 2018


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى