الشيخ عبدالله محمد الطوالة - مناظرة الحيدة: المناظرة الكبرى (2)

الحمد لله، الحكيم العلام، الملك القدوس السلام، الحي القيوم، الباقي سرمدًا على الدوام، لا تأخذه سنة ولا يموت ولا ينام، سبحانه وبحمده، عز جلاله فلا تدركه الأفهام، وتعالى كماله فلا تحيط به الأوهام، ﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 78]، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الآيات المبهرة، ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ﴾ [الشورى: 32]، ﴿ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ ﴾ [الرحمن: 10، 11]، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله، ومصطفاه وخليله، النبي الأمي الإمام، أزكى الأنام، وبدر التمام، ومسك الختام، وخير من صلى وصام، وتعبد لربه وقام، وطاف بالبيت الحرام، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأهل بيته الكرام، وصحابته الأعلام، والتابعين وتابعيهم بإحسان، وكل مَن قال: ربي الله ثم استقام، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله؛ فتقوى الله عز بلا عشيرة، وعلم بلا مدارسة، وغنًى بلا تجارة، وأنس بلا خِلَّان، ألا وإن بركة العمر في حسن العمل، والندم طريق التوبة، وآفة الرأي الهوى، وأشد البلاء شماتة الأعداء، وكثرة العتاب تورث الضغينة، والتودد نصف العقل، وكسب القلوب مقدم على كسب المواقف، ومن طلب صديقًا بلا عيب، بقي بلا صديق، وفي طول اللسان هلاك الإنسان، وإحسان الظن بالآخرين يجنب الكثير من المتاعب، ومن أراد إصلاح غيره فليصلح نفسه: ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 31].

أما بعد أحبتي في الله:

فهذه هي الحلقة الثانية من سلسلة حلقات الحيدة، المناظرة الكبرى بين الشيخ عبدالعزيز بن يحيى الكناني من أهل السنة والجماعة، وبين بشر بن غياث المريسي زعيم القائلين بخلق القرآن، تعالى الله وكلامه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، وكنا قد ذكرنا في الحلقة السابقة خروج الشيخ عبدالعزيز الكناني من مكة إلى بغداد، وقيامه في مسجد الرصافة بعد صلاة الجمعة، وصدحه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وما جرى له مع وزير المأمون من حوارٍ انتهى بتحديد موعد للمناظرة في يوم الاثنين التالي، وذلك في دار الخلافة، وبين يدي الخليفة المأمون، وبحضور جمع كبير جدًّا من العلماء والقادة والأعيان، ووصلنا في الحديث حين أُدخل الشيخ عبدالعزيز إلى إيوان الخليفة يتعادى به الرجال، وذكرنا ما أصابه من روعة وفزع وخوف شديد، وتوقفنا في الحديث حين سلم الشيخ على الخليفة، وجلس في المكان المعد له:

قال الشيخ عبدالعزيز: فسمعت قبل أن أجلس رجلًا من جلساء الخليفة يقول: يا أمير المؤمنين، يكفيك من كلام هذا قبحُ وجهه، لا والله ما رأيت من خلق الله قط مَن هو أقبح منه وجهًا، فحفظت كلامه وميزت شخصه، على ما بي من الروعة والفزع الشديد، وجعل أمير المؤمنين ينظر إليَّ وأنا أرتعد وأنتفض، فأحب أن يؤنسني وأن يسكن روعتي، فجعل يكلم جلسائه، ويتكلم بأشياءَ لا يحتاج إليها، يريد بذلك إيناسي، ثم جعل يطيل النظر إلى سقف الإيوان، فوقعت عينه على موضع من النقش قد انتفخ، فقال لوزيره: يا عمرو، أما ترى إلى هذا الذي قد انتفخ من هذا النقش؟ بادر بإصلاحه، فقال الوزير: قطع الله يد صانعه؛ فإنه قد استحق العقوبة على عمله الرديء، قال الشيخ عبدالعزيز: ثم أقبل عليَّ الخليفة، فقال لي: مَن الرجل؟ فقلت: عبدالعزيز، فقال: ابن مَن؟ فقلت: ابن يحيى، قال: ابن مَن؟ قلت: ابن مسلم، قال: ابن مَن؟ قلت: ابن ميمون الكناني، قال: وأنت من كنانة؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، ثم تركني لبعض الوقت، ثم أقبل عليَّ مرة أخرى، فقال: من أين يا عبدالعزيز؟ فقلت: من الحجاز، قال: من أي الحجاز؟ قلت: من مكة، فأخذ يسألني عن أهل مكة: أتعرف فلانًا؟ أتعرف فلانًا؟ حتى عدَّ جماعة من بني هاشم، كلهم أعرفهم حق المعرفة، فجعلت أقول: نعم أعرفه، ويسألني عن أولادهم وأنسابهم، فأخبره من غير ما حاجة، إنما يريد إيناسي وتسكين روعتي، جزاه الله عني خيرًا؛ فقد قوَّى قلبي، واجتمع فهمي، وانشرح بذلك صدري، وانطلق لساني، وارتفعت آمالي، حتى رجوت النصر على من خالفني وعاداني.

قال الشيخ عبدالعزيز الكناني: ثم أقبل عليَّ المأمون، فقال: يا عبدالعزيز، قد علمتُ بخبرك وما تريد، وقيامك في المسجد الجامع، وقولك: إن القرآن كلام الله وإنه غير مخلوق، وطلبك لمناظرة من خالفوك بين يديَّ، وها قد جمعتك بالمخالفين لك؛ لتتناظروا بين يديَّ، وأكون أنا الحكم فيما بينكم، فإن تكن الحجة لك والحق معك تبعناك، وإن تكن لهم الحجة عليك والحق معهم عاقبناك، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، ثم أقبل المأمون على بشر المريسي، فقال: يا بشر، قم إلى عبدالعزيز، فناظره وأنصفه، فوثب إليَّ بشر من موضعه كالأسد يثب إلى فريسته، فجاء فانحط عليَّ، فوضع فخذه الأيسر على فخذي الأيمن، حتى كاد أن يحطمها، واعتمد عليَّ بقوته كلها، فقلت له: مهلًا؛ فإن أمير المؤمنين لم يأمرك بقتلي، وإنما أمرك بمناظرتي وإنصافي، فصاح به المأمون: تنحَّ عنه، وكرر ذلك، حتى ابتعد عني، ثم أقبل عليَّ المأمون، فقال: يا عبدالعزيز، ناظره على ما تريد واحتج عليه، ويحتج عليك، وسَلْهُ ويسألك، وتناصفا في كلامكما، فإني مستمع إليكما، ومتحفظ ألفاظكما.

قال الشيخ عبدالعزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، إن رأيت أن تأذن لي أن أتكلم قبل هذا بشيء قد شغل قلبي وعقلي، فقال لي: تكلم بما شئت، فقد أذنت لك، فقلت: أسألك بالله يا أمير المؤمنين: من هو أجمل ولد آدم جمالًا في الوجه فيما تعلم؟ فقال بعد تروٍّ: أليس يوسف عليه السلام؟ فقلت: صدقت يا أمير المؤمنين، فوالله ما سُجن يوسف وما ضُيِّق عليه إلا بسبب حسن وجهه، ولقد ثبتت براءته عندهم قبل أن يسجنوه؛ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ [يوسف: 35]، وإنما سجنوه لحسن وجهه، وليغيبوه عن المرأة التي فُتنت به وعن غيرها، ثم طال حبسه في السجن حتى إذا عبر الرؤيا، عرف الملك قدره وعلمه؛ فرغب في صحبته: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ﴾ [يوسف: 54]، وكان هذا قبل أن يسمع كلامه، فلما سمع كلامه وحسن تعبيره، صيَّره أمينًا على خزائن الأرض، وفوَّض إليه الأمور كلها، فكان ما وصل إليه يوسف عليه السلام بكلامه وعلمه، لا بجماله وحسن وجهه؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 54، 55]، ولم يقل: إني جميل الوجه حسن المنظر؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ﴾ [يوسف: 56]، فوالله يا أمير المؤمنين، ما أبالي إن وجهي أقبح مما هو عليه الآن، وإني أُحسِن من الفهم والعلم في كتاب الله أكثر مما أحسن، فقال المأمون: وأي شيء أردت من هذا القول يا عبدالعزيز، وما الذي دعاك إليه؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، سمعت هذا الشخص الجالس بجوارك يعيب شكلي، ويقول لك: يكفيك يا أمير المؤمنين من كلام هذا قبح وجهه، فما يضرني يا أمير المؤمنين قبح وجهي، مع ما رزقني الله عز وجل من فهم كتابه، والعلم بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فتبسم المأمون حتى وضع يده على فيه، ثم قال الشيخ عبدالعزيز: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، لقد رأيتك تنظر إلى هذا النقش المنتفخ، وتأمر وزيرك أن يصلحه، وسمعت الوزير يدعو على الصانع، ولا يدعو على الجص المصنوع، فقال المأمون: نعم، فالعيب لا يقع على من لا إرادة له، فلا عيب على الشيء المصنوع، وإنما يقع العيب على الصانع، قلت: صدقت يا أمير المؤمنين، فهذا العائب لشكلي ووجهي، إنما يعيب ربي الذي خلقني وصورني بهذه الصورة، فازداد المأمون تبسمًا حتى ظهرت ثناياه، قال عبدالعزيز: فأقبل عليَّ المأمون، وقال: يا عبدالعزيز، ناظر صاحبك فقد مضى الوقت بدون مناظرة، فقلت: يا أمير المؤمنين، لا بد لكل متناظرين من أصل يرجعان إليه إذا اختلفا، وإلا كانا كالسائر على غير طريق، لا يعرف وجهةً فيتبعها، ولا الموضع الذي يريد فيقصده، ولا من أين جاء فيرجع، فهو على ضلال أبدًا، فلنؤصِّل بيننا أصلًا، حتى إذا اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى الأصل، فإن وجدناه في هذا الأصل، وإلا لم نعتد به.

فقال المأمون: نِعْمَ ما قلت يا عبدالعزيز، فما هو هذا الأصل الذي تريد أن يكون بينكما؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، أوصل بيني وبينه ما أمرنا الله أن نرجع إليه عند التنازع والاختلاف؛ قال الله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].

وقد تنازعت أنا وبشر، فلنؤصل بيننا كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما أمرنا الله تعالى، فإن اختلفنا في شيء من الفروع، رددناه إلى كتاب الله عز وجل، فإن وجدناه فيه، وإلا رددناه إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن وجدناه فيها، وإلا ضربنا به عرض الحائط ولم نلتفت إليه.

قال بشر: إنما أمر الله في هذه الآية أن يرد إليه وإلى الرسول، ولم يأمرنا أن نرده إلى كتابه العزيز، أو إلى سنة نبيه عليه السلام.

فقلت: هذا ما لا خلاف فيه بين المؤمنين وأهل العلم، أن "رددناه إلى الله"؛ أي: إلى كتاب الله، وأن "رددناه إلى رسوله" بعد وفاته؛ أي: رددناه إلى سنته صلى الله عليه وسلم، وقد روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، فقال المأمون: فأصِّلا بينكما كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنا الشاهد بينكما إن شاء الله تعالى.

فقلت: يا أمير المؤمنين، إنه من ألحدَ وغيَّرَ في كتاب الله عز وجل بزيادة أو نقصان لم يناظَر بالتأويل، ولا بالتفسير، ولا بالحديث، فقال المأمون: فبأي شيء تناظره إذًا؟ قال عبدالعزيز: بنص التنزيل؛ كما قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: 151]، فأمره بالتلاوة، وكما قال حين ادعت اليهود تحريم أشياء لم تحرم عليهم: ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 93].

فإنما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالتلاوة، ولم يأمره بالتأويل، وإنما يكون التأويل لمن أقر بالتنزيل، وإما من ألحدَ وغيَّرَ في التنزيل، فكيف يناظر بالتأويل؟ فقال لي المأمون: ويخالفك في التنزيل؟ قلت: نعم، ليخالفني بالتنزيل؛ فإما أن يكون الحق معي فيتبعني، أو يكون الحق معه فأتبعه.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

***

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من أهل الحق وأنصاره، فلإن جاز أن أطلق على هذه المناظرة الكبرى اسمًا مناسبًا، فسأسميها: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81]، حقًّا يا عباد الله، فالباطل بنص القرآن، كان ولا يزال وسيظل زهوقًا، لا يقوى على الوقوف في وجه الحق إذا جاءه، فلنتابع المناظرة لنرى مصداق ذلك.

قال الشيخ عبدالعزيز: ثم أقبلت على بشر، فقلت له: يا بشر، ما حجتك بنص التنزيل أن القرآن مخلوق؟ وانظر إلى أحدِّ سهم في كنانتك فارمني به؛ حتى لا تحتاج معه إلى معاودتي بغيره، فقال بشر: أتقول أن القرآن شيء أم غير شيء؟ فإن قلت: إنه شيء، أقررت إنه مخلوق؛ إذ كانت الأشياء كلها مخلوقة بنص التنزيل؛ قال تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الزمر: 62]، وإن قلت: إنه ليس بشيء، فقد كفرت؛ لأنك تزعم أن القرآن ليس بشيء.

قال الشيخ عبدالعزيز: فقلت ما رأيت أعجب منك يا بشر؛ تسألني وتجيب عني، وتكفرني ولم تسمع إجابتي، فإن كنت سألتني لأجيبك، فاسمع مني فإني أحسن أن أجيب، وإن كنت تريد أن تدهشني وتنسيَني حجتي، فلن أزداد بتوفيق الله إلا بصيرةً وفهمًا، وما أظنك يا بشر إلا معجبًا بهذه المقالة التي قلتها، فأنت تكره أن تقطعها، حتى تأتيَ بها عن آخرها، قال الخليفة المأمون: صدق عبدالعزيز، فاسمع منه جوابه، ثم رد عليه بعد ذلك بما شئت، قال عبدالعزيز: سألتني يا بشر عن القرآن: أهو شيء أم غير شيء؟ فإن كنت تقصد أنه شيء موجود كبقية الأشياء، فنعم هو شيء من هذا الوجه، وأما إن كنت تقصد أنه مثل بقية الأشياء المخلوقة فلا، فقال بشر: ما أدري ما تقول ولا أفهمه ولا أعقله، ولا بد من جواب يفهم ويعقل: أهو شيء أم ليس بشيء؟

فقلت: إن الله عز وجل أجرى كلامه على ما أجراه على نفسه العلية؛ إذ إن كلامه من صفاته جل وعلا، فلم يتسم هو سبحانه بالشيء، ولم يجعل الشيء اسمًا من أسمائه، ولكنه دل على نفسه أنه شيء، وأنه أكبر الأشياء؛ إثباتًا لوجوده تعالى، وردًّا على من أنكر ذلك من الملحدين؛ فقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ [الأنعام: 19]، فدلَّ على نفسه أنه أكبر شيء موجود، لكن وحتى لا يتوهم متوهم أنه كبقية الأشياء المخلوقة، أنزل سبحانه آيةً خاصةً في ذلك فقال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، فأخرج نفسه وكلامه وصفاته من الأشياء المخلوقة، قال بشر: يا أمير المؤمنين، قد أقر عبدالعزيز أن كلام الله شيء، وزعم أنه ليس كالأشياء المخلوقة، فليأتِ بنص التنزيل كما أخذ عليَّ وعلى نفسه أنه ليس كالأشياء، وإلا فقد بطل ما ادعاه، وصح قولي: إنه مخلوق؛ إذ كنا قد اتفقنا أنه شيء، فقلت أنا هو كالأشياء المخلوقة، وقال عبدالعزيز هو شيء لكنه ليس كالأشياء المخلوقة، فليأتِ بنص التنزيل على ما ادعاه، وإلا فقد ثبتت عليه الحجة؛ إذ إن الله عز وجل قد أخبرنا تعالى بنص التنزيل أنه خالق كل شيء؛ فقال تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62]، قال عبدالعزيز: فقال لي المأمون: هذا يلزمك يا عبدالعزيز، فجعلوا يصيحون ويرفعون أصواتهم، ظهر أمر الله وهم كارهون، جاء الحق وزهق الباطل، فسكت حتى أمسكوا. وهذا ما تيسر ذكره اليوم، نتوقف هنا، ونكمل بإذن الله في خطبة قادمة.

ويا ابن آدم، عِشْ ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.

اللهم صلِّ وسلم على البشير النذير.

رابط الموضوع: مناظرة الحيدة: المناظرة الكبرى (2)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى