عزت القمحاوي - تسعون طبقًا متشابهًا وغير متشابه

لم أشأ أن أحدِّثك في الرسالة السابقة عن إحدى وتسعين طبخة في «ألف ليلة وليلة» تخصان امرأتين نادرتين خفت أن يضيع ذكرهما بين العاشقين والطهاة، إحداهما جارية صارت سلطانة وأوفى عاشقة، والثانية زوجة لبقة وأمهر طاهية.

فأما السلطانة العاشقة فهي الجارية زمردة التي اختارت مالكها بدلاً من أن يختارها على جري العادة. اشترطت على مالكها ألا يبيعها إلا لمن تختاره هي. وعندما وقف بها في السوق أطار جمالها الخارق عقول المشترين فأوصلوا سعرها إلى فوق الألف دينار، ولكنها اختارت الشاب الجميل علي شير، وهو من فارس أنفق كل ما ورثه بعد وفاة أبيه التاجر الثري. وتعجب الفتى لأنه لا يملك حتى مائة دينار؛ فأصرَّت عليه وانتحت به جانبًا، وفكت كيسًا من صدرها أعطته منه ألف دينار ليشتريها!

وعاشا في هناءة لمدة عام، اشتغلت بالتطريز، وكانت رسومها تسلب الألباب. تُطرِّز الستر وتعطيه له ليبيعه بالسوق بمئة دينار. ولأنها تعرف أنه محسود عليها ممن رغبوا في شرائها ولم ينالوها، حذَّرته من الزبائن الغامضين، لكنه وقع في فخ برسوم النصراني، الذي اشترى منه السِتر وتبعه حتى بيته، واحتال عليه طالبًا شربة ماء، ثم احتال ليأكل معه «ليكون بينهما عيش وملح» ودس له مخدرًا في نصف موزة، فنام علي ودخل برسوم إلى زمردة فاختطفها لصالح شقيقه الثري رشيدالدين الناخوذ (لعله نوخذة أي البحَّار تاجر اللؤلؤ) وبعد أن أفاق علي في اليوم التالي أصابه الجنون، ورقت له دلالة وقررت مساعدته ودخلت ببضاعتها من الحلي إلى قصر التاجر، واتفقت مع زمردة على موعد ينتظرها فيه علي وتدلي له نفسها من النافذة، وبينما ينتظرها أخذته غفوة، وبينما كان اللص جوان الكردي يحاول سرقة القصر فوجئ بزمردة تنزل إليه مع ما استطاعت حمله من ذهب وجواهر، ثم حملها إلى مغارة في حراسة أمه. وتغافل زمردة المرأة العجوز وتهرب في ثياب وسلاح جندي فوق ظهر حصانه. وكان جوان قد قتل الجندي وسلبه أشياءه، وبينما هي سائرة تصل إلى مدينة يقف أمامها الجند فهتفوا بها سلطانًا للمدينة!

أعلمها الجند أن هذه المدينة إذا مات سلطانها ولم يكن له ولد، يقف الجند ببابها ثلاثة أيام يترقبون أول عابر فيولونه سلطانًا. وبعد عام من الحكم متنكرة في هيئة رجل أحبها الناس لعدلها . ومثلما تعرفت أم الوزير حسن نور الدين على ابنها من سلطانية حب الرُمان تعرفت زمردة على حبيبها واصطادت أعداءها بطبق أرز حلو، لكنها سلطانة، لا تخرج لتسأل الناس؛ بل يجب أن يأتي العدو والحبيب إلى فخها!

وأمرت ببناء قبة ضخمة، وأمرت بإغلاق كل البيوت والحوانيت ومد سماط ضخم تحت القبة يأكل فيه كل سكان المدينة يومًا كل شهر، بينما تراقبهم لتكشف الغريب الذي لن يجد مكانًا يأكل فيه سوى مطعم السلطان!

أول من وقع في الفخ كان برسوم، عرفته لأنه أكل من طبق الأرز الحُلو، الذي يتجنبه سكان المدينة لأنه طعام الأمراء، فأمرت بإحضاره، وبعد مواجهته أمرت بسلخه وحشو جلده تبنًا وتعليقه على باب المدينة، وحرق لحمه وعظامه ودفنها تحت الوسخ. وفي وليمة أخرى وقع اللص الكردي وفي ثالثة وقع رشيد، وفعلت بهما مثلما فعلت بالأول، وفي وليمة رابعة وصل الحبيب، وتوجه إلى طبق الأرز الذي لا يجلس إليه أحد، فأمرت بأن يؤتى به إليها في رفق دون ترويع، وتعجبت الحاشية من المعاملة المختلفة، وأمرت له بحمام وراحة ثم يؤتى به إليها في المساء. وكان بينهما لقاء مفعم بالفكاهة والإثارة عبر أنواع من الإرجاء وترك العنان للجسد لاكتشاف الآخر، إذ أمرته أولاً بأن ينام على بطنه فقال لها «هذا شيء عمري ما فعلته وأطالبك به يوم القيامة» لكنه يستحق هذه الممازحة عقابًا على غفلته عنها وإضاعته إياها مرة بعد مرة. بالخوف امتثل ونام كما أمرته، ولم يلبث أن استراح إلى أن السلطان لم ينتصب عليه، ثم تعرَّف على نعومة الأنوثة فوق ظهره، وبعد هذه الملاعبات يتعارفات، بينما بعض الحاشية يسترقون السمع ذاهلين، لأن مليكهم العادل فوق ضيفه، ثم يرونه يغير موضعه، ويكتشفون أنه أنثى!

والصباح أنابت زمردة نائبًا وقالت إنها خارجة لتفقد بعض البلاد، وعادت مع حبيبها إلى بغداد في أسهل واقعة تنحٍ عن السلطة. والطريف أن الليالي لا تهتم بذكر الاسم الذي حكمت به زمردة هذه المدينة. وهذه ليست هفوة في السرد؛ فالرعية دانت بالطاعة لأول عابر سبيل، ولم تكتشف أن عابر السبيل الذي أصبح سلطانها أنثى، ورعية مثل تلك لا تستحق أن توليها شهرزاد عناء تدبير اسم لسلطانها!

هذا ما كان من أمر زمردة التي عاشت مع حبيب أقرب إلى الأبله، أضاع ثروته ثم أضاع حبيبته مرة بعد مرة، وتولت هي القيادة من الأول إلي أن فرقهما هادم اللذات، وأما الزوجة والطاهية الأمهر في ألف ليلة كلها؛ فقد لمحها ملك عظيم الشأن فاشتاقت إليها نفسُه، ولما سأل عنها قيل له إنها زوجة وزيره؛ فكلَّف الوزير بمهمة سفر، واحتال للدخول إليها؛ فلما رأته زوجة قبَّلت الأرض بين يديه ورحبت به كما يليق بملك، حتى ولو كان متحرشًا!

بثها أشواقه فحاولت صده بالتقليل من شأن نفسها كما تفعل امرأة عفيفة خائفة «إنني لا أصلح خادمة لأقل جواري الملك، وإن لي والله الحظ العظيم حيث وقعت في خاطر الملك بهذه المنزلة» ولما رأته يمد يده، قالت له فلينعم الملك على جاريته ويقيم عندها في اليوم حتى أصنع له شيئًا يأكله ويشربه.

وأتت له بكتاب فيه مواعظ، ريثما أعدت له طعامًا من تسعين لونًا قدَّمته إليه في تسعين صحنًا مصحَّفًا بالذهب؛ فجعل يأكل من كل صحن لقمة فوجد الطعم واحد فتعجب من ذلك، فقالت له يا أيها الملك هذا مثلٌ ضربته لك؛ لأن في قصرك تسعين جارية مختلفات الألوان وطعمهن واحد فخجل الملك منها ولم يتعرض لها بسوء. وعندما عاد إلى قصره اكتشف أنه نسي خاتمه تحت الوسادة؛ فاستحى أن يطلبه.

لا نعرف كيف جعلت هذه المرأة التسعين لونًا من الطعام بطعم واحد، لكي تصنع أمثولة تُعلِّم بها الملك العفة!

أية توابل استخدمت وبأية كمية؟ أية طريقة للطهي؟ هل كانت الأطباق من نوع واحد أضافت إليه الألوان؟ تسكت الليالي في مواقف حاسمة كهذه، لكننا، وإن لم نتمكن من معرفة سر الطبخة لدى زوجة الوزير المخلصة، فبوسعنا أن نتبين بسهولة سر الصنعة الأدبية في حكايتها المُنكَّهة بأفضل توابل الكتابة، من أول جملة: «اعلم أيها الملك العظيم أنه كان ملك من الملوك، وكان عظيم الشأن مغرمًا بحب النسوان كثير الولوع بهن؛ فبينما هو ذات يوم في قصره إذ نظر إلى جارية على سطح دارها…».

ولنا أن نقارن هذه البداية بمطالع الليالي الأولى المتسمة بالحذر. لقد اقتربنا من نهاية الرواية، وتوطدت العلاقة بما يسمح بهذه البداية التهكمية؛ فالملك المروي عليه عظيم، والملك المروي عنه عظيم محب للنسوان، يسترق النظر ويبصبص للنساء فوق السطوح المجاورة، وكأنها تقول له: انتبه يا شهريار، ما أنتم معشر الملوك سوى رجال، ما أنت سوى رجل! تصرف كرجل واعلم أن حب النساء لن يقلل من عظمتك شيئًا.

لكن الوزير ليس في شجاعة شهرزاد، فقد عثر بعدما عاد على خاتم الملك تحت وسادته؛ فصار متأكدًا من الخيانة، وأصابه الغم، لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا للملك، وحمَّل امرأته المسئولية. لم يقتلها كما فعل الخيَّاط في قصة التفاحات الثلاث. كان الهجر في الفراش أقصى ما يستطيعه ضد خليلة ملك!

بوسعنا أن نُفكِّر هنا بأن الشرف والأخلاق قضايا نسبية تعتمد على موازين القوة بين الجارح والمجروح؛ فلو جرت الأمور بالعكس وكانت الخيانة من الوزير للملك لانتهت القصة بذبحه والملكة، وربما كان ملك القصة قد احترف ذبح النساء ليصبح ثالث ملوك الليالي الذي يتخذ القتل حرفة بعد شهريار وأخيه (سننتظر حتى خاتمة الليالي لنعرف أن شاه زمان عندما عاد إلى مملكته استمر في قتل امرأة كل ليلة على مدار الألف ليلة، بينما توقف شهريار بفضل حكايات شهرزاد).

تحملت امرأة الوزير العفيفة عامًا من الهجر، ثم شكت إلى أبيها، فصعد يشكو الوزير عند الملك فوجده بين يديه. ولابد من المجاز عند الحديث عن شأن كهذا في الطبقة الراقية. قال الوالد «أصلح الله الملك، إنه كانت لي روضة حسنة غرستها بيدي وأنفقت عليها من مالي حتى أثمرت ووجب اجتنايها فأهديتها لوزيرك هذا فأكل منها ما طاب له ثم رفضها وزهد فيها فتيبست وذهب رونقها وجفت زهرتها وتغيرت حالتها».

ودافع الوزير عن نفسه بما يحفظ مقام الملك، معترفًا بهجر روضته بعد أن دخلها فوجد فيها أثر الأسد؛ فخاف على نفسه منه فانعزل عنها. وفهم الملك أن أثر ملك الغابة الذي يعنيه الوزير هو خاتمه الذي نسيه واستحى أن يطلبه، فقال له «إرجع إلى روضتك وأنت آمن مطمئن فإن الأسد ما بقي بقربها وقد بلغني أنه دخل إليها ولكنه لم يتعرض لها بسوء ولا حصل مكروه».

ليس هناك ما يغري في البحث عن أسرار مطبخ زوجة الوزير؛ فليس من الحكمة اكتساب مهارة إعداد تسعين طبخة تنتهي إلى طعم واحد، فالصنف الذي يشابه تسعين صنفًا يساوي أنه بلا طعم. لا يبني ذكريات ـ بل على العكس ـ يشوش ذاكرة حليمات اللسان، لكنني عندما أعود سأعمل لك أرزًا بالحليب. وهذا طبق يبدو سهلاً لكن إعداده يحتاج إلى مهارة خاصة، بحيث يبقى بعد تبريده لينًا لا يابسًا ولا مِرقًا.

المقادير:

٥٠٠ جرام حليب.
١٠٠ جرام أرز.
٧٠ جرامًا سكر.
قطعة زبدة أو قشدة صغيرة.

يُفضل نقع الأرز نحو ساعة قبل الإعداد، ومداومة التقليب على النار حتى النُضج. ثم يُصب في أطباق صغيرة.

وأما التاج وزينة السطح، فإمكانياته غير متناهية، من فواكه كالفراولة وحب الرمان، إلى مجروش الفول السوداني أو جوزة الهند والزبيب، أو مجروش الفستق وغيره من المكسرات أومطحون القرفة طبعًا، أو فواكه حمضية كالفراولة وحب الرمان لمن يريد معادلة الطري بالجاف. ويمكن التزيين بالقشدة لهواة الرطوبة المباركة ، حيث تعثر اللسان في الأكل أفضل من عثراته في الكلام، على أن يُضاف تاج القشدة بعد أن يبرد الأرز.

سرُنا الصغير، في هذه الطريقة، بالطبع، هو الكف عن التقليب قبل النضج بدقائق، كي نتناوش حول من يأكل كشطة الشِياط البنية المززة في قاع الحلة؛ مثلما نتهاوش على طبقة الشِياط في المحشي، والأمر في هذه الحالة أكثر إلحاحًا؛ فالأرز باللبن لا تتعادل حلاوته وبرودته إلا بمزازة وحرارة الآكلين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى