لم يكن يرغب في ان يصبح موظفا لولا ضيق ذات اليد و«صعوبة الحياة»، على حد تعبير صديق عمره ناصر، لكنه كان يحلم ان يصبح كاتبا وكفى. كاتبا مهما له اسم في دنيا الأدب والصحافة وعوالم الابداع. ليس بالضرورة ان يكون مثل بورخريس أو نجيب محفوظ أو محمد زفزاف ولا أي كاتب آخر له صيت وشهرة واسعة متداول عند ملتهمي الكتب. المهم هو ان يصبح كاتبا مثلما يريد هو أو على الأقل مثلما يريده ان يكون صديق عمره ناصر.
ـ صح يا ناصر الحياة صعبة..!
ـ منذ زمان هي هكذا هذه الفتنة التي يسمونها الحياة..!
ـ لكن من أين لك انت كل هذه الفلسفة يا ناصر وأنت لست كاتبا..؟
ـ من الحياة ذاتها، من تفاصيل اليومي، من المعيش..
ـ الحياة فلسفة..! جميل اذن.. لكن دعنا من هذا واهتم لأمري، ألا ترى ان الوظيفة تخنقني.
كربطة عنق..؟!
ـ أرى ذلك وما عساني أفعل لك..
لسنوات ظل يقبع وراء مكتبه يحاكي الوظيفة من دون ان ينصهر في دواليبها، لا يأبه لربطة العنق يتركها دوما في جيب بذلته. نادرا ما كان يلمع حذاءه. خارج أوقات العمل لا يحدث زملاءه الا لماما كان يفر من الادارة مهرولا في اتجاه رحابة الخارج، أو الشارع، أو البحر، أو الحديقة، أو المقهى أحيانا وأحيانا أخرى يختفي في شماعة السينما.. لكنه كان لا يجد نفسه الا في الكتابة حين تسعفه العبارة ويغرق في متخيل لا متناه لا يستيقظ منه متى يكون امام نص جدير بالنشر في الصحيفة التي يداوم النشر فيها ويكتب فيها عموده الاسبوعي المعنون بـ «أول السطر».
ناصر الذي يدمن على قراءة عمود صديقه لمرات انتقده لأنه يهاجم السلطة باسلوب تقريري يصل حد المبالغة، ولمرات فشل في ثنيه عن الاستمرار في التعاطي مع قضايا الساعة بالاسلوب التقريري نفسه تماما. العمود يحتاج الى روح الدعابة والنقد الساخر، العمود فسحة ساحر يتقن فن التراشق بالكلمات، هكذا كان يقول له..
ـ يا عزيزي العمود فن جهابذة الكتابة، يجب اتقان كتابته أو تركه..
ـ العمود موقع لا يعرف المهادنة..!
ـ لكن ليس بهذا الاسلوب..
ـ لكل كاتب اسلوبه الخاص، وانا هذا هو اسلوبي..
ـ لكنك تكتب القصة بشكل جيد..
ـ القصة مسألة اخرى انها قصة..! وأحيانا قصيرة..!
ـ يا سبحان الله انت لن تتغير ابدا..!
ـ هذا أفضل..!
لكن كل هذا ليس مهما في اعتقاد «الهادي» الأهم هو ان يجد له مخرجا من ورطة الوظيفة ليتفرغ لولعه وهيامه بالكتابة ما دامت هي الهواء النقي الذي يشبع رغبة التنفس عنده. الكتابة هي قدره الأمثل وربما لأجلها فقط وجد في ارخبيلات هذه الدنيا الغريبة..! الوظيفة ورطة أو شر ليس منه بد، اما الكتابة فهي الانصات والتأمل والجسر الرمزي الذي يشده الى الناس والأمكنة والتفاصيل، الكتابة عنده معول لحفر انقاض اللحظات المنفلتة من عمره وبوصلة تقوده في اتجاه تعدد محطات المستقبل.
لا أحد يستطيع ان يتصور نشوة «الهادي» وهو يرى صورته على ظهر غلاف الكتاب، كتابه الأول، صورته وهو يدخن الغليون الذي اشتراه خصيصا لهذه المناسبة، بعدما اخذ له الفوتوغراف عشرات الصور ليختار واحدة، واحدة فقط تختزل صورة الكاتب في مشهد سينمائي يميل الى الرومانطقية، ولكم ستكون فرصته كبيرة عندما سيعلن عن اصداره في واجهة مكتبة «أعمدة سقراط» خلف زجاج عرض الكتب الحديثة حيث يتوافد مثقفو المدينة لاكتشاف ما جد في أدبيات الابداع والمعرفة، وبمجرد ان تقع أعينهم على كتاب «الهادي» الأول سيصابون بالدهشة والذهول وسيعرفون مدى أهمية وقيمة هذا الكتاب.
ناصر هو الآخر سيفاجأ بهذا المنجز العظيم..! على رغم انه يعرف «الهادي» حق المعرفة.
و«هدى» الموظفة بشركة التبغ ستعجب به بعدما تعاملت معه باستعلاء لسنوات لأنه مجرد موظف بسيط تابع لوزارة اعداد التراب. على رغم انه حاول لمرات الاقتراب منها وبشتى السبل، لكن من دون جدوى..!
اما طليقته خديجة فستندم لأنها تركته وحيدا وهاجرت مع ذلك الكلب الأجرب المسمى سمير قبل حتى ان يطلقها لتستقر معه في روما العاصمة الايطالية تحت غطاء الزواج المدني.
رئيسه في الوظيفة سيفزع من هول الحدث، وسيضطر إلى الاعتراف به بعدما مارس عليه شتى أنواع التهميش، وليس ثمة أكثر فظاعة من ان تقضي ربع قرن من الزمن وأنت تسبح في خزان أرشيف وزارة لإعداد التراب أو بالأحرى لإعداد الغبار..!
عائلته، جيرانه، أصدقاؤه، وكل الذين يعرفونه وتجاهلوه لسنوات سيعرفون قدره وسمو شأنه وسيتأكدون بالفعل ان اختياراته كانت صائبة وان عزوفه عن مظاهر الزيف ومتاهات الاغراءات كان فقط لأجل انتصار قيم الخلق والابداع والكتابة عنده.
صحيح انه استاء قليلا لأن صورته لم تكن واضحة على ظهر الغلاف ولم تكن بالألوان كما أراد، لكن لا بأس سيستدرك أمر ذلك في الكتاب الثاني، لأنه سيشرف على تفاصيل اعداده من الاخراج حتى الصدور وسيضع صورة مغايرة عن الأولى وواضحة كالشمس، لأن الصورة تعد سلطة على زيغان العين وتضفي جمالية قصوى على شكل الكتاب.
وعندما ستتراكم أعماله، العمل تلو الآخر، ما دام العمر قصيرا، ولم يعد هناك متسع من الوقت عنده لتضييعه، سيجمع هذه الأعمال في مجلدات أنيقة لتصدر متسلسلة على شكل أعمال كاملة، وبهذا سيتخلص من آلاف الصفحات التي اختزلت تجربة العمر والليالي وكثافة اللحظات، انه تاريخه الشخصي بمحتوى ابداعي، وقدره النهائي الذي يحمل عنوانا عريضا «الكاتب»..
ادريس علوش
المغرب
ـ صح يا ناصر الحياة صعبة..!
ـ منذ زمان هي هكذا هذه الفتنة التي يسمونها الحياة..!
ـ لكن من أين لك انت كل هذه الفلسفة يا ناصر وأنت لست كاتبا..؟
ـ من الحياة ذاتها، من تفاصيل اليومي، من المعيش..
ـ الحياة فلسفة..! جميل اذن.. لكن دعنا من هذا واهتم لأمري، ألا ترى ان الوظيفة تخنقني.
كربطة عنق..؟!
ـ أرى ذلك وما عساني أفعل لك..
لسنوات ظل يقبع وراء مكتبه يحاكي الوظيفة من دون ان ينصهر في دواليبها، لا يأبه لربطة العنق يتركها دوما في جيب بذلته. نادرا ما كان يلمع حذاءه. خارج أوقات العمل لا يحدث زملاءه الا لماما كان يفر من الادارة مهرولا في اتجاه رحابة الخارج، أو الشارع، أو البحر، أو الحديقة، أو المقهى أحيانا وأحيانا أخرى يختفي في شماعة السينما.. لكنه كان لا يجد نفسه الا في الكتابة حين تسعفه العبارة ويغرق في متخيل لا متناه لا يستيقظ منه متى يكون امام نص جدير بالنشر في الصحيفة التي يداوم النشر فيها ويكتب فيها عموده الاسبوعي المعنون بـ «أول السطر».
ناصر الذي يدمن على قراءة عمود صديقه لمرات انتقده لأنه يهاجم السلطة باسلوب تقريري يصل حد المبالغة، ولمرات فشل في ثنيه عن الاستمرار في التعاطي مع قضايا الساعة بالاسلوب التقريري نفسه تماما. العمود يحتاج الى روح الدعابة والنقد الساخر، العمود فسحة ساحر يتقن فن التراشق بالكلمات، هكذا كان يقول له..
ـ يا عزيزي العمود فن جهابذة الكتابة، يجب اتقان كتابته أو تركه..
ـ العمود موقع لا يعرف المهادنة..!
ـ لكن ليس بهذا الاسلوب..
ـ لكل كاتب اسلوبه الخاص، وانا هذا هو اسلوبي..
ـ لكنك تكتب القصة بشكل جيد..
ـ القصة مسألة اخرى انها قصة..! وأحيانا قصيرة..!
ـ يا سبحان الله انت لن تتغير ابدا..!
ـ هذا أفضل..!
لكن كل هذا ليس مهما في اعتقاد «الهادي» الأهم هو ان يجد له مخرجا من ورطة الوظيفة ليتفرغ لولعه وهيامه بالكتابة ما دامت هي الهواء النقي الذي يشبع رغبة التنفس عنده. الكتابة هي قدره الأمثل وربما لأجلها فقط وجد في ارخبيلات هذه الدنيا الغريبة..! الوظيفة ورطة أو شر ليس منه بد، اما الكتابة فهي الانصات والتأمل والجسر الرمزي الذي يشده الى الناس والأمكنة والتفاصيل، الكتابة عنده معول لحفر انقاض اللحظات المنفلتة من عمره وبوصلة تقوده في اتجاه تعدد محطات المستقبل.
لا أحد يستطيع ان يتصور نشوة «الهادي» وهو يرى صورته على ظهر غلاف الكتاب، كتابه الأول، صورته وهو يدخن الغليون الذي اشتراه خصيصا لهذه المناسبة، بعدما اخذ له الفوتوغراف عشرات الصور ليختار واحدة، واحدة فقط تختزل صورة الكاتب في مشهد سينمائي يميل الى الرومانطقية، ولكم ستكون فرصته كبيرة عندما سيعلن عن اصداره في واجهة مكتبة «أعمدة سقراط» خلف زجاج عرض الكتب الحديثة حيث يتوافد مثقفو المدينة لاكتشاف ما جد في أدبيات الابداع والمعرفة، وبمجرد ان تقع أعينهم على كتاب «الهادي» الأول سيصابون بالدهشة والذهول وسيعرفون مدى أهمية وقيمة هذا الكتاب.
ناصر هو الآخر سيفاجأ بهذا المنجز العظيم..! على رغم انه يعرف «الهادي» حق المعرفة.
و«هدى» الموظفة بشركة التبغ ستعجب به بعدما تعاملت معه باستعلاء لسنوات لأنه مجرد موظف بسيط تابع لوزارة اعداد التراب. على رغم انه حاول لمرات الاقتراب منها وبشتى السبل، لكن من دون جدوى..!
اما طليقته خديجة فستندم لأنها تركته وحيدا وهاجرت مع ذلك الكلب الأجرب المسمى سمير قبل حتى ان يطلقها لتستقر معه في روما العاصمة الايطالية تحت غطاء الزواج المدني.
رئيسه في الوظيفة سيفزع من هول الحدث، وسيضطر إلى الاعتراف به بعدما مارس عليه شتى أنواع التهميش، وليس ثمة أكثر فظاعة من ان تقضي ربع قرن من الزمن وأنت تسبح في خزان أرشيف وزارة لإعداد التراب أو بالأحرى لإعداد الغبار..!
عائلته، جيرانه، أصدقاؤه، وكل الذين يعرفونه وتجاهلوه لسنوات سيعرفون قدره وسمو شأنه وسيتأكدون بالفعل ان اختياراته كانت صائبة وان عزوفه عن مظاهر الزيف ومتاهات الاغراءات كان فقط لأجل انتصار قيم الخلق والابداع والكتابة عنده.
صحيح انه استاء قليلا لأن صورته لم تكن واضحة على ظهر الغلاف ولم تكن بالألوان كما أراد، لكن لا بأس سيستدرك أمر ذلك في الكتاب الثاني، لأنه سيشرف على تفاصيل اعداده من الاخراج حتى الصدور وسيضع صورة مغايرة عن الأولى وواضحة كالشمس، لأن الصورة تعد سلطة على زيغان العين وتضفي جمالية قصوى على شكل الكتاب.
وعندما ستتراكم أعماله، العمل تلو الآخر، ما دام العمر قصيرا، ولم يعد هناك متسع من الوقت عنده لتضييعه، سيجمع هذه الأعمال في مجلدات أنيقة لتصدر متسلسلة على شكل أعمال كاملة، وبهذا سيتخلص من آلاف الصفحات التي اختزلت تجربة العمر والليالي وكثافة اللحظات، انه تاريخه الشخصي بمحتوى ابداعي، وقدره النهائي الذي يحمل عنوانا عريضا «الكاتب»..
ادريس علوش
المغرب