فؤاد بن أحمد - محمد عابد الجابري.. الذي في خاطري ( شهادة)

بعد مرور عقد على وفاته، ما يزال الجابري واحدا من المعاني الكبرى في ذاكرتي.
بفضل أساتذتي، عائشة امجاهد وبيت المال عبد الغني (رحمه الله) وعبد القادر الحديني، لمادتي الفلسفة والعربية في ثانوية علال الفاسي بطنجة أدركت خطورة كتب محمد عابد الجابري وأثرها على المرء... وبما أني قد كررت سنة البكالوريا، وتُبت عما كنت فيه، فقد زرت الرباط لاقتناء ما لم يكن بحوزتي من كتبه التي كانت قد صدرت إلى حدود بداية التسعينيات. هذا، وقد كنت اقتنيت تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي وكتبا أخرى له بثمن بخس من بائع كتب متجول بحي الإدريسية بطنجة... وأغرب ما في هذه الكتب هو أنها كانت مختومة بطابع ما.. أتحفظ عن ذكر اسم صاحبه، لكني في لحظة ما ظننت أنها ربما سُرقت منه.. لتُباع لمغفل مثلي. وإلى هذا، فقد كنت أتابع سلسلة الجابري عن " المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد"... في جريدة تصدر من لندن.
ولا أخفي أن شعبة الفلسفة قد مارست سحرا علي بفضل كتب الجابري وشهرته ؛ كنت أتصور الشعبة فضاءً أنيقا للحوار بين المفكرين الكبار بخصوص قضايا رفيعة يمكن لاهتمامي بها أن يرفعني من المتاهات والضلال الذي كنت أعيشه بمدينة خطيرة... وقد ترسخ في ذهني هذا، بعد أن كنت قد قرأت حوار المشرق والمغرب للجابري مع حسن حنفي، وبعد ما تعرفت إلى الأستاذ طه عبد الرحمن بطنجة حيث قدم لأول مرة كتابه الهام تجديد المنهج في تقويم التراث. وبعد الانتهاء من المناقشات كانت سعادتي لا توصف عندما وقع لي كتابه الذي أحتفظ به إلى اليوم بالعبارة التالية: ”... اسأل الله أن يرزقك علما نافعا لك ولغيرك... طه عبد الرحمان ... الطيارات... الرباط... الهاتف...“ والحق أني لم أكن أنظر إلى كتاب عبد الرحمن على أن تنقيص من مكانة الجابري، بل كنت أعتبر الكتاب طرفا من حوار عقلاء؛ وما أزال على هذه العقيدة... على الرغم من فقداني الأمل في قيام نقد بناء بين ذوات على قيد الحياة. وهذا الحوار بين عبد الرحمن والجابري، وإن فهمت بعد ذلك أنه يحمل أبعادا ومحركات أخرى لا توجد في النصوص، لم يكن في تقديري شخصيا ولا حزبيا ولا هو يمثل صراع تيار الدولة وتيار المعارضة... بل أكثر من ذلك، كنت أتمنى لو أن كل المختلفين إيديولوجيا ومعرفيا يترجمون خلافاتهم تلك إلى كتابات نطلع عليها نحن في صفحات الكتب والمجلات بدل كلام المقاهي ونهج سياسة الدسائس والضرب تحت الحزام. ولكم كان أسفي شديدا لكون تجديد المنهج قد جاء في وقت كان الجابري قد قطع نهائيا مع ثقافة الردود على الاعتراضات.
وفي كل الأحوال، يجب أن أقول: كان يكفيني أن يوجد محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن في شعبة الفلسفة لأزداد اقتناعا بصواب الاختيار... رغم صعوبة الحديث عن اختيار في حالتي بالذات. وأهم ما في الأمر أني قد ولجت شعبة الفلسفة طالبا وقد تخلصت، بفضله، من النزعات والبذور المادية التي كان حسين مروة والطيب تيزيني رحمهما الله يزرعانها فينا رغما عنا وعن الموضوع...لقد عرف الجابري كيف يمسح طاولة التراث من المقاربات ” الميكانيكية“، ويفسح المجال لمقاربته -التي ألفت بين التحليل ” الأيديولوجي الواعي“ والنظرين الإبيستمولوجي والتاريخي- بما لها وما عليها.
أما السحر الحقيقي فهو ذاك الذي عشته طالبا في السنة أولى بشعبة الفلسفة؛ وقد تصادف ذات يوم من أيام أكتوبر أن نظمت الجمعية الفلسفية المغربية ( برئاسة الراحل الفاضل الطاهر وعزيز) يوما دراسيا عن راهن الفكر الفلسفي في المغرب، وقد كان الجابري واحدا من المشاركين. لم يخطر ببالي حينئذ أن أذهب وأصافحه ولا أن آخذ صورة معه...؛ كان يكفيني أن أنصت -من مقعدي بمدرج ابن خلدون الذي امتلأ عن آخره- إلى ما يقول وهو يتحدث عن كيف خنق المستشرقون والمؤرخون الأوروبيون الفكر الفلسفي في الإسلام وجعلوه رهينة... أذكر أني لم أنم تلك الليلة إلا بعد أن أتيت على جزء من كتابه، التراث والحداثة، الذي كان يتقاطع مع هذه المحاضرة.
مع مرور السنوات الجامعية بدأ الجابري يخرج من إطار المدرس العادي إلى الأستاذ الرمز والقدوة... والحق أن هذه المكانة لم تكن إلا لقلة من الأساتذة الذين، رغم صرامتهم عنفهم اللغوي أحيانا، كنا نكن لهم من الحب والتقدير الشيء الكثير؛ ولم يكن الجابري عنيفا ولا قاسيا، بل كان معلما كبيرا... بشغبنا حينئذ كنا نلقبه احتراما " با جْبُّور"... وكان يثير انتباهنا بلباسه الأنيق والبسيط ( كنا نتصور أنه يقتني دزينة قمصان وتريكوات من نفس الطراز ولكن بألوان موحدة مختلفة). وإلى ذلك، كان الجابري مدرسا رفيع المستوى؛ لذلك كنا نحرص على متابعة حصصه ومحاضراته ومناقشاته للرسائل الجامعية التي كانت حفلات معرفية حقيقية قد تمتد لست ساعات؛ ولا أزال أحتفظ بتسجيلات صوتية له إلى اليوم. وأذكر أن حصصه كانت تمر كالبرق لكن ثمراتها كانت كثيرة جدا. وأهم ما فيها قدرته العجيبة على احتضان أسئلتي واعتراضاتي التي كنت أوجهها إليه بكل ما أملك من زاد متواضع وسذاجة، لكن باحترام وصدق كاملين. ذات يوم أثرت السؤال عن مشكل الجسد في الثقافتين العربية والإسلامية... وقد أطلت النقاش...كانت أجوبته بالنسبة إلي بمثابة محفز لمزيد من الأسئلة، لا غير. بعد الانتهاء من الحصة نادى علي، فسألني السؤال الذي أحكيه هنا أول مرة علنا: ” هل أنت متزوج؟“ قلت: ” لا“ وأنا أضحك... فأضاف ” هناك حديث يقول ما معناه: ’ ادع الله أن يهبك بكرا تداعبها وتداعبك‘... هذا لتأخذ فكرة عن مكانة الجسد في الثقافة الإسلامية...“ شكرته فغادرت كالسكران...
كان حبي للأستاذ الجابري كبيرا حتى أن فكرة تقاعده كانت تزعجني... كما كانت تزعجني فكرة انتهاء الموسم الجامعي الذي يمتد سنة كاملة. أتذكر حادثا ذات يوم جمعة، وقد كان الموسم الجامعي أوشك على الانتهاء... والجابري يأتي من الدار البيضاء إلى الرباط بسيارة البوجو الكوبي... عند نهاية الحصة خاطبنا: ” الإخوان، يجب أن تخبروني بخصوص الأسبوع القادم، إن كنتم حاضرين سآتي... وإلا فهذه آخر حصة“... عم صمت ولم أستطع أن أقول: ” إننا سنأتي أستاذ“. إحدى الطالبات تسرعت فقالت: ” لا أستاذ لا داعي لأن تأتي لأننا لن نأتي“ (بالمغربية=لا صافي أوستاذ بلا ما تجي، حنا مغنكونوش...). أذكر جيدا أن رد فعلي تجاهها كان فضا بسبب من هذا الكلام الذي ظهر لي أنه ضرب صريح من الجهل بمكانة الرجل (وأعتذر لها الآن بشدة بسبب من انفعالي). وبالفعل كانت تلك آخر حصة. لكني سعدت كثيرا عندما كان الجابري ضمن الفريق الذي درّسنا في وحدة التكوين والبحث في سنوات التعليم العالي. لقد كانت حصصه ورشة حقيقية للدرس الفلسفي بنصوصه ونقاشه...ولم يكن ثمة من خروج عن النص، اللهم إلا من قبل بعضنا، فيضطر هو بهدوء المعلم أن يعيدنا إلى رشدنا. ولا أذكر أن الجابري أتى على ذكر اسم زميل له أو منتقد له...وعلى الرغم من إلحاحنا على إثارة الانتباه إلى بعض اعتراضات طرابيشي وطه عبد الرحمن بل ومحاولة الاعتراض عليه بأفكار دارسين آخرين...كان يتعامل بالكثير من الحكمة. هذا طبعا بعد أن يكون قد ختم الدرس؛ الذي كان عندنا أشبه بالصلاة.
يوم 3 ماي 2010 توفي محمد عابد الجابري. ذهبت إلى بيته ببولو بالدار البيضاء رفقة الأستاذين والصديقين حمو النقاري وبناصر البعزاتي لتقديم العزاء لأخيه ولزوجته الكريمة... أذكر أني سجلت في بيته تصريحا بالريفية للإذاعة أو ربما للقناة الأمازيغية... لا أذكر تحديدا.
أشرف الجابري على العديد من الرسائل، وأطر أجيالا بكاملها: سالم يفوت، عبد السلام بنعبد العالي، سعيد بنسعيد العلوي، محمد المصباحي، جمال الدين العلوي... وتأثر بفكره وبدعاواه الكثير من الدارسين... وكتبت عنه المئات من الدراسات بلغات مختلفة... وتتوفر خزانة الملك عبد العزيز بالدار البيضاء وحدها على 880 مادة بخصوص الجابري؛ وهو رقم غير مسبوق في الفكر ” العربي“ الحديث. وهذا وحده ينم عن كم النقاش الذي أثاره الرجل منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي وما يزال النقاش حادا إلى اليوم.
كم أتمنى أن تٌقرأ كتبه ودراساته قبل أن تنتقد ويُعترض عليها؛ ولكم أتمنى أن يفعل الناس هذا بطريقة تليق بالجابري وبما قدم للفكر المغربي والعربي معا...بالطريقة ذاتها التي نهج طه عبد الرحمن وجورج طرابيشي وهشام غصيب ومريم السبتي...أو بأفضل وأقوى منها.
لم تكن علاقتي بالجابري شخصية ولا معرفية، لقد كانت معنوية... لذلك فضلت أن أتحدث عن الجابري-المعنى في شهادتي هذه من منطلق ذاتي على هوان ما أنا عليه.

سلام الله عليك... ”با جبور“.

فؤاد بن أحمد

جامعة القرويين-الرباط

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى