عباس العكري - قراءة في "حيرة" لعبدالرحيم التدلاوي

1/ المشهد الأول
المكان خال إلا مني، وبرد يسكن عظامي كالصقيع.
أحمل الشوكة والسكين، وأتناول لقمة بعد أخرى بيدي اليمنى غير مبال.
نظرات شزراء تلسعني، أشعر بها، لكني لا أراها
الشارع تعمه فوضى الصمت والخواء.
أخرج إلى الدفء لأرقص رقصة شريط: حب تحت المطر.
نظراتي منكسرة، جوفاء كقرون تنين
يا للسعادة!
يرتفع الماء
ويرتفع
هناك أنمو
بين شقائق النعمان.
***
2/ المشهد الثاني
الصحن فارغ تماما، كأني بفم أدرد يضحك فيطيش منه رذاذ أبيض.
توقظني من انهماكي:
السماء تمطر خارجا باجتهاد وحرارة
تجرني مظلتي جرا كما لو كنت كبش عيد يعاند الذبح المقدس.
وحيدا أنا والقطرات تعصرني
يغسلني الماء مني، يطهرني، يسمو بروحي إلى آفاق النور، يمسحها بمنديل النور...تزدهي، يسكنها السكون، والسكينة.
يا لحزني !.
يرتفع
يحملني معه، يجرفني إلى الحقول الشاسعة.
وأنمو
بين شقائق النعمان.
***

يبدو أنه بائع متجول يبيع أدوات الطبخ المنزلية، مغترب عن وطنه، جالس مكانه لا يتحرك من شدة البرد الذي جمّد عظامه، والناس ترمقه بنظراتها الشزرة تلسعه باحتقار، فلا أحد يرأف لحاله أو يشتري منه، في ذلك الجو البارد، عند ذلك الشارع، الذي لايجد فيه سوى الصمت ممن فيه، فلا من مدافع عنه أو متكلم لما يجري له من بؤس، فالناس هناك خاوية ضمائرهم من الرحمة.

يتناول الشوكة والسكين، الشوكة كناية المشقة والآلآم وأما السكين يطلبها للسكينة والخلاص، ولقمة اليد كناية العزة وعدم الرضوخ والذل فهو يأكل بيده لا من الشحذ من الآخرين. وحيدا لربما في صحن داره لا أهل لديه يواسونه لحاله الصعب. وصوت سقوط قطرات المطر على الصحن يستدعي منه الرقص لاطربا بل رثاء لحاله، كشريط حياته الذي يتكرر دون توقف، كموسيقى حب تحت المطر، موسيقى السبعينات، ولربما تسعفه رواية نجيب محفوظ فترة ما بعد النكسة وقبل تحرير سيناء !

ولما هطلت قطرات المطر على الصحن الذي يحمله مع الشوكة والسكين، تناثرت عليه قطرات المطر كما يتطاير رذاذ الفم البشري حينما يضحك سخرية.

واستمر هطول المطر بشدة، فأخذ يحمل مظلته التي يتوقع منها أن تحميه، لكنها أصبحت تقاومه وتجره من شدة الرياح، وأصبح يقاومها بقوة لا نفع منها، كأنه أصبح كبشا قد حان موعد ذبحه احتفاء بقدوم العيد، لكن أيامه تزداد كآبة و لكأنما قدوم العيد ليزيده كآبة وحزنا.

منكسر الخاطر منكس رأسه، كقرن تنين خاوي، فبالرغم من أن قرن التنين يستخدم للعزف وإصدار الألحان الحزينة بدلا من يستخدمها للدفاع عن نفسه كباقي المخلوقات، وكأنما يبث حزنه دون جدوى، وماذا ينفع الإنسان إذا بث شكواه لمن لا يسمعه!

يعاني الشعور بالوحدة والاغتراب عن هذا المجتمع واللوعة تعصره من شدة الحزن والألم النفسي، وكأنما قطرات المطر رأفت به، وأخذ يعصرها الألم لحاله، فقامت تزداد انهمارا، ترثي لحاله وتبكي معه لحاله الكئيب، ولكن شدة انهمارها حزنا عليه، زاده ابتلالا أكثر وأكثر، فكانما معاناة الآخرين لحال هذا البائس لايعتبر تضامنا بل يزداد شعوره بالكآبة لتضامن الآخرين لحاله حزنا عليهم أو شفقة بهم، وكيف لا فحالته تبكي من لاقلب له، ولربما تأبى كرامته أن يكون محل شفقة للآخرين.

فارتفع سيل المطر الجارف، الذي جرفه وأحزانه، نحو حقول شاسعة، تنمو فيها شقائق النعمان، الزهرة البرية الحمراء الجميلة التي ارتبطت بالأدب العربي، وقيل أنها نبتت على قبر النعمان بن المنذرأشهر ملوك الحيرة عندما داسته الفيلة إذ رفض الخضوع لملك الفرس بتسليم نساء العرب فكانت معركة ذي قار، ولهذا نسبت إليه.

يبدو أن حزنه ممتد لحقول شاسعة من المعاناة والحزن، فأحزانه متعددة الحقول، ينمو فيها العذاب والحسرة.
امتزج الواقع بالخيال والفانتازيا والدراما.
نص يجمع التضادات وحدثين في زمنين مختلفين، مبنى ومتن حكائي وسرد متقن، احتاج النص للتفكيك وما زلنا نغوص في أعماقه فهو ذو أبعاد متعددة، لم يجعل لنا الكاتب حلا لفك غموضه، ولربما حتى هو لن يقدر عليه!
***
عباس علي العكري
11يونيه 2016م
ع ع ع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى