مقتطف سعدية بلگارح - يوم وداع جانيت..

كانَ يوما رائعا في بستاننا الصغير.. حيث تناولنا جميعا وجبة غداء ثريّ بمنتوجاتنا الطبيعية. رقصتِ البنات على إيقاعات " أحواشْ" المحلية .. ابتهجن كثيرا . ثم حان الوداع . لقد كان حارا جدا. تبادلن فيه أرقام هواتفهن الدولية وصورا للذكرى ، كما تبادلن الوعود باللقاء في السنة المقبلة. ثم عدتُ وجانيت إلى البيت. لقد تركَتِ الفندق نهائيا.
..

على الساعة الخامسة صباح اليوم التالي، كنتُ أمام غرفة البنات، أنقر نقرا خفيفا على الباب. تستجيب نجاة بسرعة قائلةً:
- الفطور جاهز يا أخي.
- الله يرضى عليكِ. أيقظي جانيت.
بعد ساعة كنا في السيارة. كانت أمي توصيني بالانتباه الشديد أثناء القيادة.
انتبهتُ إلى أن أخي عمر كان صاحيا. يقف خلف الباب بابتسامة لئيمة.
بعد عشر دقائق كان في المقعد الخلفيّ. تزداد ابتهالات أمي وهي تشير إليه بأن لا يتحرك كثيرا في السيارة. ضحكنا ونحن نودعها. أنزلتُ الزجاج وأنا أقول بصوت عال: أحبكِ يا أجمل النساء.
ننطلق باسم الله مجراها ومرساها. كأنها سفينة نوح تبحر في المجهول. في طريق
لا أدري إلى أين يأخذني. هي خطوة جريئة أقدمُ عليها. تركَتِ الكلّ في قريتنا يتحدث.
هناك من يُنكرها عليّ. وهناك من يغبطني سِرا. خصوصا الشباب الراني إلى الهجرة مع تطلعات حالمة.
أوصدُ أبواب التردد. وأتسلحُ بثقتي في قراري. لا يهمني أيّ رأي مخالف غير أمي التي تبدي اقتناعا غيرَ مقنِعٍ.
كان عمر سعيدا بهذا السفر المفاجئ. فهو في عطلة مدرسية لمدة أسبوع . كنا نُشرِكه في الحديث معنا لكي لا يشعر بالإقصاء. كان محبورا جدا. كانت ضحكاتنا تتمازج و صياحنا المجنون كلما تجاوزتنا عربة. كان السفر ممتعا برفقتهما. وصلنا إلى العاصمة قُبيل الظهيرة. فتوجهنا رأسا إلى سوق باب الأحد لتناول الغداء. تجولنا في هذا السوق الجميل و اقتنينا بعض الهدايا. قادتنا أقدامنا إلى قلعة الأوداية و خمائلها البهيجة.
انبهرت جانيت بتاريخها المتمثل في معمارها ومتحفها العتيق. أخذنا صورا قرب معمل
الزرابي المطل على نهر أبي رقراق، حيث تتكئ مدينة سلا ببياضها. ثم التحقنا
بالسفارة الفنلندية التي تفتح بابها بعد الثانية زوالا إلى حدود الساعة السادسة.. أبديتُ
لجانيت تخوّفي، مرة أخرى، من عرقلة مسعاها هنا بالسفارة، طمأنتني للمرة العاشرة
مؤكّدةً بقولها: "أصدقاء بابا الدبلوماسيون كثرٌ في كل سفاراتنا في العالم، اطمئنّ".
تصفحت خريطتها الإلكترونية التي قادتنا بسرعة إلى عين المكان بحي السويسي. لم يأخذ الأمر إلا ساعة زمنية حتى تمّ المبتغى. لكن تقلصت المدة المضافة من شهر إلى عشرين يوما. لا بأس. فهي كافية وزيادة لتحضير ملف الخطوبة ثم القِران. تبادلنا التهانئ. لم تقبّلني هذه المرة جانيت. مع أني رأيت القبلة عالقة في عينيها. اكتفينا بالشدِّ على الأيدي بحرارة ثم شددنا الرحال إلى ديارنا. عدنا ليلا منهَكين لكن مستمتعين جدا. دخلنا البيتَ فتوجهتْ جانيت مباشرة لأخذ حمام ساخن.
فقد كان كل شيء مُعَدّا كما أردتُ. كانت أختي نجاة وراء كل الترتيبات الجميلة في البيت. إنها ذكية جدا. كنتُ دائما أقول لها: "لو أتممتِ تعليمكِ، لنافستِ صاحبات الشواهد العليا على المناصب". كانت تردّ بحكمتها الجميلة: " أخي، أنا سعيدة بشهادتي الإعدادية، الأهم أني نلتها عن جدارة".. كنتُ أختمُ دائما بتنهيدة مردِفا: "للأسف أن يتعذّر وجود مؤسسة للتعليم الثانوي بالقرب منا، مما يُحجِم بناتنا عن إكمال تعليمهنّ".. لكنها أبانت أيضا عن تفوّقها في النادي الاجتماعي للطرز والخياطة. كانت تصنع أشياء جميلة جدا بأناملها الرقيقة. وأجزِمُ أن دولابها الخاص مملوء بأروع ما صنعت يداها. هكذا البنات في بلدتي يحضّرن"جهازهن"، في انتظار عريس محظوظ.
كانت رائحة العطور والبخور تعبق في بيتنا هذه الأيام. فمنذ وفاة أبي وجدتي لم نعش فرحة مماثلة. حتى الأعياد كانت روتينية باهتة.
علمتُ بعد هذه الأبخرة، أن أهل موسى قدموا لزيارتنا هذا المساء. وهم الآن في الصالة الكبيرة. أما موسى ووالده فخرجا في زيارةٍ للفندق. استغربتُ كيف يُقْدم موسى على هذا دون إخباري، غضبتُ فعلا ، وأسررتُها في نفسي حتى ألقاه. لكن عندما تناولت هاتفي لأحدثه، تفاجأت بأكثر من عشر مكالمات منه ، من والدتي ومن نجاة، فذهِلتُ. كنتُ مستغنيا عن هاتفي، ناسيا أن خلفي أسرة، يشغَلها الاطمئنان عني وعمن معي. شعرتُ بالذنب، إذ لا مبرر لفعلتي. كيف أتغاضى عن ذلك بالانشغال بجانيت وحدها. ها أنا أقرأ اللوم والانكسار في نظرات أمي، رغم اعتذاري الشديد. أفهم جُرمي وأتحمّل عواقبه. أعلم أن بوادر الغيرة بدأتْ، لا مناص منها. سوف أختلق سببا شافيا كي أتجاوز هذه الورطة. أمي طيبة، لن تخذلني.أمام باب غرفتها وقفتُ طويلا أحادث نفسي ثم أزمعتُ على أمر:
طرقتُ فدخلتُ وأنا أقول بفوضاي المعهودة: أنا الطارق..
كانت تبحث عن شي ء ما. التفتت إليّ. فما إن رأتني حتى تهنّأتْ وانشرح
وجهها الصّبيح. جلستُ بجانبها ممسكا يديها معا أقبّلهما. ربتت على كتفي وهي تقول: لن أصالحك..
- يا أمي لا أحد يُنسيني إياكِ أبدا ولا يملأ قلبي غيركِ. لا شيء في الدنيا يوازنُ حبي لكِ..
- بلى..يوجدُ..
أخرجتُ هديةً من جيبي. كان سواراً من وَرِ قٍ أبيضَ بأحجار كريمة.. اجتذلت حين تسلمتْه، فأنا أعلم عشقها للفضة. لا أدري هل سامحتني فعلا أم تظاهرت بذلك حبا لي .
عموماً كانت سعادتي قصوى بعدم رفضها الهدية. قبّلتُ رأسها وخرجتُ.
حينها كانت جانيت قد أنهت حمّامها. التحقتْ بها البناتُ جميعهنّ. كنّ سعيدات بهذا
التحوّل الذي طرأ على البيتِ بقدومها. استغللتُ وجودهنّ فبعثتُ رسالةً إلكترونيّةً إليها أذكّرها بهداياهنّ. لقد بدأن يفهمن بعض المفردات وصرن يعتمدن الإشارات
والحركات المضحكة لتمرير الرسائل. كانت السعادة تغشى البيت كله. إخوتي الصغار كانوا يتابعون مسلسلا بطلته جميلة بيضاء كالثلج. أقبلت بسحرها من وراء الشمس. وأنا، كنتُ أتعمّدُ تركها معهم، حتى يتخطّوا هذا الحاجز اللغوي، ويبتدعوا نمطا من أنماط التواصل. وقد أفلحوا في ذلك.
ذهبتُ إلى الفندق لجلبِ موسى ووالده. فالعشاء جاهزٌ. ما إ ن شغّلتُ محرك سيارتي حتى رن هاتفي..
- ألوو
- ألو يا موسى، هل أنتما في الفندق؟.
- نحن على مقربة من البيت..
- إني قادمٌ لأخذكما انتظراني.
انطلقتُ في الطريق الوحيد المؤدي إلى الفندق. شغَّلتُ أضواء السيارة الأمامية
لرؤية تصل إلى 100 متر. شخصان يقفان قريباً. تزعج بصرهما الإنارة
القوية. فأخفضُ الضوء قائلا: مرحبا. يفتح موسى الباب الأمامي لوالده. ثم يجلس في الخلف وهما يردّان على ترحيبي. كان التعارف سلسا جدا. أهل أمي من أعيان بلدتهم. ولهم سمعة طيبة تسابق الريح. وهذا الأمر اختزل المسافات بيننا. فكان حديث والده الحاج إبراهيم طول الطريق، مديحا وتزلفا، كنتُ أمقت ذلك في نفسي، لكني أجاملُ بهزِّ رأسي أحيانا.
مرت تلك الليلة بكل تكلُّفها جميلةً و مميزة. الأجمل فيها اقتران خطبتين في آن واحد.
أمام بعض الأهل من تيشكا وتنغير.. أبديتُ عجلتي في تسريع وتيرة الإعداد لعقد القِران.. فكان الاتفاق بالإجماع بالمباركة والتهانئ.
قرؤوا الفاتحة والأدعية.. ثم انصرف الجميع إلى حالهم منشرحين..
وبعد أقلِّ من أسبوعين تحدث الأهالي عن حفل بهيج، كانت بطلتاه روميةً بالزي
المحلّي التقليديّ.. وعروساً أخرى انطلقت إلى تيشكا للاحتفال بزفاف كبير
ينتظرها هناك.
وفي صبيحة اليوم السابع، أقلعت طائرة من مطار النواصر إلى هلنسكي ، أودعتهُا
عروسي الجميلة، على وَعدِ إكمال ملف الهجرة للحاق بها قريبا جدا. ثم عدتُ برفقة
موسى إلى حيث أعمال كثيرة في الأفق تنتظرنا مع وفد سينمائيّ آخر..
في طريق عودتنا استوقفتنا دورية أمن عند إحدى نقط المرور، طلب الشرطي أوراق
سيارتي. سلمته إياها، فتفحصها ثم ابتسم قائلا: يخلق من الشبه أربعين. نبحث عن
واحد يشبهك. غمغمتُ: يا ربّي السلامة. أخذتُ الأوراق وغادرنا.. كانت العودةُ
مملة، رغم محاولات موسى لإخراجي من صمتي.
وصلت الهاتف بالشاحن، حتى أتجنب الوقوع في مشكلة أخرى مع أمّي. فوصلني إشعارٌ برسالة صوتية من جانيت. بعثتْ بها قبل أن تطير. تنحيت بالسيارة جانبا ثمّ فتحتُها، فتناثر صوتها رخيما
كمعزوفة للقمر:"أحبكَ و أشتاق إليكَ. لا تتأخر يا دُولِي". أتبعتْها ضحكتها الجميلة. تنهدتُ عميقا وأنا أردُّ عبر الهواء: "وأنا أيضا لا أطيق بُعدك يا جَنَّتي". تأملتُ موسى الذي يتابع في صمت، ورأسه منحنٍ كأنه غير مبالٍ، ثم قلتُ:
- أنت محظوظ بعروسك ابنة البلد يا موسى. أما أنا فإني أقامر بأشياء ثمينة جداً قد أخسرها في لحظة.
- لا شيء يدعو إلى القلق. فإذا فقدتَ سكينتك فالحلّ بين يديك.
- بقدر ما أشعر بالخوف على زواجي بقدر ما أشعر بالخوف منه.
- كما قلتُ لك الحلّ بيدك.لا شيء يجبرك على السفر.
- صدقتَ. لكني لن أبتعد طويلاً. فوجه أمي ينعش روحي وهواء بلدتي.
- أنا أيضا أمي وزوجتي يملآن قلبي.
- لا تذكرني يا صديقي. فالبيت من غير نجاة موحشٌ.
يبتسم موسى نشوانا بما سمع، من غير أن يعقِّب.
....
من رواية رقصة الأناكوندا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى