طه الهباهبه - صخرة الشوبك ودرب الشهداء

يقف جبل جوهر عاليا وشامخا شرق مدينة الخليل, وهو اعلى جبل في هذا المدينة المقدسة.
يقال أن جوهر الصقلي الذي بنى مدينة القاهرة مدفون في هذا الجبل.
يطل هذا الجبل على مدينة الخليل القديمة وكأنه يلقي عليها بظلاله ليحميها من أشعة الشمس, ولذلك يكون الحرم الإبراهيمي الشريف وشوارع المدينة القديمة في ظل ظليل في الفترة الصباحية من كل يوم.
لعل الشمس تستحي من المرور فوق الحرم الإبراهيمي الشريف فتختبأ خلف جبل جوهر وتتلكأ في الظهور إلا أنها تصعد الهوينا فتصل إلى كتف الجبل الشمالي وتقف هناك تحيطها هالة حمراء من الخجل وكأنها تستأذن من أبينا إبراهيم الخليل العبور في سماء مدينته وهي ترتل الآيات الكريمة.
بسم الله الرحمن الرحيم
( كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين* فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين* فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما افلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون* إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين).
بعدها تمشي الشمس في سماء الخليل وعندما تصل جبالها الغربية تتهادى مودعة تلك المدينة المقدسة وتتعمد في مياه البحر الأبيض وهي ترتل كلمات سيدنا إبراهيم ( رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الاصنام).
كان في حارة المشارقة شارع مفتوح على الشرق ولو مشيت فيه بخط مستقيم وتجاوزته لأخذت بالصعود على سفح جبل جوهر.
على احد جنبات هذا الشارع توجد صخرة كبيرة ملساء.
معظم زفات الشباب والبنات تجري في هذا الشارع وكانت اغانيهم المفضلة حول عائلة جابر وتاريخ هذه العائلة ورجالها المعروفين, ومن هذه الاغاني...
على الرباعية على الرباعية إحنا الشوابكة عزوة قوية
على الرباعية على الرباعية إحنا الشوابكة ما فينا الردية
إحنا الشوابكة ياهل الأمارا كلنا مناصب وشوارا
طاحوا فوازع وطلعوا زعازع الشوبكية بتحارب بهمة قوية
طاحوا المعارك ملثمين بالكوفية هزموا الاعادي الشوبكية.
عند الطرف الغربي للشارع مساحة كبيرة كان يسميها أهل الحارة " المقعد" حيث يقعد كبار السن ساندين ظهورهم على حيطانها وحيث كان يلعب ابنائهم واحفادهم أمامهم وقريبا من المقعد كان ديوان العائلة وهو بناء على الطراز العربي القديم ويسمونه " الساحه".
في احد الايام في عام 1966م, وفي الشهر الاخير من هذه السنة وكان يوم جمعه, حيث جرت العادة أن يتواجد جميع أهل الحارة من رجال وطلاب مدارس واطفال, وفي وقت العصر كان هذا الشارع عامر بأهله ويعج بالحركة والحياة واللعب, جاء الأستاذ سمور الاسعد وبيده علبه دهان اسود وفرشاة واخذ يكتب على الصخرة الكبيرة.
صخرة الشوبك
ميدان الشهيد محمد ضيف الله الهباهبة بطل معركة السموع.
وبعد أن إنتهى من الكتابة التف حوله بعض الصبية وسأل احدهم: من هو هذا البطل وما علاقتك به؟
فأجابهم : يا اولاد هذا ابن عمنا, إحنا والهباهبة أولاد عم, إحنا جينا من الشوبك وسكنا هنا ونحن نفتخر بهذا البطل ونرفع رأسنا عاليا به, نسمي هذه الساحة بإسمه ليكون قدوة لكم جميعا, قبل اسبوع كما سمعتم جرت معركة السموع واستشهد فيها عشرات الجنود من الجيش العربي وكان منهم الرائد محمد ضيف الله الهباهبة.
كان جبل جوهر العالي يطل على هذه الحارة وشوارعها من الشرق بهيبة ووقار وكانت مآذن الحرم الابراهيمي تتراءى من نوافذ واسطح المنازل من الغرب.
في هذه الساحة وفي هذه الطرقات سطرت بطولات وعاش ابطال.
لقد تركت معركة السموع جرحا بليغا في قلوب اهل الخليل, وقلوب كل سكان الاردن بشرقه وغربه, حيث أن الشهداء من الجيش العربي قتلوا غيلة وغدرا من العدو اللئيم الغدار, وحيث أن اليهود يتمادوا بطغيانهم واعتدائاتهم على المدن والقرى الحدودية.
ثم جاءت هزيمة ال 67 مزلزلة كيان كل فرد عربي وكان كل يوم يمر يتكرر معه نفس الاسئلة, لماذا هذا الضعف والخوار؟ لماذا يبقى اليهود الاقوى والاقدر؟ ولماذا يتمادون بظلمهم وطغيانهم ويستهزؤن بنا كبشر وامه.
من هذه الحارة, ومع هذه الاسئلة ولد ونشأ شباب كثر, احدهم شاب اسمه فايز جابر, وكان بطل عملية مطار عنتيبي في اوغندا، وبطل اخر كان ضابطا في الجيش العربي والتحق بالمقاومة بعد هزيمة ال67 وهو عبد الرحيم جابر الذي قام بعدة عمليات ضد الجيش المحتل ثم تم اسره في إحدى العمليات بعد أن نزفت دماؤه بعد اصابته واغمي عليه وفقد الوعي، وقامت السينما المصرية باخراج فلما يمثل بطولات هذا المقاوم.
احتل اليهود مدينة الخليل وبنوا مستعمره كريات اربعة قريبا من حارة المشارقة واحتلوا بيتا في الحارة بجانب صخرة الشوبك وحولوه إلى ثكنة عسكرية صغيرة للمراقبة والتفتيش.
كبرت كريات اربعة مع مرور الزمن وسكنها عتاة الصهاينة بالالاف واتخذوا هذا الشارع ممرا لهم ليوصلهم إلى الحرم الابراهيمي الشريف الذي حولوه إلى كنيس لهم، واخذوا يقيمون فيه صلواتهم ومزاميرهم وخصوصا صلوات ليلة السبت، وكانوا يمرون بجانب هذه الصخرة, صخرة الشوبك, صخرة الشهيد محمد ضيف الله الهباهبة.
لعل روحه سكنت وانغرست في هذه الصخرة مقاومة للاحتلال والقهر والذل، منتظرا أن يرى انتقاما له ولالاف المظلومين في هذا الشارع.
قبل أن تصل إلى هذا الشارع يوجد طريق يؤدي إلى بيار المحاور والى كريات اربعة وعلى جانبه الجنوبي ارض مزروعة بالزيتون الرومي الكثيف ولانه يمر في اراضي زراعية فان السلاسل الحجرية تحجب الرؤيا عن الذين يمشون في هذا الشارع.
هذه المنطقة جزء من وادي النصارى الذي يحد المدينة القديمة شرقا من الشمال إلى الجنوب.
كانت مجموعات اليهود تأتي من كريات اربعة تحت حراسه مشدده من الجيش الاسرائيلي بالاضافة إلى انهم هم انفسهم يحملون السلاح, كانت هذه المجموعات تمر من هذا الطريق إلى حارة المشارقة وبجانب صخرة الشهداء ومن حارة المشارقة إلى الحرم الابراهيمي الشريف.
شاء القدر أن تخطط مجموعتان من المقاومة العربية بدون أن تعلم احداهما عن الاخرى لضرب هذه المجموعات اليهودية في ليلة سبت وان تكمن لها في وادي النصارى القريب من شارع الشهيد محمد ضيف الله الهباهبه خلف السلاسل الحجرية وبين اشجار الزيتون الكثيفة ولكن مكانين مختلفين وبفارق بسيط في التوقيت.
مرت هذه القافلة تحرسها قوة عسكرية اسرائيلية وعلى راسها قائد المنطقة الوسطى وعندما وصلت إلى اشجار الزيتون خرج عليها المقاومون وقتلوا عددا كبيرا منهم ثم لاذوا بالفرار.
من بقي من اليهود استنجدوا باليهود المتواجدين في كريات اربعة ففزعوا اليهم باعداد كبيرة.
المجموعة الثانية من المقاومين كانوا في تلك المنطقة ولم يفهموا ماذا يجري حولهم ولم يعرفوا سبب اطلاق النار الكثيف قريبا منهم ولكنهم بقوا متربصين ورابضين في كمينهم وفجأة وجدوا انفسهم بجانب مئات من المستوطنين والجنود اليهود فأفرغوا اسلحتهم والقوا قنابلهم وصبوا نيرانهم عليهم, مما أوقع خسائر اضافية اكبر في المستوطنيين اليهود, ومن معهم من الجنود ومن ضمنهم قائد المنطقة الوسطى الذي وقع قتيلا.
لم تعد الحروف الممحية على صخرة الشوبك, صخرة الشهداء تبين اسم البطل الذي استشهد في معركة السموع فهذه الصخرة الشماء تريد أن يكتب عليها اسماء عشرات الشهداء وتريد أن تكون لوحة شرف للاتي من الشهداء..
لم تعد الحروف الممحية على صخرة الشوبك تبين اسم البطل الذي استشهد في معركة السموع، فمعركة السموع وابطالها انمحت من ذاكرة الناس كما انمحى المسجد الاقصى والحرم الابراهيمي وتاريخ طويل من ذاكرة الاجيال الحديثة.
ليت للاستاذ سمور الاسعد الذي توفي قبل سنين طريقة ليحفر التاريخ في عقول طلاب المدارس ويكتب ملحمة بطولات الشهداء على شغاف قلوبهم.
درب الشهداء لا يمشى باتجاه واحد، وانما هو كالشمس ترسل اشعتها في جميع الاتجاهات.
درب الشهداء يبدأ من المناطق المظلومة المحتلة حيث الذل والقهر والظلم والاغتصاب ومنه تخرج خيوط الشعاع لتسقط على قلب كل مؤمن, على قلب كل إنسان تختزن فيه معاني الانسانية والقيم الاسلامية والعربية والاوامر الالهية, على قلب كل حر متحرر من الخنوع والضعف والاستكانة والخوف والتهديد.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى