كان في الأيام الأخيرة يبدو على غيرعادته، اكثر ميلا للشرود
وكثير من الحزن، حتى ذوقه الموسيقي تغير هذه الأيام، فمن أغاني " الروك" الصاخبة إلى معزوفات " سبستيان باخ" الهادئة بحزنها الإنساني الشفيف، المدهش والبديع، قد يكون سبب حزنه الأساسي هو ضيق نفسه مع أجواء الحجر الصحي وما يثيره من أشجان الحنين المتدفق إلى حياة الأصدقاء والشارع ، حياة النكات السمجة ، وفناجين البن الأسود على أرصفة المقاهي.
- آه ثم آه...........
ينفث " ميغيل" دخان اللهب الجاثم على صدره ، يعلم جيدا أنه ليس بوسعه الأن أن يلتقي بشلة الأصدقاء في باحة مقهى " البوينتي" ، وكل ما يمكن فعله الأن هو التعجيل بالذهاب إلى صالون الحلاقة " إلكنسيا" ليدرك الموعد الذي كان قد حدده منذ أسبوعين مع الحلاق" خسينتو"، ...إنه أيضا زمن الحلاقة بمواعيد مسبقة !!
وهو على أهبة الخروج أثبت كمامته الصحية على وجهه، وضع مشغل أقراص الموسيقى المحمول" الولكمان" في جيب سروال بذلته الرياضية، عادة ما تعتريه بعض السعادة حين يضع سماعاتي " الولكمان" في أذنيه، تنشرح ملامحه وهو يقول بصوت مسموع له ولمن حوله:
- موسيقى عالية الجودة ..يصمت قليلا ثم يضيف:
- رغم حزنها أحسها عذبة ومريحة.
وما ان أتم جملته الأخيرة حتى كان يغلق باب المنزل وراءه، يقف عند باب العمارة ويدلف إلى الشارع، بدا يمشي قدما في اتجاه صالون الحلاقة، لا يلتفت يمينا ولا يسارا ، غير عابئ بخطوات أقدام أخرى تعبر رصيف الشارع يحمل أصحابها وجوها بكمامات صحية، كانت خطواته تخترق حيرة الأشياء حوله، وتتجاوز أوراقا ممزقة عبثت بها فجاة ريح خفيفة جهته.
عندما وصل " ميغيل" صالون الحلاقة كانت معزوفة" أداجيو" لسبستيان باخ قد خفت إيقاعها مؤذنة بانتهاء ترانيمها الشجية، كان زبون واحد يحلق شعره، فأشار " الحلاق خسينتو" من خلف كمامته الصحية على " ميغل" ان ينتظر هنيهة في الخارج، بجانب باب الصالون معتذرا له، بكون الزمن زمن آخر .. فالصالون برغم مقاعده المتعددة لا يسع إلا لزبون واحد والحلاق!
بعد لحظة وليس هنيهة ..انتهى " خسينتو" من تحليق رأس زبونه، دخل " ميغيل" الصالون، رحب به الحلاق مكررا في نفس الوقت اعتذاره له:
- مرحبا بك..أنا آسف لم أكن شاغرا عند الساعة المتفق عليها.
- لا عليك..لم تتأخر علي كثيرا..لم يحدث شيئ !
أشار " خسينتو" هذه المرة على " ميغيل" ان ينزوي في ركن بالصالون ليقوم بعملية مسح تعقيمي لكرسي الحلاقة وكل الأشياء الأخرى التي سيستعملها أثناء الحلاقة، كان مع كثرة مواد التعقيم لديه و بسترته الزرقاء وكمامته الصحية الخضراء يشبه طبيبا في مستشفى..
بعدما انتهى من عملية تعقيم الصالون الذي كان يذأب عليها كلما دخل زبون جديد عنده ، أذن ل " ميغيل" بالجلوس على كرسي الحلاقة، وفيما كان هذا الأخير ينزع كمامته، كان الحلاق يشغل موسيقى" الروك" الصاخبة قائلا:
- هل تحب ان تسمع هذه الموسيقى وانت تحلق رأسك؟
ابتسم " ميغيل" ابتسامة عريضة وقال: نعم..لا باس في ذلك.
- عذرا سيدي بعض الموسيقى الصاخبة تنسيني إحساسا بدأ ينتابني مؤخرا ..أني أمتهن الحلاقة في غرفة انعاش!
ضحك " خسينتو" من تشبيهه لصالون الحلاقة بغرفة الإنعاش، تجاوب " ميغل" مع ضحكه..صار الضحك عاليا ، كانه نوع من التحدي يصر على ان يبدد الحزن مهما كانت الظروف صعبة، بعدها أغمض " ميغيل" عينيه واستسلم لترانيم المقص على شعره، وفي لحظات لم يحس بها كان الحلاق قد انتهى.!
-------------------------------------------------------------------
* خالد الدامون
وكثير من الحزن، حتى ذوقه الموسيقي تغير هذه الأيام، فمن أغاني " الروك" الصاخبة إلى معزوفات " سبستيان باخ" الهادئة بحزنها الإنساني الشفيف، المدهش والبديع، قد يكون سبب حزنه الأساسي هو ضيق نفسه مع أجواء الحجر الصحي وما يثيره من أشجان الحنين المتدفق إلى حياة الأصدقاء والشارع ، حياة النكات السمجة ، وفناجين البن الأسود على أرصفة المقاهي.
- آه ثم آه...........
ينفث " ميغيل" دخان اللهب الجاثم على صدره ، يعلم جيدا أنه ليس بوسعه الأن أن يلتقي بشلة الأصدقاء في باحة مقهى " البوينتي" ، وكل ما يمكن فعله الأن هو التعجيل بالذهاب إلى صالون الحلاقة " إلكنسيا" ليدرك الموعد الذي كان قد حدده منذ أسبوعين مع الحلاق" خسينتو"، ...إنه أيضا زمن الحلاقة بمواعيد مسبقة !!
وهو على أهبة الخروج أثبت كمامته الصحية على وجهه، وضع مشغل أقراص الموسيقى المحمول" الولكمان" في جيب سروال بذلته الرياضية، عادة ما تعتريه بعض السعادة حين يضع سماعاتي " الولكمان" في أذنيه، تنشرح ملامحه وهو يقول بصوت مسموع له ولمن حوله:
- موسيقى عالية الجودة ..يصمت قليلا ثم يضيف:
- رغم حزنها أحسها عذبة ومريحة.
وما ان أتم جملته الأخيرة حتى كان يغلق باب المنزل وراءه، يقف عند باب العمارة ويدلف إلى الشارع، بدا يمشي قدما في اتجاه صالون الحلاقة، لا يلتفت يمينا ولا يسارا ، غير عابئ بخطوات أقدام أخرى تعبر رصيف الشارع يحمل أصحابها وجوها بكمامات صحية، كانت خطواته تخترق حيرة الأشياء حوله، وتتجاوز أوراقا ممزقة عبثت بها فجاة ريح خفيفة جهته.
عندما وصل " ميغيل" صالون الحلاقة كانت معزوفة" أداجيو" لسبستيان باخ قد خفت إيقاعها مؤذنة بانتهاء ترانيمها الشجية، كان زبون واحد يحلق شعره، فأشار " الحلاق خسينتو" من خلف كمامته الصحية على " ميغل" ان ينتظر هنيهة في الخارج، بجانب باب الصالون معتذرا له، بكون الزمن زمن آخر .. فالصالون برغم مقاعده المتعددة لا يسع إلا لزبون واحد والحلاق!
بعد لحظة وليس هنيهة ..انتهى " خسينتو" من تحليق رأس زبونه، دخل " ميغيل" الصالون، رحب به الحلاق مكررا في نفس الوقت اعتذاره له:
- مرحبا بك..أنا آسف لم أكن شاغرا عند الساعة المتفق عليها.
- لا عليك..لم تتأخر علي كثيرا..لم يحدث شيئ !
أشار " خسينتو" هذه المرة على " ميغيل" ان ينزوي في ركن بالصالون ليقوم بعملية مسح تعقيمي لكرسي الحلاقة وكل الأشياء الأخرى التي سيستعملها أثناء الحلاقة، كان مع كثرة مواد التعقيم لديه و بسترته الزرقاء وكمامته الصحية الخضراء يشبه طبيبا في مستشفى..
بعدما انتهى من عملية تعقيم الصالون الذي كان يذأب عليها كلما دخل زبون جديد عنده ، أذن ل " ميغيل" بالجلوس على كرسي الحلاقة، وفيما كان هذا الأخير ينزع كمامته، كان الحلاق يشغل موسيقى" الروك" الصاخبة قائلا:
- هل تحب ان تسمع هذه الموسيقى وانت تحلق رأسك؟
ابتسم " ميغيل" ابتسامة عريضة وقال: نعم..لا باس في ذلك.
- عذرا سيدي بعض الموسيقى الصاخبة تنسيني إحساسا بدأ ينتابني مؤخرا ..أني أمتهن الحلاقة في غرفة انعاش!
ضحك " خسينتو" من تشبيهه لصالون الحلاقة بغرفة الإنعاش، تجاوب " ميغل" مع ضحكه..صار الضحك عاليا ، كانه نوع من التحدي يصر على ان يبدد الحزن مهما كانت الظروف صعبة، بعدها أغمض " ميغيل" عينيه واستسلم لترانيم المقص على شعره، وفي لحظات لم يحس بها كان الحلاق قد انتهى.!
-------------------------------------------------------------------
* خالد الدامون