( الفصل الخامس من رواية قصة الخلق )
مرت بضعة أيام لم يتلق فيها محمود أي تهديدات أو محاولات ارهابية . شكر إلهه على الأمر، معتقدا أن مهدديه ربما اتفقوا على اعطائه مهلة للتوبة ، أو أنهم شعروا باستنفار القوى الأمنية للبحث عنهم ، فاختبأوا إلى أن يتوقف الأمن عن البحث. وبدت لمى مرتاحة بعض الشيء لتوقف التهديدات .. وحان موعد تسجيل الحلقة الثانية من الحوار لقناة أفق المعرفة . اتفق مع أسيل على اللقاء.
بدت أسيل مشرقة ومتوهجة الوجه وكأن سعادة ما تغمرها. رحبت بمحمود أشد ترحيب وعانقته مقبّلة. شرعا في اجراء الحوار على الفور. هتفت أسيل :
- استاذ محمود ، كان محور حديثنا في الحلقة الماضية هو الوجود ومن أين جاء، بغض النظر عن التفرعات الناتجة عن إجاباتكم التي سنتطرق إليها فيما بعد، ونظرأ لأن هذه المسألة هي ما يقوم ويرتكز عليها حوارنا كله ، ولصعوبة فهمها على المشاهد ، فإنني آمل منك أن تعيد قدر الإمكان تلخيصها للمشاهدين ، حتى يحصلوا على فهم مقبول لها، ويتمكنوا من متابعتنا بيسر في اللقاءات القادمة.
- حسناً .. سأحاول :
- الوجود جاء من عقل طاقوي عظيم غير طقمادي ، أي طاقة لا تنطبق عليها شروط ومواصفات الطاقة والمادة ، يتصف بالوعي والحكمة ! اعتبره العقل البشري فيما بعد ، أي بعد اختراع اللغات، من زمن قريب جدا مقارنة بعمر الوجود، إلهاً، أو ربّاً، أو خالقا، أو محركاً أول، وأطلق عليه أسماء أخرى كثيرة حسب الأمم : الأب ، الأم الكونية ، عشتار، رع ، إيل ، مردوخ، براهمان . العلة الاولى . قوة الحياة . المطلق الأزلي . الحق . فاهيغورو.
- عفوا للمقاطعة . ما هو فاهيغورو هذا ، لم أسمع به من قبل ؟
- هذا أحد أسماء الإله لدى الطائفة السيخية في الهند! وثمة أسماء أخرى كثيرة أطلقتها الأمم عبر العصور على القائم بالخلق أو القائمين به من آلهة مختلفة. يمكن اطلاق "الهيولى البدئية" على الحال الاولى له حسب فهمي . كان كامنا لمليارات السنين في اللا أين، أو ما يمكن اعتباره عدما، مع أنه ليس عدما. كان يفكر بدأب في أن يوجد وجودا لوجوده، وحين توصل إلى تصورما ، شرع في إظهاره من هيولى التصور إلى العلن، وما الانفجارالكبير الكوني إن صحت نظريته ، إلا بدء انبثاق وانبعاث وتوهج هذا العقل، والشروع في رسم الخريطة الكونية الأولية، وإيجاد الزمان والمكان، وبث القوى الكونية الأربع الناظمة لوجوده : القوة النووية الصغرى، والقوة النووية الكبرى، و قوة الجاذبية، والقوة الكهرومغناطيسية ، إضافة إلى طاقتة الخالقة ، وطاقة عقله الكونية . لتظل قواه هذه بكليتها عناصر الخلق ومكوناته الأساسية إلى الأبد ، التي دونها لا يمكن أن يكون هناك كون وخلق ووجود بالمطلق .. من هذا العقل العظيم ، وهائل الوجود، ومن كل ما انبثق عنه، جاء كل شيء في الوجود. وكل وجود في الوجود، من أصغر جسيم دون ذري، إلى أكبر مجرة، لا ينفصل عن وجوده ، بل جزء أساسي من وجوده !! والوعي والحكمة اللذان يتصف بهما مبثوثان في الخلق، من أصغرجسيم إلى أكبر مجرة ، وطاقته الخالقة تسري في الكون والكائنات كذلك، من أصغر جسيم إلى أكبر مجرة . فليس في الوجود إلا هو، وهو وحده ، وما كل وجود إلا منه وله ، وما كل ظهورأو تمظهرلكائن ما إلا له ، دون أن يكون الكائن هو بكليته ، بل جزء يسيرجدا جدا لا يكاد يذكر من وجوده الكلي. الوجود كله في داخله ولا شيء على الاطلاق خارجه!
- حتى الفضاء ؟
- لم يكن هناك فضاء قبل تجليه ، فالفضاء جزء من وجوده.
- والسماوات ؟
- أي سماوات هل تحدثت أنا عن سماوات ؟ لماذا تريدين أن تدخليني في مفاهيم معتقدات أخرى ، هناك فضاء غير محدود يتمدد باستمرار وليس سماوات. هل علي أن أعيدك إلى موضوعنا الذي هو فلسفتي ، في كل مرة تخرجين فيها عنه ؟على أية حال قد أجيبك لا حقا عن رأيي في المعتقدات والفلسفات والأديان كلها .
- أليس رأيك في المعتقدات الأخرى هو جزء من فلسفتك ؟
- صحيح . لكن ما يهمنا الآن هو فلسفتي في الوجود ،وليس رأيي في الفلسفات الأخرى.
- أليس في مقدورك أن تقول رأيك فيها باختصار من الآن ؟
- إنها اجتهادات العقل البشري على مرالأزمان لمعرفة الوجود والغاية منه . هذا جزء من الاجابة وليس الإجابة كلها . وسنترك التفاصيل إلى حينها .
- التصور الذي طرحته للوجود تحتاج كل فقرة منه إلى عشرات الاسئلة .
- وأنا هنا لأجيب . فهذه فلسفتي ويهمني أن أجيب عن كل تساؤل حولها .
- هل يمكن اعتبار الوجود عقلا حسب ما قدمته حضرتك ؟
- هو نتاج عقل هائل كما أسلفت ، لكن مجازا يمكن اعتباره كذلك! لي قول حول الانسان مثلا أرى أنه عقل ، ودون عقل يغدو أجوف كالطبل ولا معنى لوجوده! والوجود دون عقل لا معنى لوجوده ، فما ينظم وجوده ويطوره هو عقل كوني كلّي.
- وهل يمكن اعتبار هذا العقل إلهاً؟
- ممكن . وممكن أن لا تفيه المفردة حقه ، كأن يكون أكبر من إله ، أو أن يكون الطبيعة كونه مجسدا فيها ، أو أن يكون العقل المجرد . أنا أفضل مفردة خالق ، رغم أنها مفردة كغيرها من المفردات اللغوية التي أوجدها العقل البشري بعد اختراع اللغات من زمن قريب جدا من عمر الوجود البالغ أربعة عشر مليارعام . وقبل ذلك لا يعرف أحد ماذا كان الخالق يطلق على نفسه ! هذا إذا كان يرى أن وجوده في حاجة إلى اطلاق اسم أو صفة عليه . مفردات مثل الله أو الرب أو الطبيعة قد تشير إلى فهم ما بعينه ، لذلك أفضل مفردة خالق لشموليتها. يمكن التطرق لهذه المسائل حين نشرع في الحديث حول فلسفة الألوهة والخلق . فكل ما يجري ليس خارج الذات العقلانية الخالقة مهما كانت !
- ألسنا الآن في التحدث حولها ؟
- نحن في جانب منها يتعلق بمفهوم الخالق .
- لنعد إلى وجود العقل الذي كان في (هيولى بدئية) حسب تعبيرك قبل الانبثاق أوالتوهج أو التجلي أو الانبعاث أو الانفجار، من أوجد هذا العقل ؟
- هو موجود بذاته ولذاته منذ الأزل دون موجد له ، وما زال يوجد ذاته بذاته لذاته دون موجد له .
- هل يمكننا في هذه الحال أن نقول : في البدء كان العقل بدلا من القول : في البدء كان الكلمة ، حسب الكتاب المقدس!
- ها أنت تعودين لتزجي بالمعتقدات في حوارنا، لكتّاب الكتاب المقدس ولغيرهم الحق في رؤية الوجود بمنظورعقل زمنهم، كما أرى أنا بمنظورعقل زمني، نعم في البدء كان العقل !
- ومنذ متى كان هذا البدء؟
- بدء غير محدود على الاطلاق ؟
- لماذا؟
- لأنه ليس في استطاعتنا تحديد زمن الوجود البدئي للخالق/ العقل، لعدم وجود زمكان حينذاك ، فوجوده لم يكن مرتبطا بزمن محدد ، بل بزمن مطلق إذا جاز لنا أن نوظف مفردة زمن . فالزمن بالنسبة لنا بدأ بالانفجارالكبير، هذا إذا صحت نظرية الانفجار . فنحن نتعامل معها كنظرية لم يجر دحضها علميا أو منطقيا حتى يومنا ، بينما وجود خالق أو قائم بالخلق كان قائما قبل ذلك ، مع أن تعبير (قبل) أيضا هو تعبير خطأ ، لارتباطه بالانفجارالكوني ، فلا أحد يعرف ما هو ( القبل ) قبل الانفجارالكوني لعدم وجود قبل وحتى بعد أيضا ، طالما أن الانفجار لم يحدث.
- هل في الامكان القول أن هذا الوجود الكامن حسب تعبيرك أيضا ، كان عقلاً محضاً ؟
- أجل إنه كذلك ؟ عقل محض غير معزول عن ماهيته ( اللاحقة ) التي لا يتم تمظهر وجوده إلا بوجودها ؟
- تقصد بماهيته جوهره ؟
- أجل ! مع أنه يمكننا أن نميز بينهما مجازاً إذا ما أردنا أن نعرّف جوهر العقل بالحكمة والوعي بينما ماهيته بالطقمادية المجسد فيها ، حسب تعبيري، التي نجمت فيما بعد عن هذا العقل !
- الطقمادية ماهية عقل الخالق ؟
- نعم !
- هل لك أن توضح لي مفهوم الطقمادية ، خاصة وأن مفعوم المادة ما يزال ملتبسا عند الناس؟
- صحيح. حسب معادلة آينشتاين زالت الفوارق بين المادة والطاقة، كما هي الحال مع الزمكان الذي هو دمج لمفهومي الزمان والمكان . ولهذا ينبغي أن ننظر إليهما ككيان واحد وليس ككيانين ، ولا يمكن عزل إحداهما عن الأخرى إلا مجازا .. فليس هناك مادة إلا وينجم عنها طاقة وليس هناك طاقة إلا وينجم عنها مادة ، فكل ما نلمسه ونراه ليس في حقيقته إلا طاقة متحولة حتى لو بدا لنا جمادا، لا حياة فيه . ولو أردنا أن نطبق هذا النص النظري على العقل كطاقة ، أي كقدرة غير محدودة بدقّة، لقلنا: ليس هناك عقل إلا وينجم عنه خلق مادي ما، وليس هناك خلق مادي - خاصة إذا ما كان حياً- إلا وينجم عنه عقل ما . ويمكن القول إنّ المادة تنطوي على العقل بإنتاجها له ، وأن العقل ينطوي على المادة بإدراكه لها . ويمكن أن ينطبق الكلام على الوعي كنتاج للعقل.
- يقال أن الحيوانات دون عقل !
- غير صحيح على الاطلاق، ليس هناك كائن حي دون عقل يعي به، حتى أدق الكائنات وأصغرها حجما. وليس بالضرورة أن يكون وعيها أو عقلها ناتجاً عن دماغ ، فالعقل الخالق الذي أنتج ما لا يحصى من أشكال الوجود والحيوات والأدمغة ليس نتاج دماغ !
- بما في ذلك النباتات ؟- أجل !
- ماذا لو طبقنا هذا النص النظري على الانسان ؟
- ليس هناك انسان إلا وينجم عنه عقل ، وليس هناك عقل انساني إلا وينجم عنه ابداع وعمل مادي! وإذا ما أردنا أن نطبق النص على الدماغ لقلنا ، ليس هناك دماغ إلا وينجم عنه عقل ، وليس هناك عقل إلا وينجم عنه فعل كفكرأو مادة ما. وإذا كان العقل ينجم عن أعضاء أخرى مختلفة في جسم الانسان ، كالقلب والأعصاب، وهذا احتمال ضعيف رفضه أبقراط والعديد من الفلاسفة. فيمكن القول أن العقل ينجم عنها .. وهذا ما نعنيه بتغير الحال بين المادة والطاقة رغم كونهما كيانا واحدا . وإن أعدنا تأكيد المقولة النظرية على الدماغ مثلا، لقلنا، الدماغ ينطوي على العقل بإنتاجه له ، والعقل ينطوي على الدماغ بإدراكه له .
- هل في هذه الحال يمكننا أن نستنتج أن الانسان عقل ؟
- أكيد كما أسلفت .. الانسان عقل والوجود عقل والخالق عقل ودون العقل لا معنى لأي وجود مهما كان . العقل/ الخالق، أوالعقل الطاقوي، أو طاقة الخلق، أو القائم بالخلق، أو الخالق، أو الله مجازا : يسري في الكون من أعلاه إلى أدناه ، من أكبر مجرة في الكون إلى أصغر خلية في أجسادنا ، وإن شئت في أصغر الكترون أو ما شابه !
- يا إلهي عقل لدى الاكترون ؟
- يا عزيزتي هذا الإلكترون حير أكبر علماء الفيزياء ، فلم يستطع أحد معرفة موقعه وزمنه وعزمه وطاقته ، فهو أشبه بساحر شيطاني كلما تم توقع وجوده في مكان ما قفز في اللحظة ذاتها إلى مكان آخر ليبدو وكأنه موجود في كل مكان وغير موجود في الوقت نفسه.
- وماذا عن الوعي ؟
- الوعي هو ما نكتسبه بالعقل عبرالحواس والعمل والتجربة والتأمل والبحث ، ليغدو جزءا من تكوين العقل نفسه ، فدون عقل لا يمكننا أن نكتسب معرفة مثلا ، فالمعرفة ضرورة لتنمية الوعي . وهما ( العقل / الوعي) متلازمان كالمادة والطاقة . وإذا كان ثمة مشكلة في العقل البشري، فهي تكمن في وعيه الذي يتوقف لمئات القرون وربما آلاف الأعوام على مفاهيم محددة ولا يسعى إلى تجاوزها ، لاعتقاده أنها حقائق مطلقة .
- وماذا عن مفهوم حضرتك هل تعتبره حقائق مطلقة ؟
- أبدا .. هو اجتهاد فكري كغيره من اجتهادات العقل البشري عبر التاريخ لمعرفة الوجود والغاية منه . الحقيقة المطلقة لم يعرفها العقل البشري بعد ، وربما لا يعرفها حتى الخالق نفسه ، وإن كان هو الأقدرعلى معرفتها ، هذا إذا كان هناك حقيقة مطلقة ، ليس بعدها حقيقة . فثمة احتمال كبير أن مفهوم الحقيقة المطلقة لم يوجد بعد . فالحقيقة المطلقة في ما يتعلق بمفهومي ، يفترض أن تكون معرفة الخالق بمنطق علمي لا يقبل الجدل على الاطلاق، والغاية من الخلق، وانتهاء الغاية التي أرادها الخالق من الخلق، وهي بناء الحضارة الانسانية وتحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال .. وفيما يتعلق باجتهادي وتميزه عن الاجتهادات الأخرى المثالية وغير المثالية كونه يستند إلى العلم والمنطق بقدر مقبول ، استنادا إلى ثقافة محدودة أيضا حصلت عليها بجهدي ومثابرتي. واجتهادي لا يخلو من أفكار قد تكون مثالية في نظرآخرين وحتى في نظري، لأنني لا أتصور وجود بدون خالق، حتى لو كان الخالق هو الطبيعة نفسها دون وجود طاقة خالقة فيها .
- اذن أنت تعتبر مفهومك اجتهادا وليس حقائق مطلقة . وآمل من المشاهدين أن يتنبهوا للأمر ، فالأستاذ محمود يجتهد قدرالإمكان استنادا إلى المنطق وما توصلت إليه العلوم ، ولا يعتبر اجتهاده حقائق مطلقة.
- صحيح . أشكرك ، فأنا لست مشعوذا !
- لكن ما نسبة التأمل في هذا الفكر إذا جاز لنا أن نعطيه نسبة .
- التأمل يغتني بالثقافة ومختلف صنوف المعرفة ، ودون ذلك يكون التأمل والتخيل فقيرين في محتواهما.. لذلك يصعب تحديد نسبة لتأمل مجرد معزول عن ثقافة ومعرفة . فالتأمل العقلاني يستند إليهما. لكن يمكن القول إن تأملاتي الشخصية تتعلق بما قبل الانفجار الكبير، كون العلم وقوانين الفيزياء لم تعرفا شيئا قبله ، فالقول أن الوجود جاء من عقل طاقوي، هومن بنات أفكاري ، و كذلك معظم ما يتعلق بوجود خالق وعملية خلق وغاية من الخلق وموت وما بعده ، كل هذا من تأملاتي ويشكل نسبة كبيرة من فكري ، وإن أردنا أن نعطيه نسبة يمكن أن تزيد على سبعين في المائة .
- لكن إلى أي حد تعتقد أن فكرك هذا يمكن أن يتقبله الناس؟
- الناس العقلانيون فقط الذين يؤمنون بدور العقل في الوجود وفي الحياة ، هم من يتقبلون هذا الفكر، أما النائمون على أساطير المعتقدات ، أو حتى الذين يغلقون عقولهم على أفكار مناقضة ، لن يتقبلوا فكري.
- وظفت عبارات مختلفة في الوجود البدئي ، كالعقل الطاقوي أو الطاقة العقلانية ، أو العقل ، أو الهيولى البدئية ، فهل ثمة اختلاف في هذه التعابير أم أن لها كلها مدلول واحد .
- أجل كلها لها مدلول واحد يشير إلى الوجود البدئي للقائم بالخلق.
- البدئي وليس البدائي أي بمعنى البداية التي جاء منها الخلق .
- أجل .
- ماذا لو أردت تعريف الهيولى البدئية ، ماذا تقول ؟
- الهيولى البدئية ، هي الطاقة العقلانية أو العقل الطاقوي في حالته الكامنة التي جاء منها الوجود الكوني.
- ألم يكن لها حجم ؟
- هي في الغالب كطاقة غير طقمادية خارج الحجم والكتلة، وإذا كان ثمة حجم وكتلة لها، فلا تعرف إلا من قبلها نفسها . ثمة من يرى من علماء الفيزياء أنها دون كتلة. وعلوم الفيزياء لا تشير إلى ما قبل الانفجار بل إلى ما بعد حدوثه، لكنها تشير قبل حدوثه إلى كثافة شديدة ودرجات حرارة تفوق أي تصور مهما كان، إلا تصور موجدها. ولك أن تتصوري مدى ارتفاع هذه الحرارة الطاقوية حين تعرفين أن الانفجار الكوني ما يزال قائما بتمدد الكون حتى يومنا .
- ألن يتوقف ؟
- حسب تصوري لن يتوقف إلا بانتهاء الغاية التي أرادها الخالق والتي ليس بعدها غاية على الاطلاق . يمكن القول أنها بلوغ الكمال المطلق ولو نسبيا .
- ثمة من يرون أن الوجود قد يعود إلى الانكماش !
- أنا لا أتفق مع هذا الرأي ، فمن تعب مليارات الأعوام ليوجد وجود له ، سيعمل على ابقاء هذا الوجود ما في استطاعته ذلك .
- دعنا نعود إلى البدء .. متى حدث الإنبعاث أو (الانفجارالكبير) من حيث علاقته بالخالق؟
- حدث بعد اكتمال التصور البدئي في عقل الخالق لعملية الايجاد والخلق. ويمكن القول أن تفكير وتصور الخالق للوجود قد بلغ ذروته ولو بالشكل الأولي للكون ، فكان لا بد من الانفجار، الذي هو انبثاق وتوهج لطاقة عقل الخالق نفسه غير المحدودة كما أسلفنا، وبداية عملية تجسد الخالق لوجوده الظاهري وتحقيق ذاته الأولية، بظهوره من الكمون إلى الوجود المرئي غير المحدود.
- هل نفهم من ذلك أن الانفجار الكبير كان انفجارا لعقل الخالق نفسه .
- نعم ! لكن ليس بالمعنى التدميري الذي توحي به مفردة انفجار، إنه انبثاق وانبعاث لعملية الخلق كي تظهر إلى العلن .
- وما هو التصور البدئي ؟
- التصور البدئي هو تصور الكون بنجومه وكواكبه ومجراته.
- وماذا عن ما بعد النجوم والكواكب كخلق حياة مثلا ؟
- كان ضمن التصور لكنه لم يكن مجلوا في خيال الخالق، كما هي الحال مع النجوم والكواكب ، التي كانت مجلوة بقدر ما .
- هل تقصد أن تصور حياة كان غير متضح في الخيال البدئي الكامن .
- نعم، لذلك تأخر بدء الحياة ثلاثة عشر مليار عام عن خلق الكواكب والنجوم والمجرات !
- ألا تعني هذه الأزمان المديدة جدا، أن عملية الخلق كانت بطيئة جداً ؟
- وربما كانت سريعة جدا إذا ما قورنت بحجم الكون غير المحدود .
- وهل هذا يعني أن العقل / الخالق ، خلق الوجود على مراحل مديدة؟
- أكيد .
- وأنه كان يطور عقله وتصوره في كل مرحلة ؟
- أجل كان التصور وخاصة في المراحل اللاحقة غير مكتمل ، مجرد تصور عام . فإذا كان الخالق يفكر في خلق كائن راق مثلا، لم يكن تصور شكل هذا الكائن مكتملا في خياله . لذلك نرى كائنات حية كثيرة خلقت قبل خلق الانسان، انقرض معظمها. وثمة مخلوقات في زمننا تنقرض وتنشأ مخلوقات لا ضرورة لها ، أو مخلوقات ضارة.
- وماذا تقصد بقولك : وبداية تجسد الخالق لوجوده الظاهري وتحقيق ذاته الأولية؟
- الذات الأولية هي الشكل الأولي للوجود ما بعد الانبعاث . إنها رؤية الله (إن شئت ) لنفسه، وتحقيق لذاته .
- وماذا عن الذات الكلية الكونية.
- هي آخر ما بلغه العقل الخالق من تجل وتجسد في الوجود.
- تحدثت عن طاقة خالقة إضافة إلى عقل كوني خالق ، فهل هما كيان واحد يسري في الوجود أم أنهما كيانان؟
- المسألة تشبه وحدة الطاقة/المادة، فالعقل الكوني الخالق الساري في الوجود والمجسد فيه، يحتوي على طاقة لديها القدرة على الخلق ، وهذه القدرة على الخلق لا تتم دون توظيف العقل الكوني الساري فيها. فهما في هذه الحال كيان واحد . لذلك قلت " " الكائنات تخلق نفسها بنفسها بفعل الطاقة الناجمة عن العناصر المادية التي توفرت لها وتفاعلها مع طاقة الخلق العقلانية الكلية السارية في الكون" فطاقة الخلق هنا هي العقل الكوني الخالق"
- هل هذه الفلسفة هي رؤيتك لمذهب وحدة الوجود الذي أسسه الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي؟
- أجل . فلسفتي تستند إلى مذهب وحدة الوجود وإن اختلفت معها في مسائل كثيرة جدا وأساسية. فالوجود واحد وليس وجودين : خالق ومخلوق .أو خالق منزه وتجليه في الوجود كما هو عند ابن عربي. إنه وجود للخالق وحده ، فنحن جئنا منه ونعود إليه ، وهذه الفكرة موجودة في الفكر الاسلامي بقدر ما " إنا لله وإنا إليه راجعون " المؤسف أن الناس لا يتذكرونها إلا عند موت أحدهم، ويفهمونها بمنطق مثالي مختلف ، كالعودة إلى جنة وجحيم .. ليس هناك وجود خارج الذات الخالقة أوالإلهية إن شئت . ورغم أن فلسفتي تنطلق من مذهب وحدة الوجود إلا أنها ترى الخالق والخلق والغاية من الخلق بمنظور مختلف تماما ، لا يعير كثيراهتمام لما جاءت به الشرائع كلها وحتى الفلسفات وأفكارالمتصوفة أيضا، ولا يتفق اطلاقا مع معظمها .
- أحب أن أستفسر عن فهم ابن عربي، كيف نميز بين تنزيه الذات الإلهية عن الوجود والتجلي فيه في الوقت نفسه .
- المسألة معقدة حسب فهم ابن عربي وكذلك حسب فهمي . فحسب ابن عربي، التجلي الإلهي ليس الله، بل انعكاس ذاته في الوجود ، أي أن الوجود هو مرآة للذات الإلهية يرى نفسه فيها ، وليس الله نفسه ، وما نراه نحن هو الانعكاس في المرآه وليس الذات الإلهية، التي هي الوجود الحقيقي وليس ما ينعكس في المرآه . وفي هذه الحال يكون وجودنا افتراضيا ، أو وهماً!
- إنها فعلا مسألة معقدة جداً، لكن كيف ولماذا تكون المسألة معقدة عندك أيضا؟
- كنت أفضل أن يبقى طرق هذه المسائل إلى أن يتسنى لنا الحديث عن فلسفة الخلق. في فلسفتي: وجودنا - دون وجود الكون - هو تصور مبدئي لعملية الخلق الحيوي، أراد الخالق لنا أن نراه حقيقة ، لنقوم بدورنا في عملية الخلق . أي أننا مسودة لوجود فيزيائي متخيل، وأن عملية الخلق الحقيقية لم تبدأ بعد ! فكل ما يجري في الوجود الحيوي هو مسودات وتجارب متلاحقة ومتطورة على مراحل زمنية مديدة للوصول إلى الأفضل والأجمل والأرقى ، حينها فقط ستتم عملية الخلق المنشودة التي يريدها الخالق .
- يا إلهي! أدخلتنا في كم هائل من الأسئلة والمتاهات .. وأشعر أن المشاهدين يتمنون الآن أن أستبق الأسئلة التمهيدية لعملية الخلق ، لأسألك عما هو الأجمل والأرقى ، فما هو ؟
- إنه أرقى ما يريد الخالق أن يرى نفسه فيه ، لقد تطرقنا إلى ذلك ، حين تحدثنا عن غايات الخالق من الخلق ، ليس من حيث الشكل بل من حيث المضمون أيضا ، الذي يرى الخالق فيه حضارة انسانية تتحقق فيها قيم الخير والعدل والمحبة والجمال . ودون ذلك سيكون ( مجازا) فشلا للخالق والخلق أيضا !
- ولماذا مجازا؟
- مجازا لأننا لسنا أمام خالق ومخلوق ، بل خالق يخلق نفسه بنفسه لنفسه!
- هل يمكن القول أننا ما نزال في مرحلة الفشل ، أو في المسودة الأقرب إلى البدائية !
- أجل نحن كذلك .
- وهذا الفشل هو فشل للخالق نفسه ؟
- مجازا نعم ! لكن لو نظرنا لعملية الخلق من زاوية مختلفة، يمكننا القول أن وضع العالم اليوم هو ما توصلت إليه عملية الخلق المتطورة حتى اليوم ، لأن الخالق ليس قادرا على عمل كل شيء بسرعة مطلقة، وعلى تحقيق كل ما يريد أن يصل إليه . ومن زواية أخرى ، أن الانسان الذي تجلى فيه الخالق ليساعده في تطوير وتسريع عملية الخلق لتبلغ المدى الأقرب إلى الكمال ، ضل طريقه ولم يعرف الغاية من وجوده ، ولم يسع إلى تحقيق قيم انسانية خيرانية جمالية حضارية، إلا بحدود ضيقة جدا جدا !
- ولهذا قلت حضرتك أن عملية الخلق ما تزال تحبو في بداياتها.
- نعم صحيح . تصوري مثلا أنه رغم مرور أربعة عشر مليار عام على الانفجار الكوني ، لم يتم خلق الانسان الحديث إلا منذ قرابة مائتي ألف عام . وبعد أربعة مليارات ونصف من خلق كوكب الأرض.
- ماذا سنقول في هذه الحال عن معتقدات تتحدث عن عملية خلق تمت في ستة أيام أو في زمن غير محدد ، وغير ذلك كثير مما يرد في معتقدات وفلسفات وديانات وأساطير بشرية ، وأن عملية الخلق انتهت منذ زمن !؟
- لماذا هذا الاصرار على الزج بالفكر البشري بمختلف مناهجه ورؤاه في حوارنا ؟
- لمجرد الإحاطة بعملية الخلق حسب مصادر ومناهج ورؤى مختلفة !
- المسألة تتعلق باجتهادات العقل البشري حسب ثقافة زمنه وحسب معرفة العقل بثقافة ذلك العصر .. لا نتوقع مثلا في زمننا الحالي أن يخرج علينا انسان يدعي النبوّة ، أو يدعي الألوهة، لأن أحداً لن يصدقه. لكن هذه المعتقدات ساهمت إلى حد كبير في اغناء ثقافتنا عن الماضي .. من هنا ينبغي احترامها .. أنا شخصيا أحتفظ في مكتبتي بكتب دينية مختلفة، منها القرآن والكتاب المقدس ، وكذلك نصوص فلسفية وعلمية .. وأعلق مجسما للمسيح مصلوبا على جدار صالون بيتي ، كذلك أضع تمثالا لبوذا .. أحترم هذه المعتقدات والفلسفات لأنها أنارت لنا الطريق بشكل أو آخر واجتهدت وقدمت لنا ما استطاعت حسب ثقافة عصرها ..
ثقافة العصر التي أنتهجها والتي يمكن تقبلها هي التي ترى الألوهة ( إن شئت ) في كل شيء في الوجود . في الفضاء والكواكب والنجوم والبحار والأنهار والجبال والسهول والانسان والحيوان والنبات والجماد والماء والهواء والتراب .. إلى آخر كائنات ومكونات الوجود .. مأساتنا أن البشرية كلها لم تدرك ذلك بعد أو لم تقتنع به .. وأن الانسان لن يتقدم ما لم يدرك أن الألوهة تكمن فيه ، وتسري بطاقتها في جسده ، وأنه ينبغي عليه أن يكون على قدر الألوهة فيه ، وأنه ينبغي عليه العمل لنهضة وبناء الحضارة الانسانية ، بذلك يحقق وجوده الألوهي كمشارك في عملية الخلق . الخالق لن يبني مدنا و ينصب جسورا ويقيم سدودا ولن يؤسس لحضارة راقية ما لم نبادر نحن إلى ذلك كجزء من منظومته الإلهية الخالقة ، التي جئنا منها لتتجسد بنا ونتجسد بها .
- للتوضيح . نفهم من ذلك أن مادة جسد الانسان والطاقة السارية فيه والناجمة عنه هي جزء من مادة وطاقة الخالق نفسه . سنترك الإجابة للحلقة القادمة .. شكرا أستاذ محمود .
*******
مرت بضعة أيام لم يتلق فيها محمود أي تهديدات أو محاولات ارهابية . شكر إلهه على الأمر، معتقدا أن مهدديه ربما اتفقوا على اعطائه مهلة للتوبة ، أو أنهم شعروا باستنفار القوى الأمنية للبحث عنهم ، فاختبأوا إلى أن يتوقف الأمن عن البحث. وبدت لمى مرتاحة بعض الشيء لتوقف التهديدات .. وحان موعد تسجيل الحلقة الثانية من الحوار لقناة أفق المعرفة . اتفق مع أسيل على اللقاء.
بدت أسيل مشرقة ومتوهجة الوجه وكأن سعادة ما تغمرها. رحبت بمحمود أشد ترحيب وعانقته مقبّلة. شرعا في اجراء الحوار على الفور. هتفت أسيل :
- استاذ محمود ، كان محور حديثنا في الحلقة الماضية هو الوجود ومن أين جاء، بغض النظر عن التفرعات الناتجة عن إجاباتكم التي سنتطرق إليها فيما بعد، ونظرأ لأن هذه المسألة هي ما يقوم ويرتكز عليها حوارنا كله ، ولصعوبة فهمها على المشاهد ، فإنني آمل منك أن تعيد قدر الإمكان تلخيصها للمشاهدين ، حتى يحصلوا على فهم مقبول لها، ويتمكنوا من متابعتنا بيسر في اللقاءات القادمة.
- حسناً .. سأحاول :
- الوجود جاء من عقل طاقوي عظيم غير طقمادي ، أي طاقة لا تنطبق عليها شروط ومواصفات الطاقة والمادة ، يتصف بالوعي والحكمة ! اعتبره العقل البشري فيما بعد ، أي بعد اختراع اللغات، من زمن قريب جدا مقارنة بعمر الوجود، إلهاً، أو ربّاً، أو خالقا، أو محركاً أول، وأطلق عليه أسماء أخرى كثيرة حسب الأمم : الأب ، الأم الكونية ، عشتار، رع ، إيل ، مردوخ، براهمان . العلة الاولى . قوة الحياة . المطلق الأزلي . الحق . فاهيغورو.
- عفوا للمقاطعة . ما هو فاهيغورو هذا ، لم أسمع به من قبل ؟
- هذا أحد أسماء الإله لدى الطائفة السيخية في الهند! وثمة أسماء أخرى كثيرة أطلقتها الأمم عبر العصور على القائم بالخلق أو القائمين به من آلهة مختلفة. يمكن اطلاق "الهيولى البدئية" على الحال الاولى له حسب فهمي . كان كامنا لمليارات السنين في اللا أين، أو ما يمكن اعتباره عدما، مع أنه ليس عدما. كان يفكر بدأب في أن يوجد وجودا لوجوده، وحين توصل إلى تصورما ، شرع في إظهاره من هيولى التصور إلى العلن، وما الانفجارالكبير الكوني إن صحت نظريته ، إلا بدء انبثاق وانبعاث وتوهج هذا العقل، والشروع في رسم الخريطة الكونية الأولية، وإيجاد الزمان والمكان، وبث القوى الكونية الأربع الناظمة لوجوده : القوة النووية الصغرى، والقوة النووية الكبرى، و قوة الجاذبية، والقوة الكهرومغناطيسية ، إضافة إلى طاقتة الخالقة ، وطاقة عقله الكونية . لتظل قواه هذه بكليتها عناصر الخلق ومكوناته الأساسية إلى الأبد ، التي دونها لا يمكن أن يكون هناك كون وخلق ووجود بالمطلق .. من هذا العقل العظيم ، وهائل الوجود، ومن كل ما انبثق عنه، جاء كل شيء في الوجود. وكل وجود في الوجود، من أصغر جسيم دون ذري، إلى أكبر مجرة، لا ينفصل عن وجوده ، بل جزء أساسي من وجوده !! والوعي والحكمة اللذان يتصف بهما مبثوثان في الخلق، من أصغرجسيم إلى أكبر مجرة ، وطاقته الخالقة تسري في الكون والكائنات كذلك، من أصغر جسيم إلى أكبر مجرة . فليس في الوجود إلا هو، وهو وحده ، وما كل وجود إلا منه وله ، وما كل ظهورأو تمظهرلكائن ما إلا له ، دون أن يكون الكائن هو بكليته ، بل جزء يسيرجدا جدا لا يكاد يذكر من وجوده الكلي. الوجود كله في داخله ولا شيء على الاطلاق خارجه!
- حتى الفضاء ؟
- لم يكن هناك فضاء قبل تجليه ، فالفضاء جزء من وجوده.
- والسماوات ؟
- أي سماوات هل تحدثت أنا عن سماوات ؟ لماذا تريدين أن تدخليني في مفاهيم معتقدات أخرى ، هناك فضاء غير محدود يتمدد باستمرار وليس سماوات. هل علي أن أعيدك إلى موضوعنا الذي هو فلسفتي ، في كل مرة تخرجين فيها عنه ؟على أية حال قد أجيبك لا حقا عن رأيي في المعتقدات والفلسفات والأديان كلها .
- أليس رأيك في المعتقدات الأخرى هو جزء من فلسفتك ؟
- صحيح . لكن ما يهمنا الآن هو فلسفتي في الوجود ،وليس رأيي في الفلسفات الأخرى.
- أليس في مقدورك أن تقول رأيك فيها باختصار من الآن ؟
- إنها اجتهادات العقل البشري على مرالأزمان لمعرفة الوجود والغاية منه . هذا جزء من الاجابة وليس الإجابة كلها . وسنترك التفاصيل إلى حينها .
- التصور الذي طرحته للوجود تحتاج كل فقرة منه إلى عشرات الاسئلة .
- وأنا هنا لأجيب . فهذه فلسفتي ويهمني أن أجيب عن كل تساؤل حولها .
- هل يمكن اعتبار الوجود عقلا حسب ما قدمته حضرتك ؟
- هو نتاج عقل هائل كما أسلفت ، لكن مجازا يمكن اعتباره كذلك! لي قول حول الانسان مثلا أرى أنه عقل ، ودون عقل يغدو أجوف كالطبل ولا معنى لوجوده! والوجود دون عقل لا معنى لوجوده ، فما ينظم وجوده ويطوره هو عقل كوني كلّي.
- وهل يمكن اعتبار هذا العقل إلهاً؟
- ممكن . وممكن أن لا تفيه المفردة حقه ، كأن يكون أكبر من إله ، أو أن يكون الطبيعة كونه مجسدا فيها ، أو أن يكون العقل المجرد . أنا أفضل مفردة خالق ، رغم أنها مفردة كغيرها من المفردات اللغوية التي أوجدها العقل البشري بعد اختراع اللغات من زمن قريب جدا من عمر الوجود البالغ أربعة عشر مليارعام . وقبل ذلك لا يعرف أحد ماذا كان الخالق يطلق على نفسه ! هذا إذا كان يرى أن وجوده في حاجة إلى اطلاق اسم أو صفة عليه . مفردات مثل الله أو الرب أو الطبيعة قد تشير إلى فهم ما بعينه ، لذلك أفضل مفردة خالق لشموليتها. يمكن التطرق لهذه المسائل حين نشرع في الحديث حول فلسفة الألوهة والخلق . فكل ما يجري ليس خارج الذات العقلانية الخالقة مهما كانت !
- ألسنا الآن في التحدث حولها ؟
- نحن في جانب منها يتعلق بمفهوم الخالق .
- لنعد إلى وجود العقل الذي كان في (هيولى بدئية) حسب تعبيرك قبل الانبثاق أوالتوهج أو التجلي أو الانبعاث أو الانفجار، من أوجد هذا العقل ؟
- هو موجود بذاته ولذاته منذ الأزل دون موجد له ، وما زال يوجد ذاته بذاته لذاته دون موجد له .
- هل يمكننا في هذه الحال أن نقول : في البدء كان العقل بدلا من القول : في البدء كان الكلمة ، حسب الكتاب المقدس!
- ها أنت تعودين لتزجي بالمعتقدات في حوارنا، لكتّاب الكتاب المقدس ولغيرهم الحق في رؤية الوجود بمنظورعقل زمنهم، كما أرى أنا بمنظورعقل زمني، نعم في البدء كان العقل !
- ومنذ متى كان هذا البدء؟
- بدء غير محدود على الاطلاق ؟
- لماذا؟
- لأنه ليس في استطاعتنا تحديد زمن الوجود البدئي للخالق/ العقل، لعدم وجود زمكان حينذاك ، فوجوده لم يكن مرتبطا بزمن محدد ، بل بزمن مطلق إذا جاز لنا أن نوظف مفردة زمن . فالزمن بالنسبة لنا بدأ بالانفجارالكبير، هذا إذا صحت نظرية الانفجار . فنحن نتعامل معها كنظرية لم يجر دحضها علميا أو منطقيا حتى يومنا ، بينما وجود خالق أو قائم بالخلق كان قائما قبل ذلك ، مع أن تعبير (قبل) أيضا هو تعبير خطأ ، لارتباطه بالانفجارالكوني ، فلا أحد يعرف ما هو ( القبل ) قبل الانفجارالكوني لعدم وجود قبل وحتى بعد أيضا ، طالما أن الانفجار لم يحدث.
- هل في الامكان القول أن هذا الوجود الكامن حسب تعبيرك أيضا ، كان عقلاً محضاً ؟
- أجل إنه كذلك ؟ عقل محض غير معزول عن ماهيته ( اللاحقة ) التي لا يتم تمظهر وجوده إلا بوجودها ؟
- تقصد بماهيته جوهره ؟
- أجل ! مع أنه يمكننا أن نميز بينهما مجازاً إذا ما أردنا أن نعرّف جوهر العقل بالحكمة والوعي بينما ماهيته بالطقمادية المجسد فيها ، حسب تعبيري، التي نجمت فيما بعد عن هذا العقل !
- الطقمادية ماهية عقل الخالق ؟
- نعم !
- هل لك أن توضح لي مفهوم الطقمادية ، خاصة وأن مفعوم المادة ما يزال ملتبسا عند الناس؟
- صحيح. حسب معادلة آينشتاين زالت الفوارق بين المادة والطاقة، كما هي الحال مع الزمكان الذي هو دمج لمفهومي الزمان والمكان . ولهذا ينبغي أن ننظر إليهما ككيان واحد وليس ككيانين ، ولا يمكن عزل إحداهما عن الأخرى إلا مجازا .. فليس هناك مادة إلا وينجم عنها طاقة وليس هناك طاقة إلا وينجم عنها مادة ، فكل ما نلمسه ونراه ليس في حقيقته إلا طاقة متحولة حتى لو بدا لنا جمادا، لا حياة فيه . ولو أردنا أن نطبق هذا النص النظري على العقل كطاقة ، أي كقدرة غير محدودة بدقّة، لقلنا: ليس هناك عقل إلا وينجم عنه خلق مادي ما، وليس هناك خلق مادي - خاصة إذا ما كان حياً- إلا وينجم عنه عقل ما . ويمكن القول إنّ المادة تنطوي على العقل بإنتاجها له ، وأن العقل ينطوي على المادة بإدراكه لها . ويمكن أن ينطبق الكلام على الوعي كنتاج للعقل.
- يقال أن الحيوانات دون عقل !
- غير صحيح على الاطلاق، ليس هناك كائن حي دون عقل يعي به، حتى أدق الكائنات وأصغرها حجما. وليس بالضرورة أن يكون وعيها أو عقلها ناتجاً عن دماغ ، فالعقل الخالق الذي أنتج ما لا يحصى من أشكال الوجود والحيوات والأدمغة ليس نتاج دماغ !
- بما في ذلك النباتات ؟- أجل !
- ماذا لو طبقنا هذا النص النظري على الانسان ؟
- ليس هناك انسان إلا وينجم عنه عقل ، وليس هناك عقل انساني إلا وينجم عنه ابداع وعمل مادي! وإذا ما أردنا أن نطبق النص على الدماغ لقلنا ، ليس هناك دماغ إلا وينجم عنه عقل ، وليس هناك عقل إلا وينجم عنه فعل كفكرأو مادة ما. وإذا كان العقل ينجم عن أعضاء أخرى مختلفة في جسم الانسان ، كالقلب والأعصاب، وهذا احتمال ضعيف رفضه أبقراط والعديد من الفلاسفة. فيمكن القول أن العقل ينجم عنها .. وهذا ما نعنيه بتغير الحال بين المادة والطاقة رغم كونهما كيانا واحدا . وإن أعدنا تأكيد المقولة النظرية على الدماغ مثلا، لقلنا، الدماغ ينطوي على العقل بإنتاجه له ، والعقل ينطوي على الدماغ بإدراكه له .
- هل في هذه الحال يمكننا أن نستنتج أن الانسان عقل ؟
- أكيد كما أسلفت .. الانسان عقل والوجود عقل والخالق عقل ودون العقل لا معنى لأي وجود مهما كان . العقل/ الخالق، أوالعقل الطاقوي، أو طاقة الخلق، أو القائم بالخلق، أو الخالق، أو الله مجازا : يسري في الكون من أعلاه إلى أدناه ، من أكبر مجرة في الكون إلى أصغر خلية في أجسادنا ، وإن شئت في أصغر الكترون أو ما شابه !
- يا إلهي عقل لدى الاكترون ؟
- يا عزيزتي هذا الإلكترون حير أكبر علماء الفيزياء ، فلم يستطع أحد معرفة موقعه وزمنه وعزمه وطاقته ، فهو أشبه بساحر شيطاني كلما تم توقع وجوده في مكان ما قفز في اللحظة ذاتها إلى مكان آخر ليبدو وكأنه موجود في كل مكان وغير موجود في الوقت نفسه.
- وماذا عن الوعي ؟
- الوعي هو ما نكتسبه بالعقل عبرالحواس والعمل والتجربة والتأمل والبحث ، ليغدو جزءا من تكوين العقل نفسه ، فدون عقل لا يمكننا أن نكتسب معرفة مثلا ، فالمعرفة ضرورة لتنمية الوعي . وهما ( العقل / الوعي) متلازمان كالمادة والطاقة . وإذا كان ثمة مشكلة في العقل البشري، فهي تكمن في وعيه الذي يتوقف لمئات القرون وربما آلاف الأعوام على مفاهيم محددة ولا يسعى إلى تجاوزها ، لاعتقاده أنها حقائق مطلقة .
- وماذا عن مفهوم حضرتك هل تعتبره حقائق مطلقة ؟
- أبدا .. هو اجتهاد فكري كغيره من اجتهادات العقل البشري عبر التاريخ لمعرفة الوجود والغاية منه . الحقيقة المطلقة لم يعرفها العقل البشري بعد ، وربما لا يعرفها حتى الخالق نفسه ، وإن كان هو الأقدرعلى معرفتها ، هذا إذا كان هناك حقيقة مطلقة ، ليس بعدها حقيقة . فثمة احتمال كبير أن مفهوم الحقيقة المطلقة لم يوجد بعد . فالحقيقة المطلقة في ما يتعلق بمفهومي ، يفترض أن تكون معرفة الخالق بمنطق علمي لا يقبل الجدل على الاطلاق، والغاية من الخلق، وانتهاء الغاية التي أرادها الخالق من الخلق، وهي بناء الحضارة الانسانية وتحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال .. وفيما يتعلق باجتهادي وتميزه عن الاجتهادات الأخرى المثالية وغير المثالية كونه يستند إلى العلم والمنطق بقدر مقبول ، استنادا إلى ثقافة محدودة أيضا حصلت عليها بجهدي ومثابرتي. واجتهادي لا يخلو من أفكار قد تكون مثالية في نظرآخرين وحتى في نظري، لأنني لا أتصور وجود بدون خالق، حتى لو كان الخالق هو الطبيعة نفسها دون وجود طاقة خالقة فيها .
- اذن أنت تعتبر مفهومك اجتهادا وليس حقائق مطلقة . وآمل من المشاهدين أن يتنبهوا للأمر ، فالأستاذ محمود يجتهد قدرالإمكان استنادا إلى المنطق وما توصلت إليه العلوم ، ولا يعتبر اجتهاده حقائق مطلقة.
- صحيح . أشكرك ، فأنا لست مشعوذا !
- لكن ما نسبة التأمل في هذا الفكر إذا جاز لنا أن نعطيه نسبة .
- التأمل يغتني بالثقافة ومختلف صنوف المعرفة ، ودون ذلك يكون التأمل والتخيل فقيرين في محتواهما.. لذلك يصعب تحديد نسبة لتأمل مجرد معزول عن ثقافة ومعرفة . فالتأمل العقلاني يستند إليهما. لكن يمكن القول إن تأملاتي الشخصية تتعلق بما قبل الانفجار الكبير، كون العلم وقوانين الفيزياء لم تعرفا شيئا قبله ، فالقول أن الوجود جاء من عقل طاقوي، هومن بنات أفكاري ، و كذلك معظم ما يتعلق بوجود خالق وعملية خلق وغاية من الخلق وموت وما بعده ، كل هذا من تأملاتي ويشكل نسبة كبيرة من فكري ، وإن أردنا أن نعطيه نسبة يمكن أن تزيد على سبعين في المائة .
- لكن إلى أي حد تعتقد أن فكرك هذا يمكن أن يتقبله الناس؟
- الناس العقلانيون فقط الذين يؤمنون بدور العقل في الوجود وفي الحياة ، هم من يتقبلون هذا الفكر، أما النائمون على أساطير المعتقدات ، أو حتى الذين يغلقون عقولهم على أفكار مناقضة ، لن يتقبلوا فكري.
- وظفت عبارات مختلفة في الوجود البدئي ، كالعقل الطاقوي أو الطاقة العقلانية ، أو العقل ، أو الهيولى البدئية ، فهل ثمة اختلاف في هذه التعابير أم أن لها كلها مدلول واحد .
- أجل كلها لها مدلول واحد يشير إلى الوجود البدئي للقائم بالخلق.
- البدئي وليس البدائي أي بمعنى البداية التي جاء منها الخلق .
- أجل .
- ماذا لو أردت تعريف الهيولى البدئية ، ماذا تقول ؟
- الهيولى البدئية ، هي الطاقة العقلانية أو العقل الطاقوي في حالته الكامنة التي جاء منها الوجود الكوني.
- ألم يكن لها حجم ؟
- هي في الغالب كطاقة غير طقمادية خارج الحجم والكتلة، وإذا كان ثمة حجم وكتلة لها، فلا تعرف إلا من قبلها نفسها . ثمة من يرى من علماء الفيزياء أنها دون كتلة. وعلوم الفيزياء لا تشير إلى ما قبل الانفجار بل إلى ما بعد حدوثه، لكنها تشير قبل حدوثه إلى كثافة شديدة ودرجات حرارة تفوق أي تصور مهما كان، إلا تصور موجدها. ولك أن تتصوري مدى ارتفاع هذه الحرارة الطاقوية حين تعرفين أن الانفجار الكوني ما يزال قائما بتمدد الكون حتى يومنا .
- ألن يتوقف ؟
- حسب تصوري لن يتوقف إلا بانتهاء الغاية التي أرادها الخالق والتي ليس بعدها غاية على الاطلاق . يمكن القول أنها بلوغ الكمال المطلق ولو نسبيا .
- ثمة من يرون أن الوجود قد يعود إلى الانكماش !
- أنا لا أتفق مع هذا الرأي ، فمن تعب مليارات الأعوام ليوجد وجود له ، سيعمل على ابقاء هذا الوجود ما في استطاعته ذلك .
- دعنا نعود إلى البدء .. متى حدث الإنبعاث أو (الانفجارالكبير) من حيث علاقته بالخالق؟
- حدث بعد اكتمال التصور البدئي في عقل الخالق لعملية الايجاد والخلق. ويمكن القول أن تفكير وتصور الخالق للوجود قد بلغ ذروته ولو بالشكل الأولي للكون ، فكان لا بد من الانفجار، الذي هو انبثاق وتوهج لطاقة عقل الخالق نفسه غير المحدودة كما أسلفنا، وبداية عملية تجسد الخالق لوجوده الظاهري وتحقيق ذاته الأولية، بظهوره من الكمون إلى الوجود المرئي غير المحدود.
- هل نفهم من ذلك أن الانفجار الكبير كان انفجارا لعقل الخالق نفسه .
- نعم ! لكن ليس بالمعنى التدميري الذي توحي به مفردة انفجار، إنه انبثاق وانبعاث لعملية الخلق كي تظهر إلى العلن .
- وما هو التصور البدئي ؟
- التصور البدئي هو تصور الكون بنجومه وكواكبه ومجراته.
- وماذا عن ما بعد النجوم والكواكب كخلق حياة مثلا ؟
- كان ضمن التصور لكنه لم يكن مجلوا في خيال الخالق، كما هي الحال مع النجوم والكواكب ، التي كانت مجلوة بقدر ما .
- هل تقصد أن تصور حياة كان غير متضح في الخيال البدئي الكامن .
- نعم، لذلك تأخر بدء الحياة ثلاثة عشر مليار عام عن خلق الكواكب والنجوم والمجرات !
- ألا تعني هذه الأزمان المديدة جدا، أن عملية الخلق كانت بطيئة جداً ؟
- وربما كانت سريعة جدا إذا ما قورنت بحجم الكون غير المحدود .
- وهل هذا يعني أن العقل / الخالق ، خلق الوجود على مراحل مديدة؟
- أكيد .
- وأنه كان يطور عقله وتصوره في كل مرحلة ؟
- أجل كان التصور وخاصة في المراحل اللاحقة غير مكتمل ، مجرد تصور عام . فإذا كان الخالق يفكر في خلق كائن راق مثلا، لم يكن تصور شكل هذا الكائن مكتملا في خياله . لذلك نرى كائنات حية كثيرة خلقت قبل خلق الانسان، انقرض معظمها. وثمة مخلوقات في زمننا تنقرض وتنشأ مخلوقات لا ضرورة لها ، أو مخلوقات ضارة.
- وماذا تقصد بقولك : وبداية تجسد الخالق لوجوده الظاهري وتحقيق ذاته الأولية؟
- الذات الأولية هي الشكل الأولي للوجود ما بعد الانبعاث . إنها رؤية الله (إن شئت ) لنفسه، وتحقيق لذاته .
- وماذا عن الذات الكلية الكونية.
- هي آخر ما بلغه العقل الخالق من تجل وتجسد في الوجود.
- تحدثت عن طاقة خالقة إضافة إلى عقل كوني خالق ، فهل هما كيان واحد يسري في الوجود أم أنهما كيانان؟
- المسألة تشبه وحدة الطاقة/المادة، فالعقل الكوني الخالق الساري في الوجود والمجسد فيه، يحتوي على طاقة لديها القدرة على الخلق ، وهذه القدرة على الخلق لا تتم دون توظيف العقل الكوني الساري فيها. فهما في هذه الحال كيان واحد . لذلك قلت " " الكائنات تخلق نفسها بنفسها بفعل الطاقة الناجمة عن العناصر المادية التي توفرت لها وتفاعلها مع طاقة الخلق العقلانية الكلية السارية في الكون" فطاقة الخلق هنا هي العقل الكوني الخالق"
- هل هذه الفلسفة هي رؤيتك لمذهب وحدة الوجود الذي أسسه الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي؟
- أجل . فلسفتي تستند إلى مذهب وحدة الوجود وإن اختلفت معها في مسائل كثيرة جدا وأساسية. فالوجود واحد وليس وجودين : خالق ومخلوق .أو خالق منزه وتجليه في الوجود كما هو عند ابن عربي. إنه وجود للخالق وحده ، فنحن جئنا منه ونعود إليه ، وهذه الفكرة موجودة في الفكر الاسلامي بقدر ما " إنا لله وإنا إليه راجعون " المؤسف أن الناس لا يتذكرونها إلا عند موت أحدهم، ويفهمونها بمنطق مثالي مختلف ، كالعودة إلى جنة وجحيم .. ليس هناك وجود خارج الذات الخالقة أوالإلهية إن شئت . ورغم أن فلسفتي تنطلق من مذهب وحدة الوجود إلا أنها ترى الخالق والخلق والغاية من الخلق بمنظور مختلف تماما ، لا يعير كثيراهتمام لما جاءت به الشرائع كلها وحتى الفلسفات وأفكارالمتصوفة أيضا، ولا يتفق اطلاقا مع معظمها .
- أحب أن أستفسر عن فهم ابن عربي، كيف نميز بين تنزيه الذات الإلهية عن الوجود والتجلي فيه في الوقت نفسه .
- المسألة معقدة حسب فهم ابن عربي وكذلك حسب فهمي . فحسب ابن عربي، التجلي الإلهي ليس الله، بل انعكاس ذاته في الوجود ، أي أن الوجود هو مرآة للذات الإلهية يرى نفسه فيها ، وليس الله نفسه ، وما نراه نحن هو الانعكاس في المرآه وليس الذات الإلهية، التي هي الوجود الحقيقي وليس ما ينعكس في المرآه . وفي هذه الحال يكون وجودنا افتراضيا ، أو وهماً!
- إنها فعلا مسألة معقدة جداً، لكن كيف ولماذا تكون المسألة معقدة عندك أيضا؟
- كنت أفضل أن يبقى طرق هذه المسائل إلى أن يتسنى لنا الحديث عن فلسفة الخلق. في فلسفتي: وجودنا - دون وجود الكون - هو تصور مبدئي لعملية الخلق الحيوي، أراد الخالق لنا أن نراه حقيقة ، لنقوم بدورنا في عملية الخلق . أي أننا مسودة لوجود فيزيائي متخيل، وأن عملية الخلق الحقيقية لم تبدأ بعد ! فكل ما يجري في الوجود الحيوي هو مسودات وتجارب متلاحقة ومتطورة على مراحل زمنية مديدة للوصول إلى الأفضل والأجمل والأرقى ، حينها فقط ستتم عملية الخلق المنشودة التي يريدها الخالق .
- يا إلهي! أدخلتنا في كم هائل من الأسئلة والمتاهات .. وأشعر أن المشاهدين يتمنون الآن أن أستبق الأسئلة التمهيدية لعملية الخلق ، لأسألك عما هو الأجمل والأرقى ، فما هو ؟
- إنه أرقى ما يريد الخالق أن يرى نفسه فيه ، لقد تطرقنا إلى ذلك ، حين تحدثنا عن غايات الخالق من الخلق ، ليس من حيث الشكل بل من حيث المضمون أيضا ، الذي يرى الخالق فيه حضارة انسانية تتحقق فيها قيم الخير والعدل والمحبة والجمال . ودون ذلك سيكون ( مجازا) فشلا للخالق والخلق أيضا !
- ولماذا مجازا؟
- مجازا لأننا لسنا أمام خالق ومخلوق ، بل خالق يخلق نفسه بنفسه لنفسه!
- هل يمكن القول أننا ما نزال في مرحلة الفشل ، أو في المسودة الأقرب إلى البدائية !
- أجل نحن كذلك .
- وهذا الفشل هو فشل للخالق نفسه ؟
- مجازا نعم ! لكن لو نظرنا لعملية الخلق من زاوية مختلفة، يمكننا القول أن وضع العالم اليوم هو ما توصلت إليه عملية الخلق المتطورة حتى اليوم ، لأن الخالق ليس قادرا على عمل كل شيء بسرعة مطلقة، وعلى تحقيق كل ما يريد أن يصل إليه . ومن زواية أخرى ، أن الانسان الذي تجلى فيه الخالق ليساعده في تطوير وتسريع عملية الخلق لتبلغ المدى الأقرب إلى الكمال ، ضل طريقه ولم يعرف الغاية من وجوده ، ولم يسع إلى تحقيق قيم انسانية خيرانية جمالية حضارية، إلا بحدود ضيقة جدا جدا !
- ولهذا قلت حضرتك أن عملية الخلق ما تزال تحبو في بداياتها.
- نعم صحيح . تصوري مثلا أنه رغم مرور أربعة عشر مليار عام على الانفجار الكوني ، لم يتم خلق الانسان الحديث إلا منذ قرابة مائتي ألف عام . وبعد أربعة مليارات ونصف من خلق كوكب الأرض.
- ماذا سنقول في هذه الحال عن معتقدات تتحدث عن عملية خلق تمت في ستة أيام أو في زمن غير محدد ، وغير ذلك كثير مما يرد في معتقدات وفلسفات وديانات وأساطير بشرية ، وأن عملية الخلق انتهت منذ زمن !؟
- لماذا هذا الاصرار على الزج بالفكر البشري بمختلف مناهجه ورؤاه في حوارنا ؟
- لمجرد الإحاطة بعملية الخلق حسب مصادر ومناهج ورؤى مختلفة !
- المسألة تتعلق باجتهادات العقل البشري حسب ثقافة زمنه وحسب معرفة العقل بثقافة ذلك العصر .. لا نتوقع مثلا في زمننا الحالي أن يخرج علينا انسان يدعي النبوّة ، أو يدعي الألوهة، لأن أحداً لن يصدقه. لكن هذه المعتقدات ساهمت إلى حد كبير في اغناء ثقافتنا عن الماضي .. من هنا ينبغي احترامها .. أنا شخصيا أحتفظ في مكتبتي بكتب دينية مختلفة، منها القرآن والكتاب المقدس ، وكذلك نصوص فلسفية وعلمية .. وأعلق مجسما للمسيح مصلوبا على جدار صالون بيتي ، كذلك أضع تمثالا لبوذا .. أحترم هذه المعتقدات والفلسفات لأنها أنارت لنا الطريق بشكل أو آخر واجتهدت وقدمت لنا ما استطاعت حسب ثقافة عصرها ..
ثقافة العصر التي أنتهجها والتي يمكن تقبلها هي التي ترى الألوهة ( إن شئت ) في كل شيء في الوجود . في الفضاء والكواكب والنجوم والبحار والأنهار والجبال والسهول والانسان والحيوان والنبات والجماد والماء والهواء والتراب .. إلى آخر كائنات ومكونات الوجود .. مأساتنا أن البشرية كلها لم تدرك ذلك بعد أو لم تقتنع به .. وأن الانسان لن يتقدم ما لم يدرك أن الألوهة تكمن فيه ، وتسري بطاقتها في جسده ، وأنه ينبغي عليه أن يكون على قدر الألوهة فيه ، وأنه ينبغي عليه العمل لنهضة وبناء الحضارة الانسانية ، بذلك يحقق وجوده الألوهي كمشارك في عملية الخلق . الخالق لن يبني مدنا و ينصب جسورا ويقيم سدودا ولن يؤسس لحضارة راقية ما لم نبادر نحن إلى ذلك كجزء من منظومته الإلهية الخالقة ، التي جئنا منها لتتجسد بنا ونتجسد بها .
- للتوضيح . نفهم من ذلك أن مادة جسد الانسان والطاقة السارية فيه والناجمة عنه هي جزء من مادة وطاقة الخالق نفسه . سنترك الإجابة للحلقة القادمة .. شكرا أستاذ محمود .
*******