تجمع العشرات من أقارب “النمرود” وجماعته وأصحابه أمام باب السجن ينتظرون بزوغ وجهه حراً من سنوات الاعتقال الطويلة.
تحن شمس جهنمية وقفوا لا يحفلون بتجفيف عرقهم النازف من جباههم أو الدموع الطافرة من عيونهم.
همست أمه العجوز في أذن زوجها المهدوم وهي لا تحول بصرها عن بوابة السجن:
– أحضرت له معي نظارة سوداء، كي تخفي دمعه إن انفعل فبكى.
قال أبوه بصوت متهافت:
– النمرود لا يبكي.. اللعنة لماذا لم يفرجوا عنه حتى الآن؟
قالت زوجته تمد رقبتها تتعجل إطلالته:
– لكنه إنسان.
قال أبوه بعناد:
– النمرود لا يبكي.
ومسح العجوز بقفا يده دموعه التي غالبها فغلبته وكرر:
– لن يبكي، خصوصاً أمام الحرس.
والتفت أحد أصدقائه إلى ابن عمه وقال:
– أراهن أنه لن يتمالك أن يجهش حين يقع بصره على أمه.
رد ابن عمه وهو يقتعد الأرض ضجراً:
أراهنك بعشر ليرات أنك لن تلمح دمعة في عينيه إلا حين يبصر زوجته.
– أراهن على أمه.
– أراهن على زوجته.
-ماشي الرهان.
تقدم قزم يبتسم بسمة تتميز بالبلاهة وقال بصوت ناحل:
– لا أوافقكما، الدموع لا تعرف إلى عيني النمرود لكنه قد يفجع حين يكتشف أن رجال الشرطة صادروا حصانه منذ عام.
قال ابن العم بلهجة لا تخلو من نزق:
– نحن نتكلم على الانفعال يا أحمق.
قال القزم وهو ينظر في الأرض:
– النمرود لا يبكي، أنا أخبر الناس به.
وفي ركن آخر من الساحة الممتدة أمام المعتقل، لم يخف أحدهم ارتيابه وقلقه لإطلاق النمرود. قال متأففاً:
– صحيح أنه قبضاي وشهم، لكنه متهور وعنيد أيضاً وقد تكون عودته إلى البلدة فاتحة مصائب نحن في غنى عنها.
نكت الآخرون التراب بأظافرهم. والتزموا الصمت بينما دارت عيونهم قلقة ودار حولها الذباب. همس أحدهم بصوت متهافت:
– يقولون أنه متخلف عقلياً، لكنه قوي كالثور.
توسطت الشمس السماء، وكر حرها ينهب الأعصاب سكينتها ويغزو الحاجر.
تعالت الهمهمات من هنا وهناك ثم استحالت إلى صرخات مدوية:
-أين نمرود. أفرجوا عن النمرود.
وتململ حرس بوابة السجن، ثم شهروا أسلحتهم.
وفجأة انشقت بوابة السجن عن ضابط أسمر وسيم ذي شارب أنيق. وقف أمام الجمهور الصغير وهتف:
– أين زوجة النمرود؟
فز أبو النمرود مغضباً:
– وما شأنك أنت؟
سأله الضابط:
– أأنت والده.
رد العجوز مباهياً:
– نعم.
مسح الضابط شاربه الأنيق بأصابع غلظة ثم قال:
– حسناً، تفضل معي لحظة لو سمحت.
وتعالت الهمهمات وتطايرت الشتائم وضجت الحيرة ف العيون.
اجتاز العجوز دهاليز المعتقل بخطوات وئيدة تسانده ذراع الضابط ثم أنتقل الضابط فجأة فإذا العجوز واقف إزاء ولده “النمرود” وجهاً لوجه. ومضت في عيني العجوز دمعة سرعان ما انسكبت وهو يأخذ ولده بين ذراعيه.
من خلفهما جاء صوت الضابط:
– النمرود يا حاج لا يريد أن يريد أن يترك الزنزانة.
اتسعت عينا الأب عجباً وقال بصوت ملهوج:
– غير معقول.
ثم قبض على ذراع النمرود القوية وسأله دهشاً:
– قل أنه يكذب، قل.
لم تهتز عضلة واحدة في جسد النمرود. رنا إلى أبيه اتقد فيهما وميض عجيب وقال بصوت عميق:
– إنه الجدار.
سأله أبوه لا يفهم:
– الجدار:
قال النمرود وهو يتحسس أحد جدران الزنزانة بيديه:
– كتبت عليه بعيدان الثقاب مذكراتي وقصائدي وشتائمي.
قال الأب ملتاعاً:
– لكنهم ينتظرون.
– أريد أن أصحب الجدار.
– زوجتك وأمك.
– الجدار لي، يريدون مصادرة ذاكرتي وكلماتي.
تدخل الضابط قائلاً
– قلت لك إننا سننقل كل كلمة كتبتها على ورقة ونزودك إياها في أقرب وقت.
ضرب النمرود أرض الزنزانة بقدمه الثقيلة وصرخ:
– أريد الأصل، لا نقل ولا نسخ.
نفخ الضابط وهو يقول:
– أتريدنا أن نهدم جدار السجن؟
هاج النمرود وصاح:
-أنتم من زج بي في هذه الزنزانة، أنتم المسؤولون، أريد قصائد بخط يدي.
قال الأب يتوسل:
-أمك وزوجتك.
شبك النمرود ذراعيه ووقف وقفة من عقد العزم أن لا تنازل.
تقدم إليه الضابط وربت كتفه بصوت رقيق:
-حسن، حسن، سنقتلع الجدار ونرسله إلى بلدتك في أسبوع. أما الآن فعليك مغادرة السجن ومقابلة أحبائك.
عادت عينا العجوز تتسعان وسأل الضابط:
-أتتعهد له ذلك فعلاً؟
غمز الضابط العجوز بمكر وقال يصطنع الصدق:
-اقسم.
فهم الشيخ العجوز كل شيء. هز رأسه حسرة ثم أخذ ولده المتردد من ذراعه وهو يتمم:
-حلت المشكلة، تعال الآن يا ولدي، تعال.
وبينما هجم عليه أهله وأصحابه يقبلونه ويراقبون باهتمام وفضول متى ستهبط أول دمعة من عيني هذا العملاق الأسطورة جعل هو يعانق الناس وينظر إليهم بعينين ثابتتين وبسمة حالمة تنتحل شفتيه.
علق والده مفاخراً:
-ألم أقل لكم أنه عصي على الدمع يتأبى الضعف.
وفي باحة الدار اجتمع عشرات المهنئين والأصحاب وأولاد العشيرة، وبينما انطلقت الزغاريد ابتهاجاً والأغاني احتفالاً بحرية النمرود، وقف هو شامخاً كجواد أصيل وهمس في أذن أمه وهو يراقب أصابعه ترتعش لأول مرة أنه سيدخل الدار ليغتسل.
وولج الدار وانفتل صوب الحمام. دخل وأقفل الباب من ورائه بعناية. ثم انهار ساجداً ضارباً رأسه بالجدار. غطى وجهه بكفيه. واستسلم لبكاء طويل. وحين استبطأته أمه وزوجته جاءتا الدار وقرعتا باب الحمام.
خرج النمرود شامخاً يبتسم بكبرياء وثقة، غاسلاً وجهه وعينيه. وحين لمحت أمه بحدسها دمعة في طرف عينيه اجتاحهما فرح طفولي وقالت لنفسها: كان يبكي من شوقه إلي.
وقالت زوجته لنفسها مبتهجة حين لاحظت ذلك الأثر الذاوي للدمعة الراحلة: أخيراً ذرف لي دمعة.
وحين خرج للناس عاد الهتاف والتصفيق ولكز الأب العجوز أبناء عمه في ثقة وزهو وقال بصوت متحشرج:
-ألم أقل لكم أن النمرود عصي على الدمع انظروا شموخه.
-خسرنا الرهان لم تنسكب من عينيه دمعة.
وكمحارب لا يعرف هدنة ولا يطاطئ لعاصفة اتخذ النمرود مجلسه بين أحبائه. وملأ رئتيه بالهواء المنعش، وتنهد.
___________
* من مجموعة”النمرود”.
* نقلا عن موقع ثقافات
تحن شمس جهنمية وقفوا لا يحفلون بتجفيف عرقهم النازف من جباههم أو الدموع الطافرة من عيونهم.
همست أمه العجوز في أذن زوجها المهدوم وهي لا تحول بصرها عن بوابة السجن:
– أحضرت له معي نظارة سوداء، كي تخفي دمعه إن انفعل فبكى.
قال أبوه بصوت متهافت:
– النمرود لا يبكي.. اللعنة لماذا لم يفرجوا عنه حتى الآن؟
قالت زوجته تمد رقبتها تتعجل إطلالته:
– لكنه إنسان.
قال أبوه بعناد:
– النمرود لا يبكي.
ومسح العجوز بقفا يده دموعه التي غالبها فغلبته وكرر:
– لن يبكي، خصوصاً أمام الحرس.
والتفت أحد أصدقائه إلى ابن عمه وقال:
– أراهن أنه لن يتمالك أن يجهش حين يقع بصره على أمه.
رد ابن عمه وهو يقتعد الأرض ضجراً:
أراهنك بعشر ليرات أنك لن تلمح دمعة في عينيه إلا حين يبصر زوجته.
– أراهن على أمه.
– أراهن على زوجته.
-ماشي الرهان.
تقدم قزم يبتسم بسمة تتميز بالبلاهة وقال بصوت ناحل:
– لا أوافقكما، الدموع لا تعرف إلى عيني النمرود لكنه قد يفجع حين يكتشف أن رجال الشرطة صادروا حصانه منذ عام.
قال ابن العم بلهجة لا تخلو من نزق:
– نحن نتكلم على الانفعال يا أحمق.
قال القزم وهو ينظر في الأرض:
– النمرود لا يبكي، أنا أخبر الناس به.
وفي ركن آخر من الساحة الممتدة أمام المعتقل، لم يخف أحدهم ارتيابه وقلقه لإطلاق النمرود. قال متأففاً:
– صحيح أنه قبضاي وشهم، لكنه متهور وعنيد أيضاً وقد تكون عودته إلى البلدة فاتحة مصائب نحن في غنى عنها.
نكت الآخرون التراب بأظافرهم. والتزموا الصمت بينما دارت عيونهم قلقة ودار حولها الذباب. همس أحدهم بصوت متهافت:
– يقولون أنه متخلف عقلياً، لكنه قوي كالثور.
توسطت الشمس السماء، وكر حرها ينهب الأعصاب سكينتها ويغزو الحاجر.
تعالت الهمهمات من هنا وهناك ثم استحالت إلى صرخات مدوية:
-أين نمرود. أفرجوا عن النمرود.
وتململ حرس بوابة السجن، ثم شهروا أسلحتهم.
وفجأة انشقت بوابة السجن عن ضابط أسمر وسيم ذي شارب أنيق. وقف أمام الجمهور الصغير وهتف:
– أين زوجة النمرود؟
فز أبو النمرود مغضباً:
– وما شأنك أنت؟
سأله الضابط:
– أأنت والده.
رد العجوز مباهياً:
– نعم.
مسح الضابط شاربه الأنيق بأصابع غلظة ثم قال:
– حسناً، تفضل معي لحظة لو سمحت.
وتعالت الهمهمات وتطايرت الشتائم وضجت الحيرة ف العيون.
اجتاز العجوز دهاليز المعتقل بخطوات وئيدة تسانده ذراع الضابط ثم أنتقل الضابط فجأة فإذا العجوز واقف إزاء ولده “النمرود” وجهاً لوجه. ومضت في عيني العجوز دمعة سرعان ما انسكبت وهو يأخذ ولده بين ذراعيه.
من خلفهما جاء صوت الضابط:
– النمرود يا حاج لا يريد أن يريد أن يترك الزنزانة.
اتسعت عينا الأب عجباً وقال بصوت ملهوج:
– غير معقول.
ثم قبض على ذراع النمرود القوية وسأله دهشاً:
– قل أنه يكذب، قل.
لم تهتز عضلة واحدة في جسد النمرود. رنا إلى أبيه اتقد فيهما وميض عجيب وقال بصوت عميق:
– إنه الجدار.
سأله أبوه لا يفهم:
– الجدار:
قال النمرود وهو يتحسس أحد جدران الزنزانة بيديه:
– كتبت عليه بعيدان الثقاب مذكراتي وقصائدي وشتائمي.
قال الأب ملتاعاً:
– لكنهم ينتظرون.
– أريد أن أصحب الجدار.
– زوجتك وأمك.
– الجدار لي، يريدون مصادرة ذاكرتي وكلماتي.
تدخل الضابط قائلاً
– قلت لك إننا سننقل كل كلمة كتبتها على ورقة ونزودك إياها في أقرب وقت.
ضرب النمرود أرض الزنزانة بقدمه الثقيلة وصرخ:
– أريد الأصل، لا نقل ولا نسخ.
نفخ الضابط وهو يقول:
– أتريدنا أن نهدم جدار السجن؟
هاج النمرود وصاح:
-أنتم من زج بي في هذه الزنزانة، أنتم المسؤولون، أريد قصائد بخط يدي.
قال الأب يتوسل:
-أمك وزوجتك.
شبك النمرود ذراعيه ووقف وقفة من عقد العزم أن لا تنازل.
تقدم إليه الضابط وربت كتفه بصوت رقيق:
-حسن، حسن، سنقتلع الجدار ونرسله إلى بلدتك في أسبوع. أما الآن فعليك مغادرة السجن ومقابلة أحبائك.
عادت عينا العجوز تتسعان وسأل الضابط:
-أتتعهد له ذلك فعلاً؟
غمز الضابط العجوز بمكر وقال يصطنع الصدق:
-اقسم.
فهم الشيخ العجوز كل شيء. هز رأسه حسرة ثم أخذ ولده المتردد من ذراعه وهو يتمم:
-حلت المشكلة، تعال الآن يا ولدي، تعال.
وبينما هجم عليه أهله وأصحابه يقبلونه ويراقبون باهتمام وفضول متى ستهبط أول دمعة من عيني هذا العملاق الأسطورة جعل هو يعانق الناس وينظر إليهم بعينين ثابتتين وبسمة حالمة تنتحل شفتيه.
علق والده مفاخراً:
-ألم أقل لكم أنه عصي على الدمع يتأبى الضعف.
وفي باحة الدار اجتمع عشرات المهنئين والأصحاب وأولاد العشيرة، وبينما انطلقت الزغاريد ابتهاجاً والأغاني احتفالاً بحرية النمرود، وقف هو شامخاً كجواد أصيل وهمس في أذن أمه وهو يراقب أصابعه ترتعش لأول مرة أنه سيدخل الدار ليغتسل.
وولج الدار وانفتل صوب الحمام. دخل وأقفل الباب من ورائه بعناية. ثم انهار ساجداً ضارباً رأسه بالجدار. غطى وجهه بكفيه. واستسلم لبكاء طويل. وحين استبطأته أمه وزوجته جاءتا الدار وقرعتا باب الحمام.
خرج النمرود شامخاً يبتسم بكبرياء وثقة، غاسلاً وجهه وعينيه. وحين لمحت أمه بحدسها دمعة في طرف عينيه اجتاحهما فرح طفولي وقالت لنفسها: كان يبكي من شوقه إلي.
وقالت زوجته لنفسها مبتهجة حين لاحظت ذلك الأثر الذاوي للدمعة الراحلة: أخيراً ذرف لي دمعة.
وحين خرج للناس عاد الهتاف والتصفيق ولكز الأب العجوز أبناء عمه في ثقة وزهو وقال بصوت متحشرج:
-ألم أقل لكم أن النمرود عصي على الدمع انظروا شموخه.
-خسرنا الرهان لم تنسكب من عينيه دمعة.
وكمحارب لا يعرف هدنة ولا يطاطئ لعاصفة اتخذ النمرود مجلسه بين أحبائه. وملأ رئتيه بالهواء المنعش، وتنهد.
___________
* من مجموعة”النمرود”.
* نقلا عن موقع ثقافات