محمد مستجاب - الذئب

اللهم احمنا من الكاذب والمخادع وذى الصوت المنفر ، واكشف لنا – يا رب – نوايا ذى البالين المداور المناور واجعله كاسفا وارحمنا يا رحمن من قولة آثمة تدمع العين وتبلبل الخاطر وتفرق بين العيال ، وساعدنا يا كريم فى فهم حكاية سعيد الأسود الذى لم يكن أسود ، والذى ظل الخمسة والعشرين عاما الأولى من عمره مبهجا مبتهجا ، يغنى عابرا بالمأتم ويزعرد على فتحات المقابر ، فيلطمه القوم حينا ويقرصون أذنه حينا ، ثم يدعون عليه أن يفتك ببطنه ذئب فى قرية لم يشاهد أحد فيها ذئبا .
وشاءت الأقدار أن يشرخ سعيد الأسود مغرب المكان صارخا نادبا مستغيثا فأهاج صغار الماعز وأوكار الغربان، الذئب ، الذئب ، الذئب ، وكانت كف محمود أبو على قد تشبثت فى كف الحاج عبد البر ، ممتزجتين بدعوات المأذون توثيقا لمصاهرة توقف سيل المهاترات والمشاجرات والديون والقضايا ، الذئب ، الذئب ،فاضطربت الكفان وأنشدتا ، كذاب وابن كذاب سعيد الأسود الذى يقلد حكايات تلاميذ المدارس ، الذئب ، الذئب فقام عملاق باعتراض طريقه ولطمه وأسقطه فى حزم على الدكة ، وأعاد وكيلا العروسين كفيهما المضطربتين لكف المأذون ، فمار فى الجو رصاص ومرح ، الذئب ، الذئب ، كاذب وابن كاذب ليزداد الجو صخبا .
فريحة –او فريجة – عادت فى اليوم التالى زائغة ناحبة تبحث فى المنحنيات والتواءات الجسور عن أثر لشاتها ، وضحك القوم خابطين على أفخاذهم ، واشتد الضحك جاذبا حكايات مماثلة عن مذمو السيرة اللذين فقدوا جمالا وحميرا وماعزا ، وتطرق الحديث الى جولات شهيرة لأجداد واجهوا عفاريت وقرودا وغيلانا ومردة ، وقال الشاعر : ما يشرخ الليل إلا الخيل والبندق ، والصح – كما يعلم الجميع – ما يشرخ الليل إلا الجبل والنخوة ، وفى موال مهجور يظهر أيام المرح : العمدة ركب الحمار ، طلع له ديب النهار ، قال له أنا الديب يا فارس ، شاور له على بطن الحمار ، وهو موال يختل اذا ما عاد الديب ذئبا ، وفى صباح مشمس اضطربت حمارة سمعان وعادت من الحقل مذعورة تتصادم فى طوب الارض وتنهق فى السابلة بلا سمعان ، واجتاح الغيظ محمد أبو صادق فهرع إلى بندقيته واندفع إلى المزارع ، وبعدها بخمسة أيام اقتحمت جاموسة مجهولة البيوت وضرعها يشخب دما ، ثم عادت فريحة تنقب مولولة عن ابن ابنتها وانعقدت الحكايات فوق المصاطب وتحت نور الكلوبات تصف الذئب بمنخاره الأحمر وعيونه الملتهبة ومخالبه الدامية وطلست عواجيز البيوت الكوات بالطين حتى عمت الديار الظلمة ، ورويت مساخر عن الجبن والشجاعة وانسياب المياه فى السراويل ، وارتعب الناس من الصبح المبكر والمساء الغائم وانثناءات الجداول وانحناءات الأفق ، وتدفقت الرؤى المؤكدة أن الذئب جاء مجروحا من البرارى البعيدة فى ليلة صقيع كادت تفتك به فيها جماعته الجائعة ، وأن الذئب الهائم حول القرية لا يهاجم طاهرا أو ذا بأس أو يتيما أو تاجر توابل ، يضنيه الحزن فيهيم ذابلا يتشمم الندى ، وتخترمه الوحدة فينوح حمامة يداورها الأسى ، ثم يجتاحه القلق فيضطرب ، قطة تتمسح فى جذوع الاشجار ، ويهده التجول فيمسى شاعرا يبغى ظلال القصائد ، ثم يشويه الشجن فيستحيل قمرا يلهث بين الغيوم بعدها تتفجر فيه الذءوبة فيندفع وحشا يداهم رقاب الحملان وبطون البقر ، وانكفأت القرية على رؤوس الرجال تتهمهم بالتخاذل والجبن والخور ، وأخذت القرى المجاورة تطلق على مواليدها أسماء الديب ودياب نكاية وتشفيا ، فاجتمع الرجال مرة فى الدوار الكبير ، ومرتين عند العمدة ومرة فى السويقة ، وبين كل مرة واخرى نهش جحشين وخروفين وضاعت ماعز وبندقية وثلاثة كلاب ، بعدها تكونت سرية من خيرة شباب العائلات مستعدة لغزو طوب الأرض ، اجتاحت السرية المسلحة المقابر وادغال القصب وسحارات الترع وشونات الحطب وأوكار البوم وظلال السحب وأصوات الجنادب وظلام الحفر وقواديس السواقى ، وبين كل غزوة وغزوة يستريح المطاردون على المقاهى يأكلون ويحتسون ويتضاربون ، ثم يجتمعون مرة أخرى لينسابوا حول القرية فى تصميم ، وفاضت الترعة فى موعدها فلم ينتبه أحد لدورة الرى ، ومات ذو نفوذ فى المدينة فلم يتسنى لهم المشاركة فى العزاء ، وجاء يوم السوق فلم يحفلوا ، واحتفلت القرى المجاورة بيوم الشيخ أبى هارون دون الاهتمام بغياب وفودهم ، وتساقطت أكواز الذرة وسنابل القمح طالبة الجنى والجمع والحصد ، وازداد الناس تكالبا على السلاح والمواويل وحكايات الأجداد المنتصرين على كل أنواع الوحوش ، وانطلقت النكات والأضاحيك والنوادر تخفف عن الجمع المسلح الوطأة ، ثم لم تلبث الأخبار السعيدة أن بدأت تصل : فرج القمص وجد جثة الذئب متعفنة فى صندوق عظام ، عابدين القوصى سحب عظام الذئب بالدلو من البئر الغربى ، عبد العزيز أبو خليل وجد جثته مطمورة ممصوصة ناشفة أثناء نقل التبن ، جاد أبو جيد أغلق على الذئب عيون قمينة الطوب وأشعل فيه النار وشم الجميع الرائحة ، وجلس الرجال المسلحون يجترون نهايات الذئب التى جاءت متوافقة مع توقف الافتراس .
كان ذلك اليوم رائقا وجميلا ، جلس بعض الرجال على مقاعد المقهى ، واخرون على الأرض ، وبين الأيدى أكواب الشاى والبنادق والإرهاق والحكايات وبوادر الارتياح ، ونسيم آخر النهار يعابث الغصون وذوائب العمائم وأطراف الشوارب وأكمام الجلابيب ، والشارع الواسع قادم من جوف الخلاء يخترق القرية مارا بالمقهى وممتدا إلى اخرها ،وبدا الأمر انكسارا لنور وظلال ، حينما ، من بداية الشارع ،جاء متشكلا يسير فى هدوء ، الذئب ،مرفوع الرأس يتشمم الهواء بأنفه الحمراء ، أشعث مغبر كأنه قادم من جوف قبر قديم ، الذئب والعيون كل العيون قداتجهت إليه ، إليها ، ليس ذئبا ذكرا ، ذئبة قانية العيون تتقافز بين سيقانها أربعة جراء تتعابث فى أثدائها المأرجحة المتضخمة بطول البطن ، ظلت تسير فى الشارع ، والحركة قد هدأت إلا من صوت تلاطم الأثداء فى رؤوس الجراء ، وتوقفت برهة أمام الرجال ، أمعنت الذئبة الضخمة بعيونها الضيقة النارية فى الناس ، فى الأكواب والبنادق والعمائم والشوارب ، ظلت واقفة كانها تتيح لهم فرصة أن يروها جيدا ثم تحركت من جديد ليبتعد عنها جراؤها ويعودوا فيلهوامتقافزين ، ظلت تسير حتى اختفت فى نهاية الشارع الطويل ، ذلك الذى قدم منه سعيد الأسود ، والذى ليس أسود ، صارخا ، مرتعبا ، الذئب الذئب فامتدت الأيدى واهالوا على رأسه التراب ولطموه على وجهه وقرصوا أذنيه ثم دعوا عليه بأن يفتك ببطنه ضبع فى قرية لم يشاهد فيها أحد ضبع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى