فيلم الفتاة الدنماركية (2015 The Danish Girl) مأخوذ عن رواية تحمل نفس الاسم للكاتب ديفيد إبرشوفDavid Ebershoff مستوحاة عن حياة الدنماركيتين ليلي إلبي Lili Elbi (1882-1931) وغيردا فاينر Gerda Wegener (1886-1940). هذه القصة هي قصّة أوّل متحوّل/ة جنسي/ة عُرفَ/ت باسم أينار فاينر Einar Wegener قام/ت بعمليّات التحوّل عام 1930 ثمّ غيّر/ت اسمها إلى ليلي وتخلّت تماماً عن الرّسم. توفّيت إثرَ المضاعفات الناجمة عن زرع الرحم uterus transplant. اشتهرت لكونها أولى من قمنَ بعمليات إعادة تعيين الجنسsex reassignment surgery وعُرفت أيضاً بكتابها “من رجل إلى امرأة” (Man into Woman) الذي نُشرَ عام 1933 بعد وفاتها وكتبت فيه مذكّراتها عن رحلة عبورها.
سأقوم في هذه الدّراسة التحليلية بإلقاء الضوء على معنى التحوّل الجندري/الجنسي ومعاناة المتحوّلين/ات من خلال فيلم الفتاة الدنماركية (2015) وذلك بالوقوف عند بعض المشاهد المتعلّقة بالأدوار الجندريّة النمطيّة، تأنيث المُذكّر، النّشوة الفنّية والجنسيّة، العلاقة بين ريشة الرّسام والقضيب الذكري.
قلب الأدوار الجندريّة وتأنيث المُذكّر:
يُسلّط الفيلم الضوء على حياة الرّسامين أينار فاينر وزوجته غيردا فاينر. ذاعَ سيطُ أينار وتهافتت المعارض على استضافة لوحاته البديعة التي تمحورت حول الطبيعة بينما لم تُفلح زوجته في جذب الانتباه إلى أعمالها وكان لابُدّ لها أن تبحث عن موضوع جديد للرسم. بطلبٍ من غيردا، قبلَ أينار مُتردّداً أن يقفَ أمامَ زوجته بدلاً من صديقتها راقصة الباليه ليكونَ مادّتها الجديدة أي العارِض الذي يُذعِنُ لأوامر الزوجة-الرّسامة. شكّلت هذه اللحظة لحظة مِفصليّة في حياة أينار حيثُ كانَ عليه أن يتشبّه بالرّاقصة وأن يرتجلَ فارتدى الجواربَ الطويلة الضيّقة، حذاء الرّقص، ووضعَ أيضاً فستانها على جسده. لم يرتدِ فستانها تماماً لكنّه جلسَ مِثلها وراحتْ غيردا بريشتها الطويلة تؤنّثُ أينار على الكانفا الخاصة بالرّسم. وهكذا كانت غيردا تجسّدُ هذه “الفانتازيا الخيالية” التي بالطّبع لها دلالاتها غير المُعلنة عن طبيعة العلاقة بين الزوجين وطبيعة كل منهما أيضاً. هذه الفانتازيا هي ليلي – أينار الزوج “المَخصيّ” – التي احتلّت مساحات غيردا الجديدة وكانت السبب في نجاحها الفنّي. أثناء أداءه دورَ الرّاقصة أخذَ جسدُ أينار يرتجف كما لو كانَ يكتشفُ أوّلَ رعشةٍ جنسيّةٍ له؛ كان يكتشفُ جسده كما لم يفعل من قبل من خلال الأنثى القابعة في داخله تنتظرُ أن تُرى وتُلمَس وتُعاش. لم تعرف غيردا ما فعلت أو ما فعله الفنّ فمن خلال قلب الأدوار الجندرية التقليدية (الفاعل والمفعول؛ الفنّانة والموضوع) أصبحَ أينار المفعول والموضوع لدى الفاعِلة (غيردا) لكنه أيضاً كان المفعول للأنثى السّجينة في جسده. أيقظت غيردا الأنثى داخل أينار وندمتْ لاحقاً على فعلتها هذه لأنّها وأينار لم يعلما شيئاً عن طبيعة أينار فاينر الاستثنائيّة.
إذا أردنا التوقف قليلاً عند هذه الرّعشة المشتركة بين الفنانة والموضوع والتي حدثت دون إيلاجٍ حقيقي، فهل يمكننا وصفُ أينار بالرّجل المهبلي أو البظري وغيردا بالمرأة المُسترجلة؟ يوضّح الدكتور عماد فوزي شعيبي في كتابه كيف تفكر الأنثى قائلاً: “الواقع أنه لا يجوز أن تُنمّط النساء المُسترجلات على أنّهن متساويات عند التشخيص، فبعضهنّ تكويني من الدرجة الأولى، وهؤلاء يكُنّ من النوع الذي فيه اختلاف بين الهوية العقلية-الجنسية الذكرية، وبين الهوية الجسدية الأنثوية (…) وهو أمر نراه أيضاً لدى الرجال المُخنّيثن، وبعضهنَّ من ضحايا عقدة فقدان القضيب” (219-220). قد يكون إذاً أينار وغيردا متشابهين إلى حدّ ما حيثُ يُكمّل كلٌ منهما الآخر وهذا ما جعل زواجهما ناجحاً. غيردا تميلُ بعض الشيء إلى التصرّف كالرّجال وأينار أنثوي في سلوكه ومظهره. المرأة التي تعاني من عقدة فقدان القضيب (penis envy) كما هو الحال عند غيردا تميلُ إلى “التسلّط على الآخرين”، تُخفي أنوثتها، تمشي كالرّجال، تستخدم “الوسائل الحادّة أو المُدببة” كالقلم، الرّيشة وغيرها، تميلُ أيضاً إلى “إخصاء الذكور عبر التقليل من قدرهم والحطّ من مكانتهم والاعتداء اللفظي عليهم” (شعيبي 215). بالعودة إلى أينار وهو يؤدّي دور الراقصة-العارضة، نرى أنّ مشاعر اللذة الجنسيّة لديه اختلطت بالخوف والشعور بالصّدمة. بدَتْ له حينها حدودُ الجسد مساميّة أو هُلاميّة لا تعترفُ بتوصيفاتنا النمطيّة الجاهزة “ذكر” أو “أنثى” بل تتجاوزها أو تجمع بينها. فخرجَ بذلكَ أينار عن الجنس المُحدَّد له في الهويّة ودخل منطقة الترانس جندر transgender. بحسب الجمعيّة الأمريكية للطبّ النفسي: “التحوّل الجندري هو مصطلح عام ينطبق على الأشخاص الذين/ اللواتي لا تتوافق هويّاتهم/ن الجندرية أو تعبيراتهم/ن وسلوكياتهم/ن الجندرية مع الجنس الذي أسندَ إليهم/ن عند الولادة” (بشأن متحوّلي/ات الجندر 1). وهذا ما يكتشفه أينار لاحقاً بعدَ صراعٍ مع الإنكار والهروب والألم الجسدي والنفسي. استمرَّ هذا اللهو (تأنيث أينار) من باب اللعب والإثارة الجنسيّة وتحقيق غايات فنّية حيثُ أخذ أينار يتشبّه أكثر فأكثر بالنّساء وحققت غيردا نجاحاً فنّياً استثنائياً بفضل ظهور ليلي. ساعدته غيردا على ذلك حيثُ انتقت معه الملابس بأنواعها بما فيها الملابس الداخلية والمكياج، ألبسته كالنساء فأصبحَ صديقتها المُقرّبة، درّبته كيفَ يمشي، يتحدّث، ويلهو كالنّساء. وفي هذا الشأن تقول الجمعيّة الأمريكية للطبّ النفسي:
هناك أيضاً الأشخاص الذين/ اللواتي يرتدون الملابس المُصنّفة تقليدياً ونمطيّاً في ثقافتهم/ن على أنها ملابس خاصة بالجنس الآخر. ويتباين هؤلاء من حيث ارتدائهم/ن ملابس الجنس الآخر بشكل جزئي أو كلّي. (…). إنّ ارتداء ملابس الجنس الآخر هو أحد أشكال التعبير عن الجندر ولا يرتبط بالضرورة بالنشاط الإيروتيكي. ولا يُعتبر ارتداء ملابس الجنس الآخر مؤشّراً على التوجّه الجنسي/ الميول الجنسية ( بشأن متحوّلي/ات الجندر 2).
لقد كانت هذه نقطة التحوّل بالنسبة لأينار (لحظة انكشاف المستور كما نقول) إلّا أنّه لا ينتمي إلى هذه المجموعة كما أوضحنا سابقاً حيث لم يكن ذلكَ الأداء (التشبُّه بالنّساء) مجرّدَ ضربٍ من اللهو والتسلية (رغم أنه اعتقد عكسَ ذلك) بل كانَ له أبعاده العاطفيّة، النفسيّة والجنسيّة.
أسئلة حول الهويّة:
لم يعرف أينار من يكون إلى أن تحوّلَ اللهو إلى جدّ وخرجَ الأمر عن نطاق التشبُّه. كان أينار مثلَ مُراهقٍ يكتشفُ رغباته الدفينة وراحَ جسده يبوحُ تارةً ويصرخُ تارةً أخرى طالباً المُساعدة. ففي أوّل خروجٍ له كأنثى إلى حفلٍ مع غيردا، جذبَ إليه/ها الأنظار وكان أوّل انجذابٍ له/ لها مع رجلٍ مِثلي homosexual يُدعى سايندل Sindhal. في هذا السياق نحن أمام مجموعة من الأسئلة عن طبيعة هذا “اللهو” الذي يقوم به الزوجان وعن طبيعة علاقتهما. من جهة ما قاما به إلى الآن هو بمثابة ضرب لمنظومة الأدوار الجندرية الثنائية التي فُرِضَتْ عليهما بطبيعة المجتمع البطريركي، ومن جهة أخرى تفتح هذه الممارسة الباب للتساؤل عن هويّة كل من غيردا وأينار/ليلي الجنسيّة. هل تميلُ غيردا إلى التعدّد في العلاقات الجنسيّة؟ هل يُشكّلُ خروجها مع ليلي نوعاً من المواعدة الغراميّة اللزبيانية؟ هل تكونُ غيردا المرأة الفالوسيّة (القضيبية) التي تشعر بالحسد من القضيب فقامت بتأنيث أينار رغبةً منها بإخصائه (مجازيّاً)؟ ربّما تكونُ غيردا جميعَ ما سبق وهذا ما جعلها تحتوي أينار/ليلي وتتفهّم تحوّله/ها شيئاً فشيئاً. أما بالنسبة لأينار فقد أخذ هذا الموعد “اللزبياني” (ليلي-غيردا) شكلاً آخر عندما اختلى به سايندل (سايندل-ليلي من جهة وسايندل-أينار من جهة أخرى). تركَ هذا الاختبار المُتعدّد (لزبياني، مُغاير، قايز[1]) أينار/ ليلي ضائعاً/ةً حائراً/ةً تتنازعه/ها الألم بين الرغبة والحقيقة وبين العبور والهروب. هنا يجدرُ بنا الذكر إنّ موضوع التوجّه الجنسي بألوانه القوس قزحيّة كانَ من المُحرّمات في تلك الحقبة من الزمن في تاريخ أوروبا حيثُ سادَ التمييز والاضطهاد تجاه المثليين والمثلييات، مزودجي/ات الميول الجنسيّة والمتحوّلين/ات.
“من أين أتت ليلي؟”
بعد ذلكَ الحفل حاولَ أينار اخفاء موضوع لقاءات ليلي المُتكرّرة مع العديد من الرّجال من بينهم سايندال إلا أنه لم يتمكّن من اخفاء التغيّرات النفسيّة والعاطفيّة والأعراض الجسديّة التي تجلّت بوضوح من خلال نوبة النزيف، أوجاع الرأس وخسارة في الوزن. لم تكتفِ ليلي بتلك المواعدات “الغراميّة” أو ربّما الاستكشافيّة بل قامت أيضاً باستعراض جسدها أمام المرآة مُتفحّصةً حقيقة أنوثتها بالمُلامسة ومحاولةً إبراز “ثدييها” وإخفاء قضيبها. جميع هذه العلامات كانت إعلاناً عن ليلي وموتاً تدريجياً لأينار وأصبحت لكل هذه الأسباب ترفضُ أن تُدعى أينار. منذ ظهور هذه الأعراض تبدّلت علاقة الزوجين وأصبحت مع الوقت أشبه بالصّداقة مع العلم إنّ أينار وغيردا متزوّجان منذ ست سنوات ولم ينجحا في إنجاب طفل. لم يترك الزوجان طبيباً نفسيّاً لم يذهبا إليه في الدنمارك وتفاوتت الحلول برأيهم بإتّهامِ أينار بالشذوذ الجنسي ومعالجته بالطرق البدائيّة[2] وبين حجزه في مصحّة للأمراض العقليّة مما اضطرّ بهما الأمر إلى الهرب إلى باريس – بفضل نجاح غيردا الفنّي – لحماية ليلي من الاضطهاد. في هذا الصدد تصرّح الجمعية الأمريكية للطبّ النفسي:
ليس هناك تفسير واحد لكون بعض الناس متحوّلين/ات جندرياً، إذ إنّ تنوّع تجارب وتعبيرات التحوّل الجندري يُعيق أي شرح بسيط أو موحّد للمسألة. ويعتقد كثير من الخبراء والخبيرات أنّ العوامل البيولوجية مثل التأثيرات الجينية، ومستويات الهرمونات قبل الولادة، والتجارب المُبكّرة واللاحقة خلال مرحلتي المُراهقة والبلوغ، جميعها تُساهم في تطوّر الهويّات المتحوّلة جندرياً (بشأن متحوّلي/ات الجندر 2).
لا ننسى هنا أن نذكر أحد أهمّ المؤشرات المُبكّرة في طفولة أينار حيثُ لم يكن التشبّه بالنساء جديداً على أينار الطفل بل شوهدَ يرتدي مَرْيَلة وكان صديقه هانز يُقبّله. قامَ والدُ أينار بضرب هانز على هذا السلوك المُشين وبتوبيخِ أينار بدلاً من احتضانه وتقبُّله كما هو/هي أو استشارة المختصّين/ات في قضايا الصحّة النفسيّة والجنسيّة.
من ريشة الرّسام إلى إزالة القضيب:
لم يتنكّر أينار لحقيقة من يكون عندما جاء هانز لزيارته في باريس بل على العكس ظهر أمام هانز كأنثى. كان انتقال ليلي وغيردا إلى باريس خطوة إيجابية أخرى على الطريق الصحيح لا تخلو بالطبع من الصعوبات والتحدّيات بدءاً بالقبول الإجتماعي، التعرّض للعنف وانتهاءً بمشاكل الطبّ النفسي آنذاك. أثناء هذه الرّحلة من الدنمارك إلى فرنسا تصالحت ليلي شيئاً فشيئاً مع حقيقة أنها أنثى في جسد ذكر وقرّرت بمساعدة ودعم غيردا وهانز إجراء عمليّة توكيد الجنس على يد أحد الأطباء الذي آمنَ بها وشخّصَ حالتها على أنّها من المتحوّلات. أكّد لها الطبيب مدى خطورة العمليّة إلا أّنّ ليلي أصرّت على إجرائها. وبهذا القرار انتقلت ليلي من “التحوّل الجندري” إلى “التحوّل الجنسي” (transexual) ويشير هذا المُصطلح إلى الذين يرغبون “أو يقدمون على تحويل أجسادهم/ ن من خلال الهرمونات أو الجراحة (…) لجعلها متطابقة قدر الإمكان مع هوياتهم/ن الجندرية” (بشأن متحوّلي/ ات الجندر 1). بالنظر إلى ما حدثَ مع ليلي نرى أنّ أينار فقدَ عضوه الذكري مجازيّاً مُذ قلّد الراقصة ليساعدَ غيردا على الوصول إلى النّشوة الفنّية ثمّ فقدَ اهتمامه تماماً بالرّسم ربّما لأنّ الرّيشة تذكّره بالقضيب الذي يحلمُ لا شعوريّاً بخسارته. بمعنى آخر سمحَ أينار لغيردا أن تلِجَه فنيّاً وبمساعدة الطبّ تمكّن من التخلّص من القضيب نهائياً ليصبح جنسه (ذكر بالولادة) متوافقاً مع جندره (شعوره بأنّه أنثى). ليس للإبداع علاقة بوجود أو عدم وجود القضيب لأنّ الإبداع هو وظيفة من وظائف الفص الأيمن الأنثوي من المخ أي لا علاقة له بجنس المولود بل يختلف بإختلاف بصمتنا المُخيّة (عماد فوزي شعيبي). تُعرف أيضاً هذه “البصمة المُخيّة أو المعرفيّة” ب”العارف المُتموضعSituated Knower ” – التي لا يستطيع أحد تغييرها وبها تتحدّد بصمتنا العاطفية (ذكاءنا الوجداني) وبصمتنا الجنسيّة (الهويّة الجندرية[3] والميل الجنسي لدى كل منّا) (شعيبي 8). إنّ تخلّي ليلي عن الرّسم ليس سوى تغيّر في حالتها الإبداعية من الرّسم إلى الاهتمام بأشياء أخرى كالأزياء والمكياج والكتابة. وباختصار، تصف الجمعيّة الأمريكية للطبّ النفسي (APA) رحلة عبور المتحوّلين/ ات على النحو التالي:
في حين لا توجد طريقة “صحيحة” للتحوّل الجندري، إلا أنّ هناك تغيّرات اجتماعية شائعة يعيشها المتحوّلون/ات جندريّاً قد تشمل واحد أو أكثر مما يلي: تبنّي المظهر الذي يعبّر عن الجندر المرغوب به من خلال تغييرات في الملابس والتزيّن، وحمل إسم جديد، وتغيير تصنيف الجنس في وثائق الهوية (إذا أمكن)، والخضوع للعلاجات الهرمونية، و/ أوالخضوع للعمليات الجراحيّة التي تعدّل الجسد ليتلاءم مع الهوية الجندرية (بشأن متحوّلي/ ات الجندر 3).
لا تعتبر الجمعيّة الأمريكية للطبّ النفسي (APA) التحوّل الجندري اضطراباً نفسياً إلّا إذا تسبّبَ للمرء بالإزعاج وعدم القدرة على العمل (بشأن متحوّلي/ ات الجندر 3-4). لم يحدث هذا إلا لفترة قصيرة مع ليلي تلك الفترة التي لم تكن متأكدةً تماماً من هويّتها الجندريّة لكن بعد إزالة القضيب بالعملية الجراحية استعادت حياتها الطبيعية وعملت في بيع العطورات والمكياج. لم تتحوّل علاقة ليلي بغيردا إلى علاقة لزبيانية بعد إزالة القضيب جراحيّاً بل كانت تميلُ إلى الرجال وانتهى بذلكَ زواجهما كرجل وامرأة لأنّ ليلي لم تعد رجلاً. يجدرُ بنا التنويه إلى أنّ المتحوّلين/ات مثلهم مثل غير المتحوّلين/ات فمنهم من يكون مغاير أو مِثلي أو مزدوج الميول أو لا جنسي (بشأن متحوّلي/ات الجندر 2). تنصح الجمعيّة الأمريكية للطبّ النفسي بتوفير كافة سبل الرعاية الصحيّة النفسيّة والطبيّة والاجتماعيّة للمتحوّلين والمتحوّلات لاحتوائهم/ن في المجتمع دون التعرض للتمييز والعنف ولتسهيل عمليّة تحوّلهم/ن الاختياري.
الحُبّ الحقيقي:
إنّ أجمل ما في الفيلم هو حُبّ غيردا لزوجها حتى بعدَ اكتشافه لهويّته الحقيقية وقراره القيام بالعمليّات الجراحيّة. رغمَ إنّ قراره هذا أدّى إلى انتهاء زواجهما كرجل وامرأة إلّا أنّ غيردا لم تترك ليلي تخوض هذه التجربة المؤلمة بمفردها بل وقفت إلى جانبها تبحثُ معها عن أطبّاء إلى أن وجدت الطريق المناسب لتحقيق التحوّل الجنسي ولم تتركها إلى أن فارقت الحياة إثرَ المضاعفات التي حدثت لها نتيجة عمليّة زرع الرّحم. في آخر مشهدٍ في الفيلم وهي على فراش الموت، قالت ليلي لغيردا: “ماذا فعلتُ لأستحقَّ كلَّ هذا الحُبّ؟” هذه اللحظات الإنسانية التي جمعت أينار-ليلي-غيردا لا تخلو من الألم النفسي والعاطفي والجسدي لكلا الطرفين. لم يكن هذا العبور عبوراً لليلي فقط بل كان أيضاً عبوراً لغيردا فمن خلال هذه الرّحلة سقطت الكثير من الأقنعة لتكشفَ لنا وللبطلتين الهويّات الاستثنائية لكل من ليلي وغيردا. بتخلّي غيردا عن التملُّك كانَ لابُدَّ للحبّ أن ينتصرَ على الأحكام الإجتماعية المُسبقة، على التابوهات، وعلى الصّورة النمطيّة للزواج. بالحُبّ تغلّبت البطلتان على الاضطهاد وبالحُبّ تمكّنتا من كشف النقاب عن المُحرّمات وتحويل المُستحيل إلى مُمكن والتّفاني في احتواء الآخر ولولا غيردا لما كانت ليلي.
********
[1] ليزبياني أي امرأة-امرأة ، مُغاير امرأة-رجل، وقايز رجل-رجل. أفضّلُ استخدام كلمة “قايز” بدلاً من “لواط” أو “لوطي” لأنّ لكلمة “لواط” أصول دينية لها إطارها الزماني والمكاني الذي لا يُمثّل مجتمع الميم (LGBT) اليوم.
[2] “منذ العام 1975، نادت الجمعيّة الأمريكية للطبّ النفسي (APA) بأخذ زمام المبادرة لإزالة الوصمة الملازمة للمرض النفسي الذي لطالما ارتبط بالمثليّات والمثليين وثنائيو وثنائيات الميل الجنسي (والمتحوّلين والمتحوّلات). (…). وتشير الدلائل إلى أنّ الأراء والأحكام المُسبقة والتمييز الذي يتعرّض له أؤلئك الأشخاص ممن يعرّفون عن أنفسهم كمثليّات ومثليين وثنائيو وثنائيات الميل الجنسي (والمتحوّلين والمتحوّلات)، لها آثار نفسية سلبية (من أجل فهم أضل للميول الجنسية 1).
[3] لابُدّ هنا من التمييز بين “الهوية الجندرية” و”الدور الإجتماعي للجندر”: الهوية الجندرية تعني “الشعور النفسي بكون الشخص ذكراً أو أنثى” أما الدور الإجتماعي للجندر أي “المفاهيم الثقافية التي تحدد تعريف السلوك الذكري والأنثوي” (من أجل فهم أفضل للميول الجنسية 1).
*****
المراجع:
شعيبي، عماد فوزي. كيف تفكر الأنثى. بيسان: بيروت، 2017.
“بشأن متحوّلي/ ات الجندر والهوية الجندرية والتعبيرات الجندرية.” الجمعية الأمريكية للطب النفسي.(1-7)، 2011.
“من أجل فهم أفضل للميول الجنسية والمثلية الجنسية.” الجمعية الأمريكية للطب النفسي.(1-7)، 2011.
سأقوم في هذه الدّراسة التحليلية بإلقاء الضوء على معنى التحوّل الجندري/الجنسي ومعاناة المتحوّلين/ات من خلال فيلم الفتاة الدنماركية (2015) وذلك بالوقوف عند بعض المشاهد المتعلّقة بالأدوار الجندريّة النمطيّة، تأنيث المُذكّر، النّشوة الفنّية والجنسيّة، العلاقة بين ريشة الرّسام والقضيب الذكري.
قلب الأدوار الجندريّة وتأنيث المُذكّر:
يُسلّط الفيلم الضوء على حياة الرّسامين أينار فاينر وزوجته غيردا فاينر. ذاعَ سيطُ أينار وتهافتت المعارض على استضافة لوحاته البديعة التي تمحورت حول الطبيعة بينما لم تُفلح زوجته في جذب الانتباه إلى أعمالها وكان لابُدّ لها أن تبحث عن موضوع جديد للرسم. بطلبٍ من غيردا، قبلَ أينار مُتردّداً أن يقفَ أمامَ زوجته بدلاً من صديقتها راقصة الباليه ليكونَ مادّتها الجديدة أي العارِض الذي يُذعِنُ لأوامر الزوجة-الرّسامة. شكّلت هذه اللحظة لحظة مِفصليّة في حياة أينار حيثُ كانَ عليه أن يتشبّه بالرّاقصة وأن يرتجلَ فارتدى الجواربَ الطويلة الضيّقة، حذاء الرّقص، ووضعَ أيضاً فستانها على جسده. لم يرتدِ فستانها تماماً لكنّه جلسَ مِثلها وراحتْ غيردا بريشتها الطويلة تؤنّثُ أينار على الكانفا الخاصة بالرّسم. وهكذا كانت غيردا تجسّدُ هذه “الفانتازيا الخيالية” التي بالطّبع لها دلالاتها غير المُعلنة عن طبيعة العلاقة بين الزوجين وطبيعة كل منهما أيضاً. هذه الفانتازيا هي ليلي – أينار الزوج “المَخصيّ” – التي احتلّت مساحات غيردا الجديدة وكانت السبب في نجاحها الفنّي. أثناء أداءه دورَ الرّاقصة أخذَ جسدُ أينار يرتجف كما لو كانَ يكتشفُ أوّلَ رعشةٍ جنسيّةٍ له؛ كان يكتشفُ جسده كما لم يفعل من قبل من خلال الأنثى القابعة في داخله تنتظرُ أن تُرى وتُلمَس وتُعاش. لم تعرف غيردا ما فعلت أو ما فعله الفنّ فمن خلال قلب الأدوار الجندرية التقليدية (الفاعل والمفعول؛ الفنّانة والموضوع) أصبحَ أينار المفعول والموضوع لدى الفاعِلة (غيردا) لكنه أيضاً كان المفعول للأنثى السّجينة في جسده. أيقظت غيردا الأنثى داخل أينار وندمتْ لاحقاً على فعلتها هذه لأنّها وأينار لم يعلما شيئاً عن طبيعة أينار فاينر الاستثنائيّة.
إذا أردنا التوقف قليلاً عند هذه الرّعشة المشتركة بين الفنانة والموضوع والتي حدثت دون إيلاجٍ حقيقي، فهل يمكننا وصفُ أينار بالرّجل المهبلي أو البظري وغيردا بالمرأة المُسترجلة؟ يوضّح الدكتور عماد فوزي شعيبي في كتابه كيف تفكر الأنثى قائلاً: “الواقع أنه لا يجوز أن تُنمّط النساء المُسترجلات على أنّهن متساويات عند التشخيص، فبعضهنّ تكويني من الدرجة الأولى، وهؤلاء يكُنّ من النوع الذي فيه اختلاف بين الهوية العقلية-الجنسية الذكرية، وبين الهوية الجسدية الأنثوية (…) وهو أمر نراه أيضاً لدى الرجال المُخنّيثن، وبعضهنَّ من ضحايا عقدة فقدان القضيب” (219-220). قد يكون إذاً أينار وغيردا متشابهين إلى حدّ ما حيثُ يُكمّل كلٌ منهما الآخر وهذا ما جعل زواجهما ناجحاً. غيردا تميلُ بعض الشيء إلى التصرّف كالرّجال وأينار أنثوي في سلوكه ومظهره. المرأة التي تعاني من عقدة فقدان القضيب (penis envy) كما هو الحال عند غيردا تميلُ إلى “التسلّط على الآخرين”، تُخفي أنوثتها، تمشي كالرّجال، تستخدم “الوسائل الحادّة أو المُدببة” كالقلم، الرّيشة وغيرها، تميلُ أيضاً إلى “إخصاء الذكور عبر التقليل من قدرهم والحطّ من مكانتهم والاعتداء اللفظي عليهم” (شعيبي 215). بالعودة إلى أينار وهو يؤدّي دور الراقصة-العارضة، نرى أنّ مشاعر اللذة الجنسيّة لديه اختلطت بالخوف والشعور بالصّدمة. بدَتْ له حينها حدودُ الجسد مساميّة أو هُلاميّة لا تعترفُ بتوصيفاتنا النمطيّة الجاهزة “ذكر” أو “أنثى” بل تتجاوزها أو تجمع بينها. فخرجَ بذلكَ أينار عن الجنس المُحدَّد له في الهويّة ودخل منطقة الترانس جندر transgender. بحسب الجمعيّة الأمريكية للطبّ النفسي: “التحوّل الجندري هو مصطلح عام ينطبق على الأشخاص الذين/ اللواتي لا تتوافق هويّاتهم/ن الجندرية أو تعبيراتهم/ن وسلوكياتهم/ن الجندرية مع الجنس الذي أسندَ إليهم/ن عند الولادة” (بشأن متحوّلي/ات الجندر 1). وهذا ما يكتشفه أينار لاحقاً بعدَ صراعٍ مع الإنكار والهروب والألم الجسدي والنفسي. استمرَّ هذا اللهو (تأنيث أينار) من باب اللعب والإثارة الجنسيّة وتحقيق غايات فنّية حيثُ أخذ أينار يتشبّه أكثر فأكثر بالنّساء وحققت غيردا نجاحاً فنّياً استثنائياً بفضل ظهور ليلي. ساعدته غيردا على ذلك حيثُ انتقت معه الملابس بأنواعها بما فيها الملابس الداخلية والمكياج، ألبسته كالنساء فأصبحَ صديقتها المُقرّبة، درّبته كيفَ يمشي، يتحدّث، ويلهو كالنّساء. وفي هذا الشأن تقول الجمعيّة الأمريكية للطبّ النفسي:
هناك أيضاً الأشخاص الذين/ اللواتي يرتدون الملابس المُصنّفة تقليدياً ونمطيّاً في ثقافتهم/ن على أنها ملابس خاصة بالجنس الآخر. ويتباين هؤلاء من حيث ارتدائهم/ن ملابس الجنس الآخر بشكل جزئي أو كلّي. (…). إنّ ارتداء ملابس الجنس الآخر هو أحد أشكال التعبير عن الجندر ولا يرتبط بالضرورة بالنشاط الإيروتيكي. ولا يُعتبر ارتداء ملابس الجنس الآخر مؤشّراً على التوجّه الجنسي/ الميول الجنسية ( بشأن متحوّلي/ات الجندر 2).
لقد كانت هذه نقطة التحوّل بالنسبة لأينار (لحظة انكشاف المستور كما نقول) إلّا أنّه لا ينتمي إلى هذه المجموعة كما أوضحنا سابقاً حيث لم يكن ذلكَ الأداء (التشبُّه بالنّساء) مجرّدَ ضربٍ من اللهو والتسلية (رغم أنه اعتقد عكسَ ذلك) بل كانَ له أبعاده العاطفيّة، النفسيّة والجنسيّة.
أسئلة حول الهويّة:
لم يعرف أينار من يكون إلى أن تحوّلَ اللهو إلى جدّ وخرجَ الأمر عن نطاق التشبُّه. كان أينار مثلَ مُراهقٍ يكتشفُ رغباته الدفينة وراحَ جسده يبوحُ تارةً ويصرخُ تارةً أخرى طالباً المُساعدة. ففي أوّل خروجٍ له كأنثى إلى حفلٍ مع غيردا، جذبَ إليه/ها الأنظار وكان أوّل انجذابٍ له/ لها مع رجلٍ مِثلي homosexual يُدعى سايندل Sindhal. في هذا السياق نحن أمام مجموعة من الأسئلة عن طبيعة هذا “اللهو” الذي يقوم به الزوجان وعن طبيعة علاقتهما. من جهة ما قاما به إلى الآن هو بمثابة ضرب لمنظومة الأدوار الجندرية الثنائية التي فُرِضَتْ عليهما بطبيعة المجتمع البطريركي، ومن جهة أخرى تفتح هذه الممارسة الباب للتساؤل عن هويّة كل من غيردا وأينار/ليلي الجنسيّة. هل تميلُ غيردا إلى التعدّد في العلاقات الجنسيّة؟ هل يُشكّلُ خروجها مع ليلي نوعاً من المواعدة الغراميّة اللزبيانية؟ هل تكونُ غيردا المرأة الفالوسيّة (القضيبية) التي تشعر بالحسد من القضيب فقامت بتأنيث أينار رغبةً منها بإخصائه (مجازيّاً)؟ ربّما تكونُ غيردا جميعَ ما سبق وهذا ما جعلها تحتوي أينار/ليلي وتتفهّم تحوّله/ها شيئاً فشيئاً. أما بالنسبة لأينار فقد أخذ هذا الموعد “اللزبياني” (ليلي-غيردا) شكلاً آخر عندما اختلى به سايندل (سايندل-ليلي من جهة وسايندل-أينار من جهة أخرى). تركَ هذا الاختبار المُتعدّد (لزبياني، مُغاير، قايز[1]) أينار/ ليلي ضائعاً/ةً حائراً/ةً تتنازعه/ها الألم بين الرغبة والحقيقة وبين العبور والهروب. هنا يجدرُ بنا الذكر إنّ موضوع التوجّه الجنسي بألوانه القوس قزحيّة كانَ من المُحرّمات في تلك الحقبة من الزمن في تاريخ أوروبا حيثُ سادَ التمييز والاضطهاد تجاه المثليين والمثلييات، مزودجي/ات الميول الجنسيّة والمتحوّلين/ات.
“من أين أتت ليلي؟”
بعد ذلكَ الحفل حاولَ أينار اخفاء موضوع لقاءات ليلي المُتكرّرة مع العديد من الرّجال من بينهم سايندال إلا أنه لم يتمكّن من اخفاء التغيّرات النفسيّة والعاطفيّة والأعراض الجسديّة التي تجلّت بوضوح من خلال نوبة النزيف، أوجاع الرأس وخسارة في الوزن. لم تكتفِ ليلي بتلك المواعدات “الغراميّة” أو ربّما الاستكشافيّة بل قامت أيضاً باستعراض جسدها أمام المرآة مُتفحّصةً حقيقة أنوثتها بالمُلامسة ومحاولةً إبراز “ثدييها” وإخفاء قضيبها. جميع هذه العلامات كانت إعلاناً عن ليلي وموتاً تدريجياً لأينار وأصبحت لكل هذه الأسباب ترفضُ أن تُدعى أينار. منذ ظهور هذه الأعراض تبدّلت علاقة الزوجين وأصبحت مع الوقت أشبه بالصّداقة مع العلم إنّ أينار وغيردا متزوّجان منذ ست سنوات ولم ينجحا في إنجاب طفل. لم يترك الزوجان طبيباً نفسيّاً لم يذهبا إليه في الدنمارك وتفاوتت الحلول برأيهم بإتّهامِ أينار بالشذوذ الجنسي ومعالجته بالطرق البدائيّة[2] وبين حجزه في مصحّة للأمراض العقليّة مما اضطرّ بهما الأمر إلى الهرب إلى باريس – بفضل نجاح غيردا الفنّي – لحماية ليلي من الاضطهاد. في هذا الصدد تصرّح الجمعية الأمريكية للطبّ النفسي:
ليس هناك تفسير واحد لكون بعض الناس متحوّلين/ات جندرياً، إذ إنّ تنوّع تجارب وتعبيرات التحوّل الجندري يُعيق أي شرح بسيط أو موحّد للمسألة. ويعتقد كثير من الخبراء والخبيرات أنّ العوامل البيولوجية مثل التأثيرات الجينية، ومستويات الهرمونات قبل الولادة، والتجارب المُبكّرة واللاحقة خلال مرحلتي المُراهقة والبلوغ، جميعها تُساهم في تطوّر الهويّات المتحوّلة جندرياً (بشأن متحوّلي/ات الجندر 2).
لا ننسى هنا أن نذكر أحد أهمّ المؤشرات المُبكّرة في طفولة أينار حيثُ لم يكن التشبّه بالنساء جديداً على أينار الطفل بل شوهدَ يرتدي مَرْيَلة وكان صديقه هانز يُقبّله. قامَ والدُ أينار بضرب هانز على هذا السلوك المُشين وبتوبيخِ أينار بدلاً من احتضانه وتقبُّله كما هو/هي أو استشارة المختصّين/ات في قضايا الصحّة النفسيّة والجنسيّة.
من ريشة الرّسام إلى إزالة القضيب:
لم يتنكّر أينار لحقيقة من يكون عندما جاء هانز لزيارته في باريس بل على العكس ظهر أمام هانز كأنثى. كان انتقال ليلي وغيردا إلى باريس خطوة إيجابية أخرى على الطريق الصحيح لا تخلو بالطبع من الصعوبات والتحدّيات بدءاً بالقبول الإجتماعي، التعرّض للعنف وانتهاءً بمشاكل الطبّ النفسي آنذاك. أثناء هذه الرّحلة من الدنمارك إلى فرنسا تصالحت ليلي شيئاً فشيئاً مع حقيقة أنها أنثى في جسد ذكر وقرّرت بمساعدة ودعم غيردا وهانز إجراء عمليّة توكيد الجنس على يد أحد الأطباء الذي آمنَ بها وشخّصَ حالتها على أنّها من المتحوّلات. أكّد لها الطبيب مدى خطورة العمليّة إلا أّنّ ليلي أصرّت على إجرائها. وبهذا القرار انتقلت ليلي من “التحوّل الجندري” إلى “التحوّل الجنسي” (transexual) ويشير هذا المُصطلح إلى الذين يرغبون “أو يقدمون على تحويل أجسادهم/ ن من خلال الهرمونات أو الجراحة (…) لجعلها متطابقة قدر الإمكان مع هوياتهم/ن الجندرية” (بشأن متحوّلي/ ات الجندر 1). بالنظر إلى ما حدثَ مع ليلي نرى أنّ أينار فقدَ عضوه الذكري مجازيّاً مُذ قلّد الراقصة ليساعدَ غيردا على الوصول إلى النّشوة الفنّية ثمّ فقدَ اهتمامه تماماً بالرّسم ربّما لأنّ الرّيشة تذكّره بالقضيب الذي يحلمُ لا شعوريّاً بخسارته. بمعنى آخر سمحَ أينار لغيردا أن تلِجَه فنيّاً وبمساعدة الطبّ تمكّن من التخلّص من القضيب نهائياً ليصبح جنسه (ذكر بالولادة) متوافقاً مع جندره (شعوره بأنّه أنثى). ليس للإبداع علاقة بوجود أو عدم وجود القضيب لأنّ الإبداع هو وظيفة من وظائف الفص الأيمن الأنثوي من المخ أي لا علاقة له بجنس المولود بل يختلف بإختلاف بصمتنا المُخيّة (عماد فوزي شعيبي). تُعرف أيضاً هذه “البصمة المُخيّة أو المعرفيّة” ب”العارف المُتموضعSituated Knower ” – التي لا يستطيع أحد تغييرها وبها تتحدّد بصمتنا العاطفية (ذكاءنا الوجداني) وبصمتنا الجنسيّة (الهويّة الجندرية[3] والميل الجنسي لدى كل منّا) (شعيبي 8). إنّ تخلّي ليلي عن الرّسم ليس سوى تغيّر في حالتها الإبداعية من الرّسم إلى الاهتمام بأشياء أخرى كالأزياء والمكياج والكتابة. وباختصار، تصف الجمعيّة الأمريكية للطبّ النفسي (APA) رحلة عبور المتحوّلين/ ات على النحو التالي:
في حين لا توجد طريقة “صحيحة” للتحوّل الجندري، إلا أنّ هناك تغيّرات اجتماعية شائعة يعيشها المتحوّلون/ات جندريّاً قد تشمل واحد أو أكثر مما يلي: تبنّي المظهر الذي يعبّر عن الجندر المرغوب به من خلال تغييرات في الملابس والتزيّن، وحمل إسم جديد، وتغيير تصنيف الجنس في وثائق الهوية (إذا أمكن)، والخضوع للعلاجات الهرمونية، و/ أوالخضوع للعمليات الجراحيّة التي تعدّل الجسد ليتلاءم مع الهوية الجندرية (بشأن متحوّلي/ ات الجندر 3).
لا تعتبر الجمعيّة الأمريكية للطبّ النفسي (APA) التحوّل الجندري اضطراباً نفسياً إلّا إذا تسبّبَ للمرء بالإزعاج وعدم القدرة على العمل (بشأن متحوّلي/ ات الجندر 3-4). لم يحدث هذا إلا لفترة قصيرة مع ليلي تلك الفترة التي لم تكن متأكدةً تماماً من هويّتها الجندريّة لكن بعد إزالة القضيب بالعملية الجراحية استعادت حياتها الطبيعية وعملت في بيع العطورات والمكياج. لم تتحوّل علاقة ليلي بغيردا إلى علاقة لزبيانية بعد إزالة القضيب جراحيّاً بل كانت تميلُ إلى الرجال وانتهى بذلكَ زواجهما كرجل وامرأة لأنّ ليلي لم تعد رجلاً. يجدرُ بنا التنويه إلى أنّ المتحوّلين/ات مثلهم مثل غير المتحوّلين/ات فمنهم من يكون مغاير أو مِثلي أو مزدوج الميول أو لا جنسي (بشأن متحوّلي/ات الجندر 2). تنصح الجمعيّة الأمريكية للطبّ النفسي بتوفير كافة سبل الرعاية الصحيّة النفسيّة والطبيّة والاجتماعيّة للمتحوّلين والمتحوّلات لاحتوائهم/ن في المجتمع دون التعرض للتمييز والعنف ولتسهيل عمليّة تحوّلهم/ن الاختياري.
الحُبّ الحقيقي:
إنّ أجمل ما في الفيلم هو حُبّ غيردا لزوجها حتى بعدَ اكتشافه لهويّته الحقيقية وقراره القيام بالعمليّات الجراحيّة. رغمَ إنّ قراره هذا أدّى إلى انتهاء زواجهما كرجل وامرأة إلّا أنّ غيردا لم تترك ليلي تخوض هذه التجربة المؤلمة بمفردها بل وقفت إلى جانبها تبحثُ معها عن أطبّاء إلى أن وجدت الطريق المناسب لتحقيق التحوّل الجنسي ولم تتركها إلى أن فارقت الحياة إثرَ المضاعفات التي حدثت لها نتيجة عمليّة زرع الرّحم. في آخر مشهدٍ في الفيلم وهي على فراش الموت، قالت ليلي لغيردا: “ماذا فعلتُ لأستحقَّ كلَّ هذا الحُبّ؟” هذه اللحظات الإنسانية التي جمعت أينار-ليلي-غيردا لا تخلو من الألم النفسي والعاطفي والجسدي لكلا الطرفين. لم يكن هذا العبور عبوراً لليلي فقط بل كان أيضاً عبوراً لغيردا فمن خلال هذه الرّحلة سقطت الكثير من الأقنعة لتكشفَ لنا وللبطلتين الهويّات الاستثنائية لكل من ليلي وغيردا. بتخلّي غيردا عن التملُّك كانَ لابُدَّ للحبّ أن ينتصرَ على الأحكام الإجتماعية المُسبقة، على التابوهات، وعلى الصّورة النمطيّة للزواج. بالحُبّ تغلّبت البطلتان على الاضطهاد وبالحُبّ تمكّنتا من كشف النقاب عن المُحرّمات وتحويل المُستحيل إلى مُمكن والتّفاني في احتواء الآخر ولولا غيردا لما كانت ليلي.
********
[1] ليزبياني أي امرأة-امرأة ، مُغاير امرأة-رجل، وقايز رجل-رجل. أفضّلُ استخدام كلمة “قايز” بدلاً من “لواط” أو “لوطي” لأنّ لكلمة “لواط” أصول دينية لها إطارها الزماني والمكاني الذي لا يُمثّل مجتمع الميم (LGBT) اليوم.
[2] “منذ العام 1975، نادت الجمعيّة الأمريكية للطبّ النفسي (APA) بأخذ زمام المبادرة لإزالة الوصمة الملازمة للمرض النفسي الذي لطالما ارتبط بالمثليّات والمثليين وثنائيو وثنائيات الميل الجنسي (والمتحوّلين والمتحوّلات). (…). وتشير الدلائل إلى أنّ الأراء والأحكام المُسبقة والتمييز الذي يتعرّض له أؤلئك الأشخاص ممن يعرّفون عن أنفسهم كمثليّات ومثليين وثنائيو وثنائيات الميل الجنسي (والمتحوّلين والمتحوّلات)، لها آثار نفسية سلبية (من أجل فهم أضل للميول الجنسية 1).
[3] لابُدّ هنا من التمييز بين “الهوية الجندرية” و”الدور الإجتماعي للجندر”: الهوية الجندرية تعني “الشعور النفسي بكون الشخص ذكراً أو أنثى” أما الدور الإجتماعي للجندر أي “المفاهيم الثقافية التي تحدد تعريف السلوك الذكري والأنثوي” (من أجل فهم أفضل للميول الجنسية 1).
*****
المراجع:
شعيبي، عماد فوزي. كيف تفكر الأنثى. بيسان: بيروت، 2017.
“بشأن متحوّلي/ ات الجندر والهوية الجندرية والتعبيرات الجندرية.” الجمعية الأمريكية للطب النفسي.(1-7)، 2011.
“من أجل فهم أفضل للميول الجنسية والمثلية الجنسية.” الجمعية الأمريكية للطب النفسي.(1-7)، 2011.
أنثى في جسد ذكر
فيلم الفتاة الدنماركية (2015 The Danish Girl) مأخوذ عن رواية تحمل نفس الاسم للكاتب ديفيد إبرشوفDavid Ebershoff مستوحاة عن حياة الدنماركيتين ليلي إلبي Lili Elbi (1882-1931) وغيردا فاينر Gerda Wegener (1886-1940). هذه القصة هي قصّة أوّل متحوّل/ة جنسي/ة عُرفَ/ت باسم أينار فاينر Einar Wegener...
www.alawan.org