د. مصطفى الضبع - البحث العلمي في ألفيته الثالثة.. اختيار الموضوع

يتحرك الباحث في دوائر متداخلة، منتقلا من التخصص العام (اللغة العربية) أو غيرها مثلا، ومنها إلى آداب اللغة، أو لغوياتها وصولا إلى تخصص دقيق (نقد الرواية مثلا أو الأسلوبية أو السيميائية، أو البلاغة القديمة وهكذا) وداخل التخصص الدقيق يقع موضوع البحث أو الرسالة العلمية ، فإذا حصرنا هذه الدوائر في دائرتين أساسيتين : دائرة التخصص ودائرة الموضوع ، فالأولى يدخلها الباحث وفق معيار أساسي هو حبه أو رغبته في دراسة تخصص ما وهو ما يترجم إمكانيات قريبة الصلة من الموهبة في تخصص ما ، وهي دائرة يحددها الباحث نفسه ويقل فيها تدخل المشرف ، حيث تدخل المشرف يعني فرضه تخصصا على باحث ليس مستعدا ولا يملك قدرا من الاستعداد لدراسة تخصص ما وهو ما يعني الدخول للدائرة الخطأ ، من أخطاء المشرف أن يأخذ تلميذه إلى منطقة تخصصه التي قد لا يكون التلميذ ممتلكا ما يعينه على دخولها ، وقد لا يمتلك القدرة على رفع درجة الاستعداد لها فهذا ديدن بعض الأساتذة (يفعل هذا قلة من الأساتذة يجدون أنفسهم في موقف تدريس مقررات جديدة أو تخصصات دقيقة داخل التخصص العام فيدشنون أنفسهم ويحققون إضافات حقيقية فيها ، ولكن ليس الجميع قادرين على فعل ذلك أو استنهاض همتهم للإنجاز) .
المقبول علميا أن يختار الباحث منطقة التخصص ( السرد – الشعر – البلاغة – النقد ) فإذا مادخلها مدفوعا برغبة واستعداد يكون تدخل المشرف داخل هذه الدائرة ، والباحث الذي لم يقرأ رواية واحدة في حياته لن يحقق منجزا علميا في دراسة السرد ، وهو ما نراه من ضعف مستوى كثير من المشتغلين بتدريس الرواية والقصة (شخصيا لا أتقبل مطلقا غياب العمق العالمي في الرواية حين يكتفي الباحث بالرواية المحلية مهما كانت قيمتها ، ولا أتقبل مطلقا أن يتخصص أحدهم في السرد ولم يقرأ ألف ليلة وليلة مثلا بوصفها أجرومية السرد وهو ما يفسر أيضا السقف المنخفض (جدا) لذائقة بعض نقاد السرد الأكاديميين في جامعاتنا العربية عامة والمصرية خاصة، وأتذكر الآن أستاذ البلاغة الذي أراد يوما أن يحقق ظهورا إعلاميا فطلب مني أن ألخص له أي رواية ليتحدث عنها في إحدى القنوات )
في مرحلة الماجستير قد يقبل أن يتجه الباحث وجهة معينة، لكن الأمر الأخطر في مرحلة الدكتوراه كأن يدرس الباحث الشعر الحديث مثلا في الماجستير، وفي الدكتوراه يتحول إلى البلاغة القديمة أو الأدب الأندلسي مثلا فهذا من شأنه أن يقلل من عمق الباحث في تخصصه (وهو ما يضر أحيانا بالباحث حين يتقدم إلى وظيفة جامعية تكون فيها الأفضلية لمن تعمق في دراسة التخصص في مرحلتي الماجستير والدكتوراه وهو ما يعني أن المشرف لم يكن حريصا على تعميق رؤية تلميذه عبر وضعه في خط تخصصي يحقق فيه وجوده ليكون مؤهلا لاحقا للانطلاق نحو التنوع المطلوب في أبحاث الترقية).
المنطقي أن يحافظ المشرف على الخط الذي بدأه الباحث في الماجستير، وأن يكون سؤال الأستاذ الأول عن استعداد تلميذه للبحث في مجال ما من مجالات التخصص ولا يجبره على قبول ما ليس مقبولا لديه (الإجبار ليس بالمعنى الدقيق للكلمة ولكن قد يكون في صورة تحرج الباحث من مراجعة أستاذه أو وقوعه في منطقة الطاعة العمياء التي قد تورطه في قبول دراسة موضوع لا قبول له عنده)
يختلف الأمر في الدائرة الثانية الخاصة بالموضوع إذ تعتمد على الشراكة بين الباحث ومشرفه، ويمكن أن تتسع مساحة حضور المشرف فيقترح الموضوع أو يكون الاختيار ناتجا عن حوار بين الاثنين، وفي الحالتين من المنطقي الحفاظ على المبادئ السابقة الخاصة بالخط الذي يكون الباحث قد انتهجه في مرحلة الماجستير، إضافة إلى وعي الباحث بقدراته وخبراته في منطقة عمل محددة.
إن أسئلة لابد أن يكون الباحث صادقا مع نفسه في إجابتها:
- هل أنا متقبل ...هل أرغب في دراسة ....... هل أمتلك خلفية معرفية تؤهلني لدراسة كذا ......أو هل لدي استعداد لتدشين نفسي عبر وضع برنامج مكثف للقراءة في مجال معين بالقدر الذي يؤهلني لدراسته؟
من خطايا المشرف: فرض موضوع أو نقطة بحثية على تلميذه دون التثبت من إحاطته بالموضوع أو قياس قابليته أو رغبته في دراسته (كم من مشرف ورط تلميذه في موضوع، وكم من باحث ورطه أستاذه في موضوع تحمل فيه تبعة طاعته العمياء لمشرفه ، والورطة هنا يجني تبعاتها الباحث وحده حيث يخسر وقتا وجهدا ويدخل في دوامة إدارية هو في غنى عنها ، فمن المؤكد ومن المنطقي أن يبذل الباحث جهدا ولكن الأهم أن يبذله في الاتجاه الصحيح ، والمشرف الحقيقي ذلك الذي يروض جهد تلميذه لا يبدده (كان الباحث يستعد لتسجيل رسالته عن شاعر يعيش في مدينة بعيدة وكان من المنطقي أن يتواصل مع الشاعر للحصول على أعماله النافدة طبعاتها ، وكان من المنطقي أن يستجيب الشاعر ، ولكن كان للمشرف رأي آخر فقد كان يريد من تلميذه أن يتعب كما تعب أستاذه وكان المطلوب هو أن يسافر الباحث إلى مدينة الشعر للحصول بنفسه على أعمال الشاعر ) وفات المشرف ثلاثة أمور :
- أن تلميذه ليس ملزما بإعادة تجربته فهذا يعني استعادة زمن أستاذه، وأن على الأستاذ أن يجعل تلميذه يعيش عصره لا عصر أستاذه، (بعض المشرفين يروق له ترديد جملة: لقد حفرنا في الصخر، وهم لا يعلمون أن الصخرة التي حفر فيها الأستاذ ليست هي الصخرة نفسها التي يجب على التلميذ أن يحفرها فلو كانت هي الصخرة نفسها فهذا يعني أن الأستاذ لم يحفر ولم ينجز وإلا مابقيت الصخرة نفسها حتى وصلت على تلميذه).
- أن الجهد في القراءة والاطلاع أهم شأنا وأجدى نفعا من بذل الجهد في السفر.
- أن الباحث في الألفية الثالثة لديه من الأدوات مالم يكن متاحا في زمن مضى ويكون من العار على باحث هذا العصر أن يتغاضى عن مكتسبات البشرية، ويخون عصره حين لا يوظف كل ذلك لصالح البحث العلمي.
يخطئ بعض الباحثين حين يحكمون على الموضوع بأنه جيد أو غير جيد، فالمعيار دائما ليس جودة الموضوع ولكن جودة العمل والإنجاز، ليست القضية أنك وقعت على فكرة جيدة كما تعتقد ولكن القضية ماذا فعلت بالفكرة وما أنجزت منها (كم من باحث أفسد موضوعا جديدا، وكم من باحث قدم منجزا علميا من فكرة بسيطة قد تدخل في دائرة استهانة البعض ).
الأفكار البحثية أو ما يعتقده الباحث موضوعات للبحث، تتدرج وفق عدد من الدرجات:
1- فكرة جديدة تماما، غير مطروقة: العجوز في ألف ليلة وليلة – الطفل في الرواية -
2- فكرة قليلة التداول يعتمد الباحث فيها على منجزات سابقة قليلة: المكان في الرواية – التماسك النصي في الرواية،
3- فكرة متداولة يغير الباحث فيها وجهة النظر بإضافة تجعل منها مجالا جديدا للبحث: طوال الوقت يتعامل الباحثون والنقاد مع المكان بوصفه بطلا، وجاء باحث عمل على تغيير وجهة النظر من كون المكان موضوعا يكتب (عنه) الباحث إلى كونه تقنية يكتب (بها).
4- فكرة منحوتة من موضوع سابق: يقتصر دور الباحث فيها على إعادة انتاج البحث ناقلا الفكرة من منطقة عمل على أخرى: درس الباحثون فكرة الوطن عند شاعر معين أو مجموعة شعراء، لاحقا يأتي باحث لدراسة الفكرة عند شاعر آخر أو شعراء آخرين معتمدا هيكل البحث السابق أو مقاربا له أو ناسخا بعض تفاصيله.
5- فكرة قديمة يطرحها الباحث وفق منهج جديد: درس السابقون نتاج الشعراء في عصورهم المختلفة وفق المناهج الموضوعية في زمن لم تكن المناهج النصية قد أخذت طريقها للدرس النقدي، وهو ما يفتح المجال لدراستين: سابقة (دراسة نتاج شاعر من مثل عنترة بن شداد وفق منهج تاريخي مثلا) ولاحقة (دراسة الشاعر نفسه وفق النظرية البنيوية أو الأسلوبية مثلا).
ربما تتعدد تصنيفات الأفكار وليس هناك تفاضل بينها ، فالقضية ليست في التصنيفات أو قيام مبدأ التفاضل وإنما القضية تكمن في رؤية الباحثين ومفاهيمهم للأفكار والخلاصة: لا تنبهر بالفكرة فتعميك أضواء الانبهار وتضل طريقك إلى الإنجاز.
وللحديث بقايا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى