سعد عبدالرحمن - الذئب عند كعب بن زهير ومالك بن الريب

نواصل نشر دراسة الذئب وتجلياته في الشعر العربي القديم، وفي هذا المقال نتوقف عند شاعرين من كبار شعراء العصر الجاهلي هما كعب بن زهير ومالك بن الريب.

ذئب كعب بن زهير

نص كعب بن زهير الذي يتحدث فيه عن الذئب هو جزء من قصيدة لامية يقول في مطلعها:

ألا بكرت عرسي تلوم وتعذل
وغير الذي قالت أعف وأجمل

ويستغرق النص حوالي سبعة عشرة بيتا منها يبدؤها زهير بذكر الصحراء القاحلة المخيفة التي يتردد صوت الريح في جوانبها فيخيل إليه عندما يغشى الليل بظلامه كل شيء أنه يسمع من حوله أصواتا مبهمة تبدو كأنها أحاديث إنس لكنه لا يتبين فحواها:

وصرماء مذكـــار كأن دويها
بعيد جنان الليـــــــــل مما يخيل
حديــث أناسي فلمــــــا سمعته
إذا ليس فيــــه ما أبيــــن فأعقل

تلك الصحراء اجتازها الشاعر يسايره فيها عن بعد ذئب صغير الحجم رمادي اللون يخب حينا ويعسل حينا آخر أي يعدو حينا في استقامة ويمشي حينا آخر مضطربا، ولما كان الذئب كل حين يقترب من ركب الشاعر على خلاف طبيعته فهو يتوجس دائما خيفة من الناس وقد عد الشاعر ذلك سلوك جاهل أو مغرر به وكأنه يتحدث عن إنسان عاقل وليس عن حيوان مفترس، لقد صار الذئب على مسافة قريبة جدا منه (مدى النبل) وقد غشيت جسم الشاعر كله قشعريرة عندما نظر في وجه الذئب وهو مقبل عليه غير عابئ بزجره له كي يبتعد:

قطعت يماشيـــــني بها متضائل
من الطلس أحيانا يخب ويعسل
يحب دنـــو الإنس منــه وما به
إلى أحد يوما مــن الإنس منزل
تقرب حتى قلت لــــــم يدن هكذا
مـن الإنس إلا جـاهل أو مضلل
مدى النبل تغشاني إذا ما زجرته
قشعريرة مـن وجهه وهو مقبل

والنص عبارة عن لوحة كبيرة رسم الشاعر فيها صورة واضحة الملامح للذئب، وفي الأبيات التالية واصل كعب تلوين لوحته والألوان التي استخدمها الشاعر لا تتعلق بصفات الذئب المادية فقط بل و صفاته المعنوية أيضا و بعض الصفات تخص الذئب الذي رآه الشاعر رؤية العين و لكن بعض الصفات الأخرى عامة استمدها الشاعر من خبراته و خبرات غيره من سكان الصحراء بهذا الحيوان المفترس ، فهو يعوي في وجه الريح و كأنه ينوح على قلة الزاد ، و قد شب مكتسبا معظم غذائه من أنعام الشاعر الفقير فقد فتك بأغلبها ، و يتصف ذئب كعب بأنه رمادي اللون ( دخان الرمث يخالط لونه ) ، لديه قدرة كبيرة على التخفي بين الأدغال و الظهور في الوقت المناسب و يكون سمينا لحيما في الشتاء و هزيلا نحيلا في الصيف من شدة الحرارة ، و تكاد تبدو قوائمه كأنها أوتار مشدودة من دقتها ( نساه شرعة ) :

إذا ما عوى مستقبل الريـــح جاوبت
مسامعــــــه فاه على الزاد معول
كسوب إلى ان شب من كسب واحد
محالفــه الإقتــــــــــــــار لا يتمول
كأن دخـــــان الرمـــــث خالط لونه
يغل بــــــه مـــــن باطـــن ويجلل
بصيــــر بأدغال الضـراء إذا خدي
يعيـــــل ويخفى بالجـــهاد ويمثل
تراه سميـــــــنا ما شتا وكــــــــأنه
حمي إذا ما صاف أو هـــــو أهزل
كأن نســــــاه شرعـــــــــــة وكأنه
إذا ما مشى مستكره الريــح محمل

وفي خمسة الأبيات الأخيرة من النص يحكي الشاعر دخول شخصية أخرى إلى المشهد هي الغراب ، والغراب كما يصفه كعب حاد البصر يرى ما لا يمكن لغيره أن يراه و له منقار كالمعول يستخرج به الطعام المخبوء في الأرض ، و يشترك الغراب مع الذئب في صفتين الأولى ثابتة و هي أنه يمشي مضطربا كأنه أعرج ؛ و الثانية متغيرة فهو حين رآه الشاعر كان جائعا يبحث عن طعام ، و كلاهما كان يتعقبه لعله يجد لديه حين يتوقف للبيات أو المقيل ما يسد رمقهما ، و لكن الشاعر يخاطبهما و كأنهما شخصان عاقلان فيكشف لهما عن حقيقة لا يعلمانها هي أنه فقير مثلهما فليس لديه ما يبحثان عنه:

وحمش بصيـــر المقلتيــن كأنه
إذا ما مشى مستكره الريـح أقزل
يكاد يرى ما لا ترى عيـن واحد
يثير له ما غيـــــب الترب معول
إذا حضراني قلت لــــــو تعلمانه
ألم تعلما أني مــــــن الزاد مرمل
غراب وذئب ينظران متى أرى
مناخ مبيــــت أو مقيـــــلا فأنزل
أغارا على ما حيـــلت وكلاهما
سيخلفه مــــني الذي كــــان يأمل

ذئب مالك بن الريب

نص مالك بن الريب عن الذئب نص قصير يقع في ستة أبيات يصف فيها ما حدث له مع الذئب الذي تعرض له فقتله، والخطاب في الأبيات على سبيل “إياك أعني واسمعي يا جارة” فالشاعر في ظاهر الأمر يخاطب الذئب وكأنه إنسان يعقل الكلام ويعيه ولكننا عندما نتأمل الأبيات قليلا نكتشف أنه لا يخاطب الذئب فكيف يخاطب ميتا لا يسمع ولا يعي؟ إن الشاعر في حقيقة الأمر يخاطب آخرين من خلال الذئب، إنه يخاطب في الأبيات أعداءه ويهددهم بأن مصيرهم إذا لم يرتدعوا وينزجروا عنه ويكفوا عن تحرشهم به فإنهم سيلاقون على يديه ما لاقاه الذئب القتيل.

يبدأ الشاعر نصه وقد وقف على جثة الذئب الصريع يخاطبه فيقول له إنه حين تجرأ فتعرض له قد جعل من نفسه أضحوكة يتناقلها الركبان في كل اتجاه، لقد ظن أنه جريء شجاع ولكنه التقى بمن هو أكثر منه جرأة وشجاعة، التقى بفارس ينام دائما وهو متوسد سيفه وحوله عصابة مشهورة بالقوة وسرعة الاستجابة إلى الحرب:

أذئب الغضا قد صرت للناس ضحكة
تنادى بك الركبان شرقا إلى غرب
فأنت وإن كنــــت الجـــــريء جنانه
منيـــــت بضرغام من الأسد الغلب
بمن لا ينام الليـــــــل إلا وسيـــــــفه
رهيـــــــنة أقوام سراع إلى الشغب

لقد عرفت يا ذئب حين جئت تخاتلني لتلتمس مني غرة أني لست امرءا غرا يمكنك خداعه والنيل منه، ولقد حذرتك فزجرتك مرة بعد مرة لكي تبتعد عن طريقي فلما ركبت رأسك ولم تنزجر اضطررت إلى قتلك، وهأنت قد أصبحت صريعا طريح الأرض.

ولأن الكلام كما سبق أن أشرنا في النص هو من قبيل (إياك أعني واسمعي يا جارة) فنبرة الفخر فيه واضحة لاسيما حين يصف الشاعر نفسه بأنه (ابن حرة) أي أنه يأنف أن يغلب على أمره وسيفه بتار يعتمد عليه دائما في معالجة المواقف الصعبة (ينجي من الكرب):

ألم تر يا ذئــــب إذ جئـــــت طارقا
تخاتــــــــلني أني امــرؤ وافر اللب؟
زجرتك مـــــرات فلمــــــا غلبتني
ولم تنزجر نهنهت غربك بالضرب
فصرت لقى لما علاك ابــــن حرة
بأبيـــــض قطاع ينجي مـــن الكرب

ومما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الذئب هنا هو المعادل الموضوعي في النص لأعداء الشاعر أنه يتبع الأبيات السابقة ببضع أبيات أخرى يصف فيها مفتخرا كيف دخل معركة مع بعض أعدائه فصرع واحدا منهم ولاذ أخر بالهرب ويبدؤها بتمنيه لو كان الذئب حاضرا هذه المعركة (لو كنت شاهدا) فعندئذ كان سيعرف على وجه اليقين أنه سيكون الخاسر في مواجهته للشاعر وربما كان ابتعد عن طريق الشاعر حين زجره فأنقذ نفسه من مصيره الذي اندفع إليه بتهوره وغبائه:

ألا رب يـوم ريــــب لــــــو كنت شاهدا
لهالك ذكـــــــري عنـــــــد معمعمة الركب
ولســـــت تــــــرى إلا عدوا مـــــجدلا
يداه جميــــــــــــــعا تثبتان مــــــــن الترب
وآخر يهــــــوي خائر القلــــــب هاربا
وكنـــــــت امــرءا في الهيج مجتمع القلب
أصول بذي الزريــــــن أمشي عرضنة
إلى المــــــوت والأقــــران كالإبل الجرب
أرى المــوت لا أنحاش عنـــــــه تكرما
ولـو شئت لم أركب على المركب الصعب
ولكن أبــــــــت نفسي فكانــــت أبيــــة
تقاعس أو ينصاع قــــــــوم مــــــن الرعب

كعب بن زهير بن أبي سلمى (توفي عام 42 ھ)، شاعر مخضرم عاش في الجاهلية والإسلام وله في الرسول عليه الصلاة والسلام مدائح كثيرة، وفي مقدمة مدائحه النبوية قصيدته الشهيرة بلقب ” البردة ” والمعروفة لدى كثير من الناس باسم ” بانت سعاد “.

مالك بن الريب (توفي عام 57 هـ)، شاعر من فتاك العرب، يروى أنه لم يكن ينام إلا متوسدا سيفه وهو أحد الشعراء الذين رثوا أنفسهم حين شعروا بدنو أجلهم، ومرثيته اليائية تعد من عيون الشعر العربي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى