كلمات وإشارات -2- عبد القادر زمامة

4- تفسير من غرناطة:
كانت علوم القرآن الكريم ملتقى الكفاءات والعبقريات العلمية واللغوية والأدبية في مختلف البقاع ومختلف القرون عند المسلمين.
وهذه غرناطة في ظل دولة بني الأحمر، وفي العقود الأخيرة من القرن الثامن الهجري تشاهد عالما لغويا مفسرا يسهم بمؤلف جيد في فرع من فروع علوم القرآن، وهو فرعه يسميه العلماء، مبهمات، القرآن. وقد خصص جلال الدين السيوطي في كتابه: «الإتقان» حيزا لهذه المبهمات وأسباب ورودها في الذكر الحكيم..! وذكر المؤلفين الذين ألفوا في هذا الموضوع... ومن جملتهم:
* أبو القاسم عبد الرحمن السعيلي. دفين مراكش، وصاحب «الروض الأنف» المتوفي سنة 581هـ.
* وأبو عبد الله ابن عسكر الأندلسي المالقي المتوفى سنة 636هـ.
* وأبو عبد الله ابن جماعة المتوفي سنة 733هـ.
ولم يذكر المؤلف الغرناطي محمد بن علي البلنسي المتوفى سنة 782هـ الذي سنشير إليه، وإلى كتابه الذي طبع قريبا... وهو في موضوع المبهمات في القرآن الكريم...
فالكتاب يحمل عنوان: «صلة الجمع وعائد التذييل لموصول كتابي: الإعلام والتكميل».
والمؤلف الغرناطي يشير بهذا العنوان الطويل إلى أنه استدرك مبهمات قرآنية لم يشر إليها أبو القاسم السهيلي في كتاب: «التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام».
كما أن ابن عسكر المالقي الذي استدرك على السهيلي ما فاته من المبهمات القرآنية ولم يشر إليها في كتاب: «التكميل والإتمام لكتاب التعريف والإعلام».
وبذلك ندرك أن المؤلف أبا عبد الله البلنسي الغرناطي جمع في كتابه هذا بين ما جمعه السهيلي وابن عسكر. وما استدركه عليهما من مبهمات استخلصها من تتبع دقيق لآيات وسور القرآن الكريم، وما جاء في كتب التفسير والسنة واللغة مع دقة وتثبت وذوق وعمق في الفهم والتحليل وإشارة إلى المصادر التي نقل منها: تفسير وسنة ولغة ونحوا في غالب الأحيان.
وكل ذلك يعكس ما لهذا المفسر الغرناطي من ثقافة قرآنية واسعة الآفاق. كما وضع أمامنا بعمله في هذا الكتاب نماذج حية مما كتبه الأندلسيون في علوم التفسير شكلا ومضمونا.
وقد عرف المؤرخون لأبي عبد الله البلنسي الغرناطي مكانته العلمية في عصره فأعطوه صورة عن اهتماماته، وأساتذته وتلامذته. وكذلك فعل مؤلفو كتب الطبقات في المشرق والمغرب.
فمنذ عرفه لسان الدين ابن الخطيب شخصيا وأثنى عليه في «الإحاطة» تتابع الحديث عنه عند تلميذه:
* أبي إسحاق الشاطبي مؤلف «الاعتصام» و«الموافقات» و«الإنشادات والإفادات».
* وأب يعبد الله محمد بن عبد الملك المنتوري صاحب «الفهرسة» الشهيرة..!
وكذلك فعل ابن حجر في «الدرر الكامنة» وأحمد بابا التنبكتي في «نيل الابتهاج» وابن القاضي في «درة الحجال» وغيرهم. وكتاب «الصلة» كتاب ضخم في جزئين كبيرين تتبع المؤلف فيهما قضية: المبهمات القرآنية، من سورة «البقرة» إلى سور «الناس» مستعينا بكتب السيرة والتفسير والحديث واللغة والنحو. مع استطرادات لها صلة مباشرة أو غير مباشرة بالموضوع، ومناقشات للسهيلي. وابن عسكر وغيرهما من اللغويين والنحاة والمفسرين والفقهاء.
ونُقُولُهُ من «المحرر الوجيز» لابن عطية و«الكشاف» للزمخشري ظاهرة للعيان في كثير من صفحات الكتاب مع مناقشة ونقد إيضاح وضبط الأسماء وما إلى ذلك. ولم يخل كتاب «الصلة» من الأشياء التي وقع فيها بعض المفسرين المهتمين بالقصص كالثعلبي... مما يرجع إلى الإسرائيليات... والأخبار الواهية والغرائب... ولكن ذلك قليل... !!وهي في كتب أخرى أكثر مما هي في كتاب الصلة للمفسر البلنسي الغرناطي.
والكتاب ظل في عالم المخطوطات الأندلسية المتنوعة إلى أن حظي بدراسة وتحقيق الدكتور حنيف بن حسين القاسمي الذي تقدم بعمله هذا لنيل شهادة «ماجستير» من كلية الشريعة بجامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية سنة 1407هـ/1986م.
والمحقق الدارس اهتم بالنص اهتماما كبيرا وعلق على ما جاء فيه من أعلام وأقوال وأحاديث وأفكار وتعليقات متعددة ومتنوعة زادت النص إيضاحا، كما أفادت قراء الكتاب بمعلومات نقلها المحقق من مصادر شتى.
وقد صدر هذا الكتاب الأندلسي عن «دار الغرب الإسلامي» ببيروت سنة 1411هـ/1991م في حلة جميلة وطبع جيد، وفهارس للأعلام الجغرافية والإنسانية والأحاديث والكتب المذكورة في النص مع قائمة المصادر والمراجع المخطوطة والمطبوعة التي استعان بها المحقق الدارس...!
وبذلك أخد كتاب «الصلة» وكان المرموق في قائمة كتب التفسير القرآني التي ألفها علماء الأندلس مثل:
* ابن عطية...
*والقرطبي...
*وابن الزبير...
* وأبي حيان...
وغيرهم ممن أسهم في الدراسات القرآنية والعلوم القرآنية بمؤلفات جيدة.

5- ضاق درعا:
عندما تلجئ الإنسان ضرورة ما لسماع حوار لا يستند على «فهم» موضوعي للكلمات والتعابير يكون من الصعب عليه أن «يتدخل» لرد المتحاورين إلى «تحديد» المعاني والمفاهيم...! رعيا للحقيقة.
وهذا ما حدث لي مصادفة وأنا أسمع إلى مجلس حوار «نقدي» حول نص أدبي كان من ضمنه تعبير: «ضاق درعا» فالحوار تنال «شكلا» التعبير... من غير تعمق في أصله ومضمونه... وهذا ما جعل الحوار يدور في حلقة مفرغة... عقيمة الإنتاج...! بعيدة عن الحقيقة...!
مع أن الأصل الأصيل لهذه العبارة المتداولة على الألسنة والأقدام شعرا ونثرا منذ قرون لا يخلو من طرافة...! نتيجة للبيئة المحيطة بحياة الصحراء...! وطبيعة التعامل مع الأشياء المستعملة عند سكانها القدماء...
فالإبل هي سفن الصحراء... والبعير هو مطية الإنسان هناك في السلم والحرب والليل والنهار. وهو في الوقت نفسه حامل أسبابه وأثقاله، في أسفاره المتعددة قريبة وبعيدة...! وحيدا أو مع القافلة... !
والمشاهد المعروف هو أن البعير إذا حمل ما لا طاقة له بحمله من الأسباب والأثقال، صعب عليه ذلك، وصار يئن ويترنح... وصارت خطواته «تتسع»، وسيرة يميل إلى السرعة بسبب اتساع خطوه، فالذّرع الوارد في هذا التعبير: «ضاق ذرعا» هو مصدر، وفعله «ذَرَعَ» بمعنى: قاس. فقد كانوا يبسطون الذراع ليقيسوا بها الأشياء من حبال وأثواب وغيرها... لهذا أخذ الفعل معنى قاس. ثم معنى سار في الأرض... !
فالبعير يذرع الأرض أي إنه يحرك قوائمه ويخطو فكأنه يستعمل قوائمه لذرع الأرض وقياسها. كما يستعمل الإنسان ذراعه لقياس الأشياء لمعرفة طولها وامتدادها..
وامتد الاستعمال إلى الإنسان فقيل: هو يذرع الأرض طولا وعرضا بمعنى أنه يمشي فيها، فكأن ذلك المشي بمنزلة الذرع والقياس لأبعاد الأرض..
وإذا رجعنا إلى عبارة:
«ضاق فلان ذرعا بكذا»
وجدنا تدل على أنه في حالة من الشدة والحرج، وأنه لا يستطيع خلاصا مما نزل به، وأن السبل انغلقت في وجهه، ولا قدرة له على التحمل والمعاناة. ! فحالته شبيهة بحالة ذلك البعير الذي حمل فوق طاقته، فلم يستطع متابعة السير. ولا مد الخطى...، وحتى إذا خطى فإنما يخطو بترنح وضيق وبطء... !!
وقد وردت هذه العبارة في الذكر الحكيم في قوله تعالى في سورة هود (الآية: 76).
(ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب).
ووردت في قوله تعالى في سورة العنكبوت (الآية: 32).
(ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وذاق بهن ذرعا وقالوا لا تخف).
فموقف نبي الله لوط عليه السلام كان موقفا حرجا عند زيارة الملائكة له في قريته. وهو بين قوم أشرار اشتهروا برذيلتهم المنسوبة إليهم... !!
وأكثر المفسرين يقفون وقفات طويلة أمام هذه القصة.. ويبدون الأسباب التي جعلت نبي الله لوطا عليه السلام يضيق ذرعا بمن زاره من ملائكة الرحمن في قريته... بعدما زاروا نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام... !
ولو كان الحوار الذي استمعت إليه مصادفة يساير التعبير من ناحية الدلالة الأصيلة مع متابعة التطور اللغوي الذي جر إليه الاستعمال لكان حوارا منتجا قريبا من الحقيقة في بعديها: اللغوي الأصيل والدلالي المستعمل... ولَمَا ضِقْتُ بِهِ ذَرْعاً... !!

6- حول كلمة: زبلح... !
لا أدري أين سمعت هذه الكلمة؟ من الجهات المغربية بادية وحاضرة...؟ ولا متى سمعتها؟ إلا أنني أعلم أنها كانت غريبة على أذني وحاستي اللغوية. !فأضفتها إلى إخواتها من الكلمات التي أهتم بها، وأرصد المعاجم القديمة والحديثة والنصوص المغربية والأندلسية والشرقية لَعَلِّي أظفر بما يلقي ضوءا على المعنى القريب أو البعيد لها. وبطليعة الحال يقتضي ذلك استفراء واسع، ووقتا طويلا... ! وفرصا سانحة تقودني إلى المراد... ! في نهاية المطاف.
وكانت الفرصة الأولى عند لسان الدين ابن الخطيب في كتاب: «اللمحة البدرية في الدولة النصرية» ص: 61 في ترجمة ثالث ملوك بني الأحمر: محمد بن محمد بن محمد بن يوسف ابن الأحمر...
قال ابن الخطيب:
«أنشده يوم قعوده على سرير أبيه ثاني وفاته أحد الشعراء في غرض التعزية والتهنئة قصيدة أولها:
على من تنشر اليـوم البنـود = وتحت لواء من تسـري الجنود
فقال السلطان: على هذا «الزبلح»، الذي ترى قدامك – يعني نفسه – فاستظرفها الناس وخجل الشاعر...!! »
ولم يعلق طابع الكتاب على كلمة: «الزبلح» بأي شيء كأنها كلمة عادية مفهومة لا تحتاج لأي تفسير أو ضبط... !!
ثم بعد ذلك أتيحت لي فرص أخرى مكتوبة عند ابن الخطيب وغيره... فرأيت الكلمة في عدة صيغ وفي عدة مصادر وسمعتها كذلك هكذا:
- زبلح...
- مزبلح
- تزبليحة...
وأدركت أن المراد بالزبلح المعتوه... أو الأحمق، أو ما يقارب هذا المعتر في الصفات التي تتعلق بالإنسان الموصوف بهذه الصفة، وبذلك ألفتها... مسموعة... ومكتوبة...
وأخيرا وجدت المستعرب R. DOZY في كتابه: «تكملة المعاجم العربية» ص: 580 من الجزء الأول يذكر كلمة: زبلح وزبلحة... ويذكر أنها ترجع إلى أصل بربري... !وهي بالمعنى الذي أشرنا إليه...
وهكذا تكون هذه الكلمة عبرت إلى الأندلس، واستعملت في غرناطة... وما تزال مستعملة في بعض الجهات المغربية إلى الآن، كما استعملها ملك غرناطة منذ قرون...!!


دعوة الحق

العدد 297 شوال-ذو القعدة-ذو الحجة 1413/ أبريل-ماي-يونيو 1993



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى