ألف النوم، طوال النهار يقضيه متقلباً في فراشه الطيني القاحل في غرفته المظلمة العطنة ذات الجدران الباهتة أو بالأحرى سردابه المعتم الطويل الذي اتخذ منه مأوي يأوي إليه ليقيه من لسعات البرد القارص في ليالي الشتاء الباردة الطويلة ومن حرارة الشمس اللاهبة في النهار الذي عافه ولم يعد يعرفه قط منذ أعوام طويلة مضت منذ أن هجرته زوجته وصغاره الأربعة وقرر أن يتخذ من سردابه خلوة يبث لها أوجاعه وأحزانه ويلقي إليها بجسده الشاحب الضئيل المنهك ويريح بها أقدامه التي كلت من السير الطويل بأزقة وحواري وشوارع المدينة التي مزقتها آلة الحرب ودمرت بنيانها وهجرها سكانها وتبقت بها بضعة أسر.
كان يستجدي في براميل القمامة أو أكياس الزبالة فتات طعامهم الرديء الذي قلّ ولم يعد كمثل دسم الأيام الخوالي بسبب وضع الحرب وما آل إليه وضع الناس من العوز والفقر والكفاف حيث عطلت الحرب مظاهر الحياة العامة وانعدمت فرص العمل وشحت الموارد ولم يعد بمقدور الناس الحصول على قوت يومهم إلا بمشقة وصعوبة، وانعكس الوضع عليه وعلى المئات من أبناء جلدته الذين وجدوا منذ الأزل ووجدوا أنفسهم عبر أزمنة غابرة يتسوّلون طعامهم أو يحصلون عليه بهذه المشقة والذل ورغم هذا الوضع المرير المؤلم وعذاب البحث الدؤوب عن لقمة عيش قد تجدها أو لا تجدها في نفايات الآخرين.
ظل الناس يأخذون عنهم نظرة قاصرة أنهم أهل جحود لا يقدرون ثمن هذه النعمة التي هم فيها ولا يشكرون من يلقيها إليهم ترفاً بعد شبع لا إحساناً ولا إحساسا بهم، ذات ليلة صيفية حارة من ليالي الحرب المفزعة وقد لبس الليل قناعه الأسود المخيف، خرج من مأواه الكئيب مرتجفاً يتلمّس الظلام يبحث بعينين متوهّجتين عن قوته ككل ليلة وسط أصوات القذائف المدوية التي أخذت تتساقط على المدينة المستكينة الهادئة وراحت تدمّر كل جميل في المدينة وتحصد أرواح من تجدهم في طريقها ومن يتحصّنون تحت أسقف المنازل لم يعد بمقدور أيّ شخص الاحتماء من قوتها التدميرية الهائلة التي صارت أكثر عنفا وقوة من قبل وصارت تخترق العمارات المرتفعة وتحوّلها إلى كومة ركام وتتساقط على الملاجئ والأماكن المنخفضة وتنسفها هي الأخرى وتقضي على كل ما ينبض بالحياة.
جعله الجوع يخاطر، أخذ يغذ السير في الأماكن التي يتوقع أن يجد فيها طعامه، لم تعد الحارة اليوم كالأمس، لاشيء يوحي بالحياة، لم يبق سوى ركام المنازل وآثار دمار ومعركة شرسة جرت وهو يغط في نومه العميق الذي كلّفه الكثير، نزح الجميع عن الحارة أغنياؤها وفقراؤها حتى الحيوانات المستأنسة والمتشردة هي الأخرى نزحت، ظل يتنقل من مكان إلى آخر ومن حارة إلى أخرى وجد طعاما سد به رمقه وأسكت جوعه، اكتشف تجويفا يأوي إليه في أنقاض منزل مدمر، مرت بضعة أيام يحصل فيها على طعامه بمشقة من بقايا طعام الجند ورجال المقاومة الذين يمشّطون المكان ليل نهار ولم يلحظوا وجوده، لحظ أحدهم بعد أيام عينيه اللتين تنبثقان من بين الظلام الدامس، سلط عليه مصباحه اليدوي، استغرب وجوده، نادى لرفقته الذين ألقوا عليه نظرة لا مبالاة ومضوا ولم يعيروه اهتماماً. تمر الأيام ثقالاً وتزداد سواء لا رفيق ولا أنيس له سوى زمجرة القذائف ولعلعة الرصاص سئم الوحدة، الوحشة والضيق يكادان يفتكان به، صدره نافورة حزن على ما حل بالمدينة ولا يدري كنهه، الشوق والحنين يمزقه لرحيل ناسها بكل تناقضاتهم وتكبرهم الذي صار يحن إليه ويرى فيه ذكريات عيش رغيد وزمن خير، ينتقل به شريط الذكريات إلى زوجته وأسرته وأيام الشباب ويوم مولد صغاره الأربعة الذين ولدوا بنفس الليلة، يتذكر فرحته وفرحة زوجته العارمة ومداعبة صغاره وحنوّ الناس عليه وإغداقهم على زوجته باللحم الوفير وأواني الحليب لأطفاله، ينفجر بركان حزن من صدره ويموء مواء حزيناً يشق عنان السماء ويقرر النزوح ولكنّ آلة الحرب والقذائف المتساقطة كالمطر تسدّ كل فرص النزوح الذي فات أوانه وآماله الفتيّة وتعصف بقراره المتأخر جداً وتجبره على النزوح إلى مكانه الأول وسردابه الطيني المظلم.
رستم عبدالله
كان يستجدي في براميل القمامة أو أكياس الزبالة فتات طعامهم الرديء الذي قلّ ولم يعد كمثل دسم الأيام الخوالي بسبب وضع الحرب وما آل إليه وضع الناس من العوز والفقر والكفاف حيث عطلت الحرب مظاهر الحياة العامة وانعدمت فرص العمل وشحت الموارد ولم يعد بمقدور الناس الحصول على قوت يومهم إلا بمشقة وصعوبة، وانعكس الوضع عليه وعلى المئات من أبناء جلدته الذين وجدوا منذ الأزل ووجدوا أنفسهم عبر أزمنة غابرة يتسوّلون طعامهم أو يحصلون عليه بهذه المشقة والذل ورغم هذا الوضع المرير المؤلم وعذاب البحث الدؤوب عن لقمة عيش قد تجدها أو لا تجدها في نفايات الآخرين.
ظل الناس يأخذون عنهم نظرة قاصرة أنهم أهل جحود لا يقدرون ثمن هذه النعمة التي هم فيها ولا يشكرون من يلقيها إليهم ترفاً بعد شبع لا إحساناً ولا إحساسا بهم، ذات ليلة صيفية حارة من ليالي الحرب المفزعة وقد لبس الليل قناعه الأسود المخيف، خرج من مأواه الكئيب مرتجفاً يتلمّس الظلام يبحث بعينين متوهّجتين عن قوته ككل ليلة وسط أصوات القذائف المدوية التي أخذت تتساقط على المدينة المستكينة الهادئة وراحت تدمّر كل جميل في المدينة وتحصد أرواح من تجدهم في طريقها ومن يتحصّنون تحت أسقف المنازل لم يعد بمقدور أيّ شخص الاحتماء من قوتها التدميرية الهائلة التي صارت أكثر عنفا وقوة من قبل وصارت تخترق العمارات المرتفعة وتحوّلها إلى كومة ركام وتتساقط على الملاجئ والأماكن المنخفضة وتنسفها هي الأخرى وتقضي على كل ما ينبض بالحياة.
جعله الجوع يخاطر، أخذ يغذ السير في الأماكن التي يتوقع أن يجد فيها طعامه، لم تعد الحارة اليوم كالأمس، لاشيء يوحي بالحياة، لم يبق سوى ركام المنازل وآثار دمار ومعركة شرسة جرت وهو يغط في نومه العميق الذي كلّفه الكثير، نزح الجميع عن الحارة أغنياؤها وفقراؤها حتى الحيوانات المستأنسة والمتشردة هي الأخرى نزحت، ظل يتنقل من مكان إلى آخر ومن حارة إلى أخرى وجد طعاما سد به رمقه وأسكت جوعه، اكتشف تجويفا يأوي إليه في أنقاض منزل مدمر، مرت بضعة أيام يحصل فيها على طعامه بمشقة من بقايا طعام الجند ورجال المقاومة الذين يمشّطون المكان ليل نهار ولم يلحظوا وجوده، لحظ أحدهم بعد أيام عينيه اللتين تنبثقان من بين الظلام الدامس، سلط عليه مصباحه اليدوي، استغرب وجوده، نادى لرفقته الذين ألقوا عليه نظرة لا مبالاة ومضوا ولم يعيروه اهتماماً. تمر الأيام ثقالاً وتزداد سواء لا رفيق ولا أنيس له سوى زمجرة القذائف ولعلعة الرصاص سئم الوحدة، الوحشة والضيق يكادان يفتكان به، صدره نافورة حزن على ما حل بالمدينة ولا يدري كنهه، الشوق والحنين يمزقه لرحيل ناسها بكل تناقضاتهم وتكبرهم الذي صار يحن إليه ويرى فيه ذكريات عيش رغيد وزمن خير، ينتقل به شريط الذكريات إلى زوجته وأسرته وأيام الشباب ويوم مولد صغاره الأربعة الذين ولدوا بنفس الليلة، يتذكر فرحته وفرحة زوجته العارمة ومداعبة صغاره وحنوّ الناس عليه وإغداقهم على زوجته باللحم الوفير وأواني الحليب لأطفاله، ينفجر بركان حزن من صدره ويموء مواء حزيناً يشق عنان السماء ويقرر النزوح ولكنّ آلة الحرب والقذائف المتساقطة كالمطر تسدّ كل فرص النزوح الذي فات أوانه وآماله الفتيّة وتعصف بقراره المتأخر جداً وتجبره على النزوح إلى مكانه الأول وسردابه الطيني المظلم.
رستم عبدالله