_1_
في قديمِ الآحزان ، ذاتَ بلادٍ جهنميةٍ ، أحشاؤها أسمنتية و تضاريسٍها بكماء ، حدثَ أنيً كنت أقرأُ طالعَ المدينة و أتدبرُ مسائِلَ آرثر شوبنهاور و فرآنتز كافكا ، متاملاً مصير الإنسان المعاصر و مزدرداً علقم الحياة ، و كانت حروب العيش ما تزال تستعرُ بين البشر ، الأرضُ تقضمُ أطرافها لفرطِ الجوع و أوجاعُ الحياةِ تتفاقم بشكلٍ عام ،بيدَ أنيً لا أكترثُ لهذا كله ، فقط أمضي الوقت منهمِكاً في قراءة (كافكا ) ، مستحثا نفسي علي توطيد صداقتي بالسيد ريشهورش سامسا(1) ، ويحدوني أملٌ عظيم في أن انجز جميع العمليات الحيوية المتعلقة بالمسخ و التحول علي وجه العجلة ، فالحياة قصيرةٌ و (كافكا ) عميقٌ يستغرقُ دهراً من البحث ٍ ، و هكذا نذرتُ عمريً للمهمة .أنشأتُ معملاً يتصلُ باجراء البحوثِ حولَ إمكانية الإستقلاب الجينيً و هو علم حديث يهتم بدراسة امكانية إستقلاب الجينات الخاصة بحيوانٍ معين إلي أخر حيث يمكن للمرء اعادة صياغة خارطته الجينية بشكل يسمح له بالتحول إلي نوع أخر من الحيوانات او الحشرات عبر تفكيك سلسلة لا نهائية من الشفرات الجينية .
و كانت مدينتنا آنذاك ما تزال كئيبة و مبتئِسةٌ كما العهد بها ، و فوق هذا فقد كان لدي جيرانٌ متطفلون تُحيِطُ بهم هالآتٌ من البؤسِ و التعاسة ناشئة عن رهقِ العيشِ في بلادنا ، هذا بالإضافة إلي جورِ السُلطانِ و شِدةِ عسفهِ ، إلا أننًي و برغم هذا كله عمِدتُ في تلك الأيام الي عزل نفسيً عن العالم الخارجيً بشكل تام . تخلصتُ من هاتفيً النقال. و كافة متعلقاتي الشخصية ، أوراقي و مذكراتي ، ملابسي ، كتبيي ، صوري الفتوغرافية . بإختصار، هدمت تاريخي ككائن بشري بالكامل ثم هرعتُ الي الدوائر الحكومية فمحوتُ إسميً من سجلاتها ، و مكثت بعدها منخرطا ً في حلقاتِ جدالٍ طويلٍة مع أميً حول حقيقة ولادتي ،نافيا زعمها بأنيً قد جئتُ بالاساس إلي هذه الدنيا ، و يبدو أن الفكرة قد راقت لها في خاتمة المطاف ، فهي اصلا كانت تتمني لو انني لم اُولد و هكذ صارت بعد ذلك تبارك جهوديً نحو الانسحاب من هذا العالم ، بل إنها أضحت مع مرور الأيام تميل إلي الإعتقاد أنني ربما كنتُ بالفعل مجرد شبح أ لمَ بحياتها و آنَ له أن يرحل في سلام .!
و كانت قد تبقت مسألة مهمة مرتبطة بإمكانيةِ نفيً وجودي البشري و هي كيفية التخلص من تلك المرأة التي منحتها القواميسُ لقب (زوجة ) و التي ما فتئت تصمُنيً بالجنون و هي تبكي لأيامٍ عديدة، لا تكاد تستوعب حقيقة انني أصلا لم أولد كأنسان و ان وجودي علي وجه هذه الأرض مجرد وهم كبير و ان أسمي كبنيً آدم مدونٌ- عبثاً - ضمن سجلات المليارات السبع و علي هذا النحو مكثتٌ عشرين نهارا محاولا إقناع تلك السيدة أنني قد جئئتُ الي عالمها من زهرِ الحديقة مجرد طيفٍ لملاكٍ تائهٍ بين الأرض و السماء قبل أن تعتريه سلسة ارتدادات جينية فتحوله الي خنفساء ، بيد أنها ظلت تأتي كل يوم و تقرع الباب باحثة عني و كنتُ أردُ عليها قائلاً :
( أنا لست موجودا الا في خيالكِ أيتها المرأة التي أذابَت نيرانُ الوجدَ و الشقاء كُتلَ الشحمَ في وركيها و عجيزتها فبدت مثل نخلةٍ يابسة الأفنانِ تشتهي الموت ،أنا مجرد وهم .انا لست انا . ).
لكنها دأبت تعكرُ صفو خلواتي رفقة سيدنا (كافكا ) و تداهم عزلتي ، ولا يبدو أنها كانت علي إستعداد لأن تفهم أنني قد صرتُ إلي خنفساء تلتهمُ جذوعِ النباتات الميتة و تقضي اللياليً وهي تلعنُ أضواءَ مصابيحِ النيونِ في بيوتِ البشر و رائحةَ المبيداتِ الحشرية في بساتينِ الفاكهة .
-(2)-
و في ذات صباح رائق ذيِ ابتسامة لامعة ظلت تشع من بين ثنايا أسنانهِ البلورية ، جلستُ أتفحصُ أعماقيً فأدركتُ أني قد نسيتُ الأشياء جميعها و ما عدتُ أذكُرُ شيئا .نسيت اسمي ، أمي ، اصدقائي ، اسماء الشوارع و الحارات و المدن ، طعم الماء و رائحة الهواء ، نسيت عفونة البشر ، مكائدهم ، رائحة الجدران ، صدي الطفولة البعيد ، فحيحُ الهرمونات في جسدي ، نسيتُ لغتيً ، هربت منيً العباراتُ و المفردات . تارجحت ذاكرتيً ثم إنسلت من بين تلافيفِ دِماغيً وتلاشت مثل فقاعاتِ الصابونِ في خضمٍ موجةِ رياحٍ طارئة.
و في الصباحِ التاليً أدركتُ أني قد نسيتُ أننيً أنسي . و بعد أن أنكرتُ صوتيَ الممزق النبرات و المضطربِ الذبذبات تهياتُ لمصيريً مستسلماً لغائلةِ الهواجس التي كانت تنهشُ أعصابيً . هكذا، و في تلك الساعة ، أخذتُ أزحفُ نحو الحائط و جسدي يرتعش ، و كان سيلُ العرقِ ما يزال يتدفق من مساميً حتي انه فاضَ علي ارضِ الغرفة و أخذَ يتسربُ من بين فرجاتِ الباب .كانت العتمة وحدها تسيطرُ علي كلِ شيءٍ ، و الوحشة تسري في المكان . تطلعتُ نحو الحائط الأسمنتيً الصلد و اخذتُ اُحدِقُ في صرصورٍ مسكينٍ ظل يراقب تحركاتيً متحفزاً كأنه جنديٍ علي جبهةِ القتال، فتراجعتُ خطوتينِ للوراء محاولاً النفاد من فرجاتِ الباب لكن محاولاتي باءت بالخسران بعد أن اطاحت بجسدي الضئيل موجاتُ هواء مروحةِ السقف، لكنما عزيمتيً لم تفتر ، فشرعتُ أجذبُ اطرافي ناحيةَ الطاولة مقاوماً تيارات الهواء القوية و صرت أدفع صدري باتجاه الباب مرةً اخري ، و عندما حشرتُ بصريً أسفل الباب صار بوسعيً أن أري بضعً أقدامٍ بشرية تسعي في الخارج ، و بصعوبةٍ بالغة تمكنتُ من التعرف علي قدميً زوجتيً اللعينة التي ظلت تنحني بين فينةٍ و اخري تجففُ سيلان العرق الذي تسلل نحو الردهة بمنشفةٍ بالية و قد كانت تبكي ايضا و تصرخ في وجه أحد الرجال قائلةً :
-كيف تاخرت كل هذا الوقت؟ . هاهو قد بلغ ذروة جنونهِ !
في تلك اللحظة ، مضيتُ أتحسسُ أرنبةّ أنفيً فوجدتُ مكانها قرنيً إستشعار ثم اخرجتُ لساني متحسساً فميً فأكتشفت أن فكيً الأعلي قد صارَ أكبرَ من الفكِ السُفليً علي النحو الذي كان يهييئنيُ تماما لقرض الهوآم و اليرقات . أصابتني رعدةٌ شديدة ، إعتدلت في جلوسي فأدركت ان لي ايضاً قوائمَ حشرية و زعانف ذات اغشيةٍ رقيقة علي الصدر . تساءلت : هل هذا هو ما أعتري السيد ريشهورش سامسا وقتما إستيقظَ ذات صباحٍ ليجد نفسه و قد تحولَ إلي حشرةٍ متوحشةٍ و هو ينامُ علي ظهرٍ كالفولاذ ؟ .
كان هواءُ مروحةِ السقف في تلك الساعة يبدو و كانه عاصفة بحرية هوجاء ، فقد ظلَ يقذف بي تارةً تحت السرير و اخري علي الحائط و انا لا أقاوم ، بل تركتُ نفسي مندسا بين طيات كتاب (المسخ ) لبضع دقائق كنتُ خلالها أستنشقُ رائحة عرق السيد (سامسا) حين أعيته حيلَ العيش و أجتاحه السامُ المجنون تجاهَ الحياة . ألفيتهُ يتطلعُ في وجهي الغارق في الشحوب و يستحثني علي الطيران و شرعت بعدها أتفحص كلمات أمهِ ساعةَ نبهته و هو في عزلته الي أن قلةَ تواصلهِ مع البشر ربما كانت سبباً في فسادِ عقلهِ و تفكيره .
و بعد برهةٍ من الوقت نحيتُ الكتابَ جانباً ثم أخرجتُ يديً و سويتُ قرونَ إستشعاري . و مع شدةِ هديرِ صوت السيد ( سامسا) في دواخليً كانت قد إجتاحت حواسيً طفراتٌ هائلة ، فصارَ بامكانيً أن أشتمَ روائحَ البشر كما تلتقطها أنوف الحشرات ، فعلي سبيلِ المثال كانت رائحة زوجتيً بشعة تشبهُ رائحةُ سلحفاةٍ ميتةٍ علي ضفة النهر و هكذا إنهمكتُ أيضاً أشتمُ رائحةُ الناسِ و الأشياء في الشارع و في البيوتِ المجاورة ، و قد كانت جميعها مقززة ، الامر الذي جعلني أفهم علي نحوٍ جيدٍ لم لا تلتهمُ الخنافس البني آدميين التعساء
و حين إستحكمتِ تلك اللحظة التاريخية ، هممتُ بالطيران بعد أن القيتُ نظرةَ الوداعِ الاخيرة علي جميعِ الاشياء .كانّ هنالك في تلك الساعةِ مغني مخمور يصدحُ في المبنيً المجاورِ باغنيةٍ هابطة لا تُمجد الحياة ، و ثمةَ رجلٌ يصرخُ من هولِ جحيمِ سيدةِ البيت ، و شخصٌ تائهُ في الشارعِ يسأل أخرا أن يرشدهُ السبيلَ نحو منزلٍ في الحيً تُقامُ فيه مراسمُ عزاءٍ لجندي قضي نحبهُ في الحرب الأهلية ،و كان هناك رتلٌ من تلاميذِ المدارس قافلين نحو بيوتهم يلهونَ بكلبٍ أعرج يقطنُ مع عائلتهِ في حانةٍ شعبية ، و أبصرتُ أيضاً إمراةً ممزقةِ الفؤادِ، تسألُ المارة عن طفلٍ عنيدٍ مشاكس فرً هارباً من قسورةِ البيت نحو مكانٍ مجهولٍ و برغم ذلك فإن أباهَ كان قد تجشأ طعامَ الغداء بلا مبالة ثم خلُد للراحةِ و هو لا يعباْ بمصيرِ الطفل.
و في خضمِ تلك المشاهد كلها جاءني من خلفِ الباب صوتُ تلك المرأة المجنونة التي أذابت نيران الحنين شحم صدرِها و وركيها فبدت مثل عنزٍ عجفاء ،فلم تلبث الا دقائق حتي إقتحمتَ عليً المكان و راحت تلحس جسدي بلسانها حتي تتاكد من حقيقة أني ما زلتُ بشراً من لحم و دم ، لكن لسانها ارتجف و مضت تلعقُ الهواء حين أيقنت أنيً قد تسللتُ من ثقبِ في الجدار و طرتُ سابحا في الفضاء و قد نبت لي جناحان قرمزيان بعد ان اكتملت جميع مراحل نموي كخنفساء وفق تصورات المنطق البايولوجي علي نهج سيدنا كافكا عليه شآبيب الرضوان !
_3_
كانت رائحةُ مستشفي الأمراض العقلية تبدو و كأنها رائحةُ جلد تمساح عجوز ، و انا أقضي أيامي هناك وحيدا في قبوٍ ضيقٍ لا تزوره الشمس و برغم الحراسة المشددة و العنف الذي مارسه الانذالُ في حقيً الا أنني تمكنت مرآت كثيرةٍ من الهرب ، مختبئاً أحياناً داخل أحدي المراحيضِ المهجورة و تارةً في قعرِ حذاءِ أحدي الممرضات ، و ذات مرةٍ طفقوا يبحثون عني حتي عثروا عليً في جوفِ ذراعِ الكرسي الذي كان يجلسُ عليهِ مدير المستشفي ، بيد أن هوايتيً المفضلة كانت في التسللِ ليلاً نحو مخزنِ المؤونة الواقعِ عند نهاية القبو المظلم ، هناك حيث أتمكن من الانزلاق نحو جوالات الأرز و العدس فالتهمُ حاجتي من الطعام و حين حاصرونيً ذات ليلة في ذلك المكان تمكنت من الطيران حتي وصلت الي الحديقة المجاورة للمستشفي و هناك إلتقطنيَ ذلك البستانيً العجوز و جاء بي و انا داخل أحدي علب الساردين الي كونسيلتو الاطباء الذين وقع عليهم الاختيار كي يصيغوا تقريرا نهائيا بشأن حالتي الغريبة .
و بعد مضي سنةٍ كاملة ، سئِمً الاطباءُ و أصابهم الضجر بعد ان أعيتهم الحيلة تجاه حالتي الغريبة فاطلقوا سراحي . صرتُ أمشي في الشوارع و انا ملتصقٌ بالجدران ، متجنبا تلك الأماكن التي تعج بالكائنات البشرية ، و كنتُ أنفقُ جل وقتي داخلَ مخازن الغلال و المطاعم و الكافتيريات و صالات الاعراس مستمعا بالتهام الفضلات ،و عندما دشنت السلطات حملة لاطلاق الغازات السامة في مواجهة الحشرات في تلك الاماكن العامة ، انتقلت لممارسة العيش في الحدائق و البساتين و لكن المبيدات السامة ظلت ايضا تطاردني هناك، فصرتُ أتنقل بين بيوتِ البشر ،متسللاً في جنحِ الظلام أقرضُ الأثاثات و بقايا الطعام و ما تيسر من تلك اليرقات التي تنمو في مجاري الصرف الصحي حتي وجدتُ نفسيً ذات يوم داخل أحدِ المنازل الواقعة في طرف المدينة و قد خيل ليَ وقتذاك أني اعرف ذلك المكان جيدا . كان المنزلُ غارقا في الظلام و يلفهُ الحُزن و الشحوب و لا تكاد تسمعُ فيه الا صوت آرملةٍ حزينةٍ ،أذاب الشقاءُ كتلَ الشحمَ في وركيها و عجيزتها ، و قد كانت في ذلك الوقت المتأخر من الليل تسعل و هي تتحس خطواتها في الظلام نحو الخارج لاعنة الزمان و الدهر كله ، و هي تحادث نفسها هكذا :
( هل قال أنه سوف يعيش في مخزن الغلال أم خزانة الكتب حين ينقلب الي خنفساء)؟
و عندما وصلت السيدة الي عتبة الباب صاحت قائلة باحد الرجال:-
( لماذ تأخرت كل هذا الوقت ؟ لعلك لا تعلم أن نوباتُ جنونه قد أخذت تستفحل بشكل لا يطاق ) ،
همهم الرجل بكلام لم أتبينه كثيرا ثم مضي يعالج قفل حقيبته ، و عند تلك اللحظة إنعكس ضوءُ مصابيحِ إحدي السيارات في الخارج علي المكان ، فاستطاعت المرأة بمعاونة ذلك الطبيب الذي بدا ساخطا علي الدنيا جراء انقطاع التيار الكهربائي أن تعيد ثقتها شيئا ما حول إمكانية الرؤيا و يبدو أن الظنون حينذاك قد أخذت تساورها أيضاً حول ما اذا كان من الممكن أن يتدفق تدفق نهر الحياةِ مجددا صوب بيتها ، و عندما شرع الطبيب يتفحص جسدي ، كنتُ قد بدأت أتوغل بين طيات كتاب(المسخ ) بشكل مزعج حتي أنيً صرتُ في تلك اللحظة التي أراد فيها الرجل أن يتحسس بدنيً ألتصقُ بسطح الورق و كأني خنفساء تتشبثُ بحواف ثمرة البطاطا، و قد سمعتُ الطبيب يؤكد لزوجتيً -عقب محاولات مضنية لاستخلاص جسدي من بين ثنايا النص- أن ليس ثمة قوةٍ علي وجهِ البسيطة بامكانها نزع هذا الجسد عن صفحاتِ الكتاب فهو لا يبدو كجسد بشري بل إنه بالمقابلِ يتجسد كحرفِ يستعصي علي ممحاةِ الزمان و لا يبدو أنه سوف يغادر موقعه بين الكلمات ، و هكذا نصحها بأن تدع جثتيً مقبورةً بين السطور و أن تهب ثواب الكتاب العظيم للصالحين و لاولئك الذين أحببتهم يوما ما خلال حياتي القصيرة . ثم إنصرف بعد أن قرأ علي روحي الفاتحة ، بينما تمددتُ مضجعاً في مثوايً الأخير الكائنُ في فضاء نصوص كافكا ، متلذذاً بموتيً الفريد ، أقرأ طالع المدينة كلما سنحَ الوقت و إنفجر ضاحكا كلما أبصرتُ شبح السيد سامسا و هو رابضٌ فوق سماءِ الكتابةِ علي هيئةِ سحابةٍ سوداء لا تخبيءُ بين طياتها إلا مزيداً من مطرِ البؤس و الالآم .
هامش .................
في قديمِ الآحزان ، ذاتَ بلادٍ جهنميةٍ ، أحشاؤها أسمنتية و تضاريسٍها بكماء ، حدثَ أنيً كنت أقرأُ طالعَ المدينة و أتدبرُ مسائِلَ آرثر شوبنهاور و فرآنتز كافكا ، متاملاً مصير الإنسان المعاصر و مزدرداً علقم الحياة ، و كانت حروب العيش ما تزال تستعرُ بين البشر ، الأرضُ تقضمُ أطرافها لفرطِ الجوع و أوجاعُ الحياةِ تتفاقم بشكلٍ عام ،بيدَ أنيً لا أكترثُ لهذا كله ، فقط أمضي الوقت منهمِكاً في قراءة (كافكا ) ، مستحثا نفسي علي توطيد صداقتي بالسيد ريشهورش سامسا(1) ، ويحدوني أملٌ عظيم في أن انجز جميع العمليات الحيوية المتعلقة بالمسخ و التحول علي وجه العجلة ، فالحياة قصيرةٌ و (كافكا ) عميقٌ يستغرقُ دهراً من البحث ٍ ، و هكذا نذرتُ عمريً للمهمة .أنشأتُ معملاً يتصلُ باجراء البحوثِ حولَ إمكانية الإستقلاب الجينيً و هو علم حديث يهتم بدراسة امكانية إستقلاب الجينات الخاصة بحيوانٍ معين إلي أخر حيث يمكن للمرء اعادة صياغة خارطته الجينية بشكل يسمح له بالتحول إلي نوع أخر من الحيوانات او الحشرات عبر تفكيك سلسلة لا نهائية من الشفرات الجينية .
و كانت مدينتنا آنذاك ما تزال كئيبة و مبتئِسةٌ كما العهد بها ، و فوق هذا فقد كان لدي جيرانٌ متطفلون تُحيِطُ بهم هالآتٌ من البؤسِ و التعاسة ناشئة عن رهقِ العيشِ في بلادنا ، هذا بالإضافة إلي جورِ السُلطانِ و شِدةِ عسفهِ ، إلا أننًي و برغم هذا كله عمِدتُ في تلك الأيام الي عزل نفسيً عن العالم الخارجيً بشكل تام . تخلصتُ من هاتفيً النقال. و كافة متعلقاتي الشخصية ، أوراقي و مذكراتي ، ملابسي ، كتبيي ، صوري الفتوغرافية . بإختصار، هدمت تاريخي ككائن بشري بالكامل ثم هرعتُ الي الدوائر الحكومية فمحوتُ إسميً من سجلاتها ، و مكثت بعدها منخرطا ً في حلقاتِ جدالٍ طويلٍة مع أميً حول حقيقة ولادتي ،نافيا زعمها بأنيً قد جئتُ بالاساس إلي هذه الدنيا ، و يبدو أن الفكرة قد راقت لها في خاتمة المطاف ، فهي اصلا كانت تتمني لو انني لم اُولد و هكذ صارت بعد ذلك تبارك جهوديً نحو الانسحاب من هذا العالم ، بل إنها أضحت مع مرور الأيام تميل إلي الإعتقاد أنني ربما كنتُ بالفعل مجرد شبح أ لمَ بحياتها و آنَ له أن يرحل في سلام .!
و كانت قد تبقت مسألة مهمة مرتبطة بإمكانيةِ نفيً وجودي البشري و هي كيفية التخلص من تلك المرأة التي منحتها القواميسُ لقب (زوجة ) و التي ما فتئت تصمُنيً بالجنون و هي تبكي لأيامٍ عديدة، لا تكاد تستوعب حقيقة انني أصلا لم أولد كأنسان و ان وجودي علي وجه هذه الأرض مجرد وهم كبير و ان أسمي كبنيً آدم مدونٌ- عبثاً - ضمن سجلات المليارات السبع و علي هذا النحو مكثتٌ عشرين نهارا محاولا إقناع تلك السيدة أنني قد جئئتُ الي عالمها من زهرِ الحديقة مجرد طيفٍ لملاكٍ تائهٍ بين الأرض و السماء قبل أن تعتريه سلسة ارتدادات جينية فتحوله الي خنفساء ، بيد أنها ظلت تأتي كل يوم و تقرع الباب باحثة عني و كنتُ أردُ عليها قائلاً :
( أنا لست موجودا الا في خيالكِ أيتها المرأة التي أذابَت نيرانُ الوجدَ و الشقاء كُتلَ الشحمَ في وركيها و عجيزتها فبدت مثل نخلةٍ يابسة الأفنانِ تشتهي الموت ،أنا مجرد وهم .انا لست انا . ).
لكنها دأبت تعكرُ صفو خلواتي رفقة سيدنا (كافكا ) و تداهم عزلتي ، ولا يبدو أنها كانت علي إستعداد لأن تفهم أنني قد صرتُ إلي خنفساء تلتهمُ جذوعِ النباتات الميتة و تقضي اللياليً وهي تلعنُ أضواءَ مصابيحِ النيونِ في بيوتِ البشر و رائحةَ المبيداتِ الحشرية في بساتينِ الفاكهة .
-(2)-
و في ذات صباح رائق ذيِ ابتسامة لامعة ظلت تشع من بين ثنايا أسنانهِ البلورية ، جلستُ أتفحصُ أعماقيً فأدركتُ أني قد نسيتُ الأشياء جميعها و ما عدتُ أذكُرُ شيئا .نسيت اسمي ، أمي ، اصدقائي ، اسماء الشوارع و الحارات و المدن ، طعم الماء و رائحة الهواء ، نسيت عفونة البشر ، مكائدهم ، رائحة الجدران ، صدي الطفولة البعيد ، فحيحُ الهرمونات في جسدي ، نسيتُ لغتيً ، هربت منيً العباراتُ و المفردات . تارجحت ذاكرتيً ثم إنسلت من بين تلافيفِ دِماغيً وتلاشت مثل فقاعاتِ الصابونِ في خضمٍ موجةِ رياحٍ طارئة.
و في الصباحِ التاليً أدركتُ أني قد نسيتُ أننيً أنسي . و بعد أن أنكرتُ صوتيَ الممزق النبرات و المضطربِ الذبذبات تهياتُ لمصيريً مستسلماً لغائلةِ الهواجس التي كانت تنهشُ أعصابيً . هكذا، و في تلك الساعة ، أخذتُ أزحفُ نحو الحائط و جسدي يرتعش ، و كان سيلُ العرقِ ما يزال يتدفق من مساميً حتي انه فاضَ علي ارضِ الغرفة و أخذَ يتسربُ من بين فرجاتِ الباب .كانت العتمة وحدها تسيطرُ علي كلِ شيءٍ ، و الوحشة تسري في المكان . تطلعتُ نحو الحائط الأسمنتيً الصلد و اخذتُ اُحدِقُ في صرصورٍ مسكينٍ ظل يراقب تحركاتيً متحفزاً كأنه جنديٍ علي جبهةِ القتال، فتراجعتُ خطوتينِ للوراء محاولاً النفاد من فرجاتِ الباب لكن محاولاتي باءت بالخسران بعد أن اطاحت بجسدي الضئيل موجاتُ هواء مروحةِ السقف، لكنما عزيمتيً لم تفتر ، فشرعتُ أجذبُ اطرافي ناحيةَ الطاولة مقاوماً تيارات الهواء القوية و صرت أدفع صدري باتجاه الباب مرةً اخري ، و عندما حشرتُ بصريً أسفل الباب صار بوسعيً أن أري بضعً أقدامٍ بشرية تسعي في الخارج ، و بصعوبةٍ بالغة تمكنتُ من التعرف علي قدميً زوجتيً اللعينة التي ظلت تنحني بين فينةٍ و اخري تجففُ سيلان العرق الذي تسلل نحو الردهة بمنشفةٍ بالية و قد كانت تبكي ايضا و تصرخ في وجه أحد الرجال قائلةً :
-كيف تاخرت كل هذا الوقت؟ . هاهو قد بلغ ذروة جنونهِ !
في تلك اللحظة ، مضيتُ أتحسسُ أرنبةّ أنفيً فوجدتُ مكانها قرنيً إستشعار ثم اخرجتُ لساني متحسساً فميً فأكتشفت أن فكيً الأعلي قد صارَ أكبرَ من الفكِ السُفليً علي النحو الذي كان يهييئنيُ تماما لقرض الهوآم و اليرقات . أصابتني رعدةٌ شديدة ، إعتدلت في جلوسي فأدركت ان لي ايضاً قوائمَ حشرية و زعانف ذات اغشيةٍ رقيقة علي الصدر . تساءلت : هل هذا هو ما أعتري السيد ريشهورش سامسا وقتما إستيقظَ ذات صباحٍ ليجد نفسه و قد تحولَ إلي حشرةٍ متوحشةٍ و هو ينامُ علي ظهرٍ كالفولاذ ؟ .
كان هواءُ مروحةِ السقف في تلك الساعة يبدو و كانه عاصفة بحرية هوجاء ، فقد ظلَ يقذف بي تارةً تحت السرير و اخري علي الحائط و انا لا أقاوم ، بل تركتُ نفسي مندسا بين طيات كتاب (المسخ ) لبضع دقائق كنتُ خلالها أستنشقُ رائحة عرق السيد (سامسا) حين أعيته حيلَ العيش و أجتاحه السامُ المجنون تجاهَ الحياة . ألفيتهُ يتطلعُ في وجهي الغارق في الشحوب و يستحثني علي الطيران و شرعت بعدها أتفحص كلمات أمهِ ساعةَ نبهته و هو في عزلته الي أن قلةَ تواصلهِ مع البشر ربما كانت سبباً في فسادِ عقلهِ و تفكيره .
و بعد برهةٍ من الوقت نحيتُ الكتابَ جانباً ثم أخرجتُ يديً و سويتُ قرونَ إستشعاري . و مع شدةِ هديرِ صوت السيد ( سامسا) في دواخليً كانت قد إجتاحت حواسيً طفراتٌ هائلة ، فصارَ بامكانيً أن أشتمَ روائحَ البشر كما تلتقطها أنوف الحشرات ، فعلي سبيلِ المثال كانت رائحة زوجتيً بشعة تشبهُ رائحةُ سلحفاةٍ ميتةٍ علي ضفة النهر و هكذا إنهمكتُ أيضاً أشتمُ رائحةُ الناسِ و الأشياء في الشارع و في البيوتِ المجاورة ، و قد كانت جميعها مقززة ، الامر الذي جعلني أفهم علي نحوٍ جيدٍ لم لا تلتهمُ الخنافس البني آدميين التعساء
و حين إستحكمتِ تلك اللحظة التاريخية ، هممتُ بالطيران بعد أن القيتُ نظرةَ الوداعِ الاخيرة علي جميعِ الاشياء .كانّ هنالك في تلك الساعةِ مغني مخمور يصدحُ في المبنيً المجاورِ باغنيةٍ هابطة لا تُمجد الحياة ، و ثمةَ رجلٌ يصرخُ من هولِ جحيمِ سيدةِ البيت ، و شخصٌ تائهُ في الشارعِ يسأل أخرا أن يرشدهُ السبيلَ نحو منزلٍ في الحيً تُقامُ فيه مراسمُ عزاءٍ لجندي قضي نحبهُ في الحرب الأهلية ،و كان هناك رتلٌ من تلاميذِ المدارس قافلين نحو بيوتهم يلهونَ بكلبٍ أعرج يقطنُ مع عائلتهِ في حانةٍ شعبية ، و أبصرتُ أيضاً إمراةً ممزقةِ الفؤادِ، تسألُ المارة عن طفلٍ عنيدٍ مشاكس فرً هارباً من قسورةِ البيت نحو مكانٍ مجهولٍ و برغم ذلك فإن أباهَ كان قد تجشأ طعامَ الغداء بلا مبالة ثم خلُد للراحةِ و هو لا يعباْ بمصيرِ الطفل.
و في خضمِ تلك المشاهد كلها جاءني من خلفِ الباب صوتُ تلك المرأة المجنونة التي أذابت نيران الحنين شحم صدرِها و وركيها فبدت مثل عنزٍ عجفاء ،فلم تلبث الا دقائق حتي إقتحمتَ عليً المكان و راحت تلحس جسدي بلسانها حتي تتاكد من حقيقة أني ما زلتُ بشراً من لحم و دم ، لكن لسانها ارتجف و مضت تلعقُ الهواء حين أيقنت أنيً قد تسللتُ من ثقبِ في الجدار و طرتُ سابحا في الفضاء و قد نبت لي جناحان قرمزيان بعد ان اكتملت جميع مراحل نموي كخنفساء وفق تصورات المنطق البايولوجي علي نهج سيدنا كافكا عليه شآبيب الرضوان !
_3_
كانت رائحةُ مستشفي الأمراض العقلية تبدو و كأنها رائحةُ جلد تمساح عجوز ، و انا أقضي أيامي هناك وحيدا في قبوٍ ضيقٍ لا تزوره الشمس و برغم الحراسة المشددة و العنف الذي مارسه الانذالُ في حقيً الا أنني تمكنت مرآت كثيرةٍ من الهرب ، مختبئاً أحياناً داخل أحدي المراحيضِ المهجورة و تارةً في قعرِ حذاءِ أحدي الممرضات ، و ذات مرةٍ طفقوا يبحثون عني حتي عثروا عليً في جوفِ ذراعِ الكرسي الذي كان يجلسُ عليهِ مدير المستشفي ، بيد أن هوايتيً المفضلة كانت في التسللِ ليلاً نحو مخزنِ المؤونة الواقعِ عند نهاية القبو المظلم ، هناك حيث أتمكن من الانزلاق نحو جوالات الأرز و العدس فالتهمُ حاجتي من الطعام و حين حاصرونيً ذات ليلة في ذلك المكان تمكنت من الطيران حتي وصلت الي الحديقة المجاورة للمستشفي و هناك إلتقطنيَ ذلك البستانيً العجوز و جاء بي و انا داخل أحدي علب الساردين الي كونسيلتو الاطباء الذين وقع عليهم الاختيار كي يصيغوا تقريرا نهائيا بشأن حالتي الغريبة .
و بعد مضي سنةٍ كاملة ، سئِمً الاطباءُ و أصابهم الضجر بعد ان أعيتهم الحيلة تجاه حالتي الغريبة فاطلقوا سراحي . صرتُ أمشي في الشوارع و انا ملتصقٌ بالجدران ، متجنبا تلك الأماكن التي تعج بالكائنات البشرية ، و كنتُ أنفقُ جل وقتي داخلَ مخازن الغلال و المطاعم و الكافتيريات و صالات الاعراس مستمعا بالتهام الفضلات ،و عندما دشنت السلطات حملة لاطلاق الغازات السامة في مواجهة الحشرات في تلك الاماكن العامة ، انتقلت لممارسة العيش في الحدائق و البساتين و لكن المبيدات السامة ظلت ايضا تطاردني هناك، فصرتُ أتنقل بين بيوتِ البشر ،متسللاً في جنحِ الظلام أقرضُ الأثاثات و بقايا الطعام و ما تيسر من تلك اليرقات التي تنمو في مجاري الصرف الصحي حتي وجدتُ نفسيً ذات يوم داخل أحدِ المنازل الواقعة في طرف المدينة و قد خيل ليَ وقتذاك أني اعرف ذلك المكان جيدا . كان المنزلُ غارقا في الظلام و يلفهُ الحُزن و الشحوب و لا تكاد تسمعُ فيه الا صوت آرملةٍ حزينةٍ ،أذاب الشقاءُ كتلَ الشحمَ في وركيها و عجيزتها ، و قد كانت في ذلك الوقت المتأخر من الليل تسعل و هي تتحس خطواتها في الظلام نحو الخارج لاعنة الزمان و الدهر كله ، و هي تحادث نفسها هكذا :
( هل قال أنه سوف يعيش في مخزن الغلال أم خزانة الكتب حين ينقلب الي خنفساء)؟
و عندما وصلت السيدة الي عتبة الباب صاحت قائلة باحد الرجال:-
( لماذ تأخرت كل هذا الوقت ؟ لعلك لا تعلم أن نوباتُ جنونه قد أخذت تستفحل بشكل لا يطاق ) ،
همهم الرجل بكلام لم أتبينه كثيرا ثم مضي يعالج قفل حقيبته ، و عند تلك اللحظة إنعكس ضوءُ مصابيحِ إحدي السيارات في الخارج علي المكان ، فاستطاعت المرأة بمعاونة ذلك الطبيب الذي بدا ساخطا علي الدنيا جراء انقطاع التيار الكهربائي أن تعيد ثقتها شيئا ما حول إمكانية الرؤيا و يبدو أن الظنون حينذاك قد أخذت تساورها أيضاً حول ما اذا كان من الممكن أن يتدفق تدفق نهر الحياةِ مجددا صوب بيتها ، و عندما شرع الطبيب يتفحص جسدي ، كنتُ قد بدأت أتوغل بين طيات كتاب(المسخ ) بشكل مزعج حتي أنيً صرتُ في تلك اللحظة التي أراد فيها الرجل أن يتحسس بدنيً ألتصقُ بسطح الورق و كأني خنفساء تتشبثُ بحواف ثمرة البطاطا، و قد سمعتُ الطبيب يؤكد لزوجتيً -عقب محاولات مضنية لاستخلاص جسدي من بين ثنايا النص- أن ليس ثمة قوةٍ علي وجهِ البسيطة بامكانها نزع هذا الجسد عن صفحاتِ الكتاب فهو لا يبدو كجسد بشري بل إنه بالمقابلِ يتجسد كحرفِ يستعصي علي ممحاةِ الزمان و لا يبدو أنه سوف يغادر موقعه بين الكلمات ، و هكذا نصحها بأن تدع جثتيً مقبورةً بين السطور و أن تهب ثواب الكتاب العظيم للصالحين و لاولئك الذين أحببتهم يوما ما خلال حياتي القصيرة . ثم إنصرف بعد أن قرأ علي روحي الفاتحة ، بينما تمددتُ مضجعاً في مثوايً الأخير الكائنُ في فضاء نصوص كافكا ، متلذذاً بموتيً الفريد ، أقرأ طالع المدينة كلما سنحَ الوقت و إنفجر ضاحكا كلما أبصرتُ شبح السيد سامسا و هو رابضٌ فوق سماءِ الكتابةِ علي هيئةِ سحابةٍ سوداء لا تخبيءُ بين طياتها إلا مزيداً من مطرِ البؤس و الالآم .
هامش .................
- رشهيورش سامسا : بطل رائعة فرانتز كافكا (المسخ )
-