( الفصل السابع من قصة الخلق)
قابلتني أسيل القمر بمرح ووجه مشرق وجمال أخاذ يتوهج كنور يغمر الكون بهالة ربّانية . تأمل جمالها يريحني لتصوري لكم جمال الألوهة السارية فيه. لاحظت أنني أتأمل وجهها بفضول مصحوب بشغف، متناسيا فنجان القهوة الموضوع أمامي ، فتساءلت عمّا إذا كان جمالها يبعث في نفسي البهجة، قلت :
" جمالك يسحرني إلى حد العبادة، ولولا شيخوختي وعشقي للمى وتجربتي في الحياة لما نجوت من سحره ، حين أرنو إلى وجهك ، ألمس مقدار الألوهة المجسدة فيه وكم الطاقة الخالقة السارية في شرايين جسدك التي شكلته ، ليبدو على هذا القدر من الكمال "
كادت أسيل أن تطيرفرحا من كلامي، فلم تجد إلا أن تمد رأسها لتطبع قبلة على خدي ولتشرع خدها لي لآخذ قبلة منه .
ارتبكت قليلا متخوفة من أن يكون أحد قد رآنا نتبادل القبل ، وما لبثت أن دعتني لإكمال قهوتي لندخل إلى استوديو التسجيل . شرعت في ارتشاف القهوة بينما سبقتني هي إلى الاستوديو .
دخلت بعدها. أخذنا مكانينا أمام الكاميرات . بادرت أسيل إلى الكلام :
- أستاذ محمود طرحت في الحلقة الماضية سؤالا للتوضيح ، يتعلق بكون جسد الانسان والطاقة السارية فيه، والناجمة عنه كفعل، هي جزء من مادة وطاقة الخالق نفسه.
- أكيد ! وعقل الانسان أيضا غير منفصل عن عقل الخالق الكلّي الكوني . فالانسان وكل شيء في الوجود جاء من الخالق نفسه ومن مادته وطاقته نفسها ، ليس هناك مادتان مادة للخالق ومادة للمخلوق إذا جاز تعبير مخلوق . فليس هناك إلا خالق يوجد نفسه. هناك مادة واحدة تسري في الكون من أعلاه إلى أدناه كطاقة، وتتجسد فيه كمادة .. الفرق أن الخالق يوظف هذه الطاقة بقدرة عظيمة .
ولو عدنا إلى أساطير الخلق البشرية سنجد أن الخلق جاء من الألوهة . ففي ملحمة الخلق البابلية ( اينوماإيلش ) التي هي امتداد لأساطير الخلق السومرية، يقوم الإله مردوخ بشق جسد جدته الإلهة تيامات أو تعامة، ليجعل من النصف العلوي سماء ومن النصف السفلي أرضا. ومن هذا النصف السفلي الذي هو تراب جسد الجدة يقوم مردوخ بخلق الانسان ، بأن يعجن التراب بدمه ويحيله إلى الإنسان الذي ستأتي البشرية منه . لاحظي أن هذه ثاني عملية خلق أسطورية يكون فيها جسد الخالق عنصرا أساسيا في عملية الخلق.
عملية الخلق هذه من أجساد آلهة ، نجدها أيضا في ملاحم الخلق السومرية . في إحداها، يقوم الآلهة بذبح الإله (وي) لتقوم الإلهة نينتو بمزج دمه مع الصلصال ليكون للإنسان روح.
حسب هذه النصوص الأسطورية أبدو أنا في بداية القرن الحادي والعشرين وكأنني لم أقدم ما هو جديد، حين أقول أن الخلق جاء من مادة الخالق نفسه . فالسومريون سبقوني قبل قرابة ستة آلاف عام ، ولولا التصور المختلف لوجود الخالق والغاية من الوجود لدي ، لما كنت قدمت شيئا إلى الفكر البشري عن نشأة الخلق والغاية منه .
الخلق في ستة أيام الذي جاء في الديانات السماوية اللاحقة ، هو ما جاء به الإله مردوخ قبل ذلك ، ولم يكن جديدا على العقل البشري .
هل أجبت عن سؤالك أم أنك ستكررين الزج بالمعتقدات في حوارنا ؟
- أنت تجيب بذكاء وكأنك لا تريد أن تخدش حرمة المعتقدات والأفكار الأخرى .
- يا سيدتي أنا أتعامل مع فكر انساني أنتجه عقل انساني ، وأنا أملك عقلا انسانيا وأنتج فكرا انسانيا ، ولا أحمل سيفا لقطع الرؤوس! ولا مدفعا أطلقه على عقول الآخرين ، أنا أطلق فكرا، إذا جاز التعبير، يمكن للآخرين أن يتقبلوه أو أن يرفضوه .
- لكن بعضهم كفّروك وألحدوك وهددوك وما زالوا يهددونك ، كما أنهم حاولوا اغتيالك، فلماذا لا تعاملهم بالمثل ؟
- وهل يعقل أن أنزل إلى هذا المستوى من الجهل والحماقة وسفك الدماء، وأنا أرى (ألوهة) تسري في جسدي، وتتطلب أن أكون على مستوى وعيها وغاياتها كساعية للخير والعدل والمحبة والجمال؟
- الألوهة تسري في أجسادهم أيضا حسب فلسفتك فلماذا لا يكونون مثلك ؟!!!
أدرك محمود أبو الجدايل أن أسيل لا تحوز على قدر أخّاذ من الجمال بل وعلى قدر عال من الذكاء أيضا كما يبدو ..أطرق للحظات وهو يفكر في كيفية الاجابة عن سؤالها الهام .
- يمكن أن أتحدث عن ذلك حين نتحدث عن فلسفة الألوهة !
- أستاذ محمود أعتقد أن حوارنا كله ليس خارج فلسفة الألوهة أو فلسفة الخلق أو حتى فلسفة الوجود، منذ البداية وإلى النهاية التي سنصل إليها .
- صحيح . لكن حوارنا الآن يتعلق بقدرة الخالق وفي الجانب المتعلق منه بالانسان على وجه التحديد . وهذه مسألة بعيدة جدا عن بداية الخلق التي تمت قبل أربعة عشر مليارعام.
- أعتقد أن دخولنا في الحاضر وعودتنا إلى الماضي يجعل الحوار ممتعا أكثر . بحيث يمكن القول أننا بفروغنا من الحوار نكون قد أتينا على عملية الخلق كلها من ألفها إلى يائها ، وفرغنا منها ومن أية تساؤلات قد تطرح حولها.
- ليكن ! لقد سبق وأن أشرت إلى أن عملية الخلق ما تزال تحبو، أي أنها ما تزال في بداياتها ، وأقصد خلق الكائنات الحية ، والانسان منها على وجه التحديد ، وهذا يعني أن العملية تخضع لنظرية التطور، وأن التحكم المطلق بها لم يحدث بعد ، وقد يحتاج إلى مليارات السنين ، إن طاقة الخلق السارية في الكون ومن ضمنه جسد الانسان، أشبه بالوقود في السيارة ، تشغلها وتسيّرها دون أن تحدد اتجاه حركتها .
- وفي حال الانسان ، لماذا لم يتم تحديد اتجاهه؟
- لأن القدرة على التحكم لم تتم بعد . هذا من ناحية ، ومن ناحية ثانية ، لكي تظل عملية الخلق مفتوحة على احتمالات مختلفة غير مدركة .
- لم أفهم . المسألة في حاجة إلى توضيح .
- المسألة تتعلق بأكثر من علّة . الأولى كون عملية خلق الانسان ما تزال في بداياتها ولم يتوصل العقل/ الخالق، إلى التصورالكامل لها، والتحكم المطلق بها، فهذا الكائن الحديث ألذي لم يظهر إلا منذ قرابة مائتي ألف عام من عمر الوجود البالغ أربعة عشر مليار عام ، ليس الغاية المنشودة ، فما هو إلا خطوة من خطوات كثيرة لاحقة ، تنشد الانسان الكامل . الحديث عن انسان كامل في حاضر البشرية هو محض هراء . فالانسان الحالي الذي نعيش معه لا علاقة له بالكمال ، ولا حتى بالحداثة ، فالانسان الحديث أيضا لم يخلق بعد . ومعظم البشر في زمننا تنشأ معرفتهم بتأثير ثقافة المجتمع الذي يعيشون فيه، لتنعكس هذه الثقافة على سلوكهم . فبعض الثقافات الدينية مثلا، ينشأ عنها من يدعون إلى قتل من يخالف معتقدهم الديني . الأشخاص المتميزون، الخارجون على الثقافة السائدة يكونون ثقافتهم بجهودهم الشخصية وبتأثيرعوامل مختلفة وخارجية ، ليست نابعة من المجتمع نفسه ، وإن كان المجتمع لا يخلو من طفرات لا تشكل قاعدة. ولو لم يكن الأمر كذلك لكنا نرى ملايين الفلاسفة في كل مجتمع. لا تصدقي ابن طفيل ولا بطله "حي بن يقظان" الذي تربى مع الغزلان. مجتمع الحيوانات ينتج حيوانات بوعي حيواني محدود، ولا ينتج فلاسفة. إن ثقافة المجتمع أي مجتمع ، هي أشبه بالسحر أوالإدمان الذي لا يسهل الفكاك منه . والمؤسف أن تسري طاقة الخلق في أجساد أصحاب الثقافة السائدة، كما تسري في أجساد أصحاب الثقافة الوليدة المناقضة .
- ماذا تقصد بالانسان الحديث إذا كنت أنا وأنت وغيرنا لا ننتمي إليه ؟
- الانسان المدرك لوجوده والغاية منه . وجوده الذي لا ينفصل عن الوجود الكوني ، أي عن وجود القائم بالخلق ، أو عن وجود الخالق أو الله إن شئت . وغايته التي لا تنفصل عن غاية الخالق والسعي إلى تحقيقها ، وهي إقامة حضارة إنسانية / إلهية ، تتحقق فيها قيم الخير والعدل والمحبة والجمال. فأين هو هذا الانسان حسب هذه المواصفات ؟
- يا إلهي ، حسب فهمك، هذا الانسان غير موجود فعلا ، ربما أنت الوحيد بين البشر الذي يحمل هذا المفهوم !
- حتى أنا وإن حملت المفهوم إلا أنني لا أستطيع العمل على تحقيقه ، ولا أعرف إن كانت أفكاري وتأملاتي وكتاباتي محدودة الانتشار تكفي لهذه الغاية .
- هي على الأقل تساعد في رسم الطريق إلى المستقبل ، وإن لم تصل إلى البشرية اليوم ، ستصل في الغد !
- وقد لا تصل، وإن وصلت ستواجه السيوف والصعوبات نفسها التي واجهت أي فكرسابق.
- هذا يعني أن البشرية ما تزال تعيش في الحضيض ، والكلام عن إنسان حديث لا معنى له إلا شكليا ! لكن ماذا نقول عن أمم حاليا نبذت الحروب وأقامت مجتمعات ديمقراطية ، وحققت قدرا مقبولا من العدالة والمساوة بين شعوبها.
- نعم . هي حداثية مقارنة بالواقع البشري المتخلف السائد ، لكنها ليست حداثية مقارنة بالحداثة المنشودة .. هذه الأمم ترى شعوبا تذبح كالمواشي ، بل أسوأ من المواشي ، وترى مدنا تدمر على رؤوس ساكنيها، ولا تفعل شيئا لوقف هذا الذبح الفظيع !
- وماذا عن العلة الثانية ؟
- العلة الثانية مرتبطة بالأولى . فالعقل / الخالق ، أوجد الانسان من ذاته ومنحه طاقة الخلق وطاقة العقل ليرى ذاته فيه ، وليفكر معه في تحقيق غايات الخلق التي ينشدها ، وإذا ما أردنا أن نوظف مفردتي الخالق والخلق ، أو الخالق والمخلوق ، فإنني أرى أن عملية الخلق تكاملية بين الخالق والمخلوق ، وعقل المخلوق جزء من عقل الخالق، ولن تبلغ عملية الخلق غاياتها إلا بهذا التكامل على وجهه الأفضل ، وقد تطرقنا إلى أن الخالق لا يقيم مدنا ولا يبني حضاره إلا بوجوده المتجلي فيه وهو الانسان . فالخالق يحتاج إلى عقل ووعي وعمل المخلوق كجزء من ذاته الكونية .
- لكن لماذا ظل عقل الانسان محدودا حتى يومنا ؟
- عقل الانسان غير محدود على الاطلاق ، ما يحدث هو أن الانسان لا يوظف عقله كما ينبغي. المحدودية في العقل هي للحيوانات فقط وليس للإنسان . لقد سبق وأن تطرقت في كتاباتي للمقارنة بين عقل الانسان وعقل النحلة . فالنحلة قادرة على القيام بعمل محدد هو صنع العسل ، ولا تستطيع أن تقوم بعمل آخر ، والحال نفسه ينطبق على الحيوانات كلها ، من حيث القيام بعمل واحد محدد، ولو أن الخالق أبقى على عقل الانسان كذلك لما كان هناك سعي لإقامة حضارة متطورة باستمرار. تصوري لو أن قدرة الانسان اقتصرت على بناء بيت أقرب إلى الوكر له ، لما كان هناك حضارة مهما كانت !
- ألهذا أبقى الخالق على حرية العقل والعمل لدى الانسان، وأبقى على طاقة الخلق السارية فيه كمجرد وقود كما هي الحال مع السيارة؟
- أجل وهذه هي العلة الثالثة أو الرابعة المتعلقة بسابقاتها . فحسب ما أسلفت ، هذا ما توصلت إليه عملية الخلق حتى حينه .. ومن ناحية ثانية عقل الانسان متصل بعقل الخالق ، فعقل الخالق مصدر عقول الكائنات كلها ، ولا يمكن أن يوظفه لدى الانسان في اتجاه محدد قد لا يكون الأفضل ، لذلك أبقى على عقل الانسان مفتوحا على الوجود ، للعمل مع عقله الكلي لإقامة الحضارة الأرقى والأفضل وتحقيق الغاية من الوجود . إنّ كل ما يصدر عن العقل البشري متصل بالعقل الكوني ، لكن العقل الكوني لا يدوّن إلا ما هو الأصلح منه ، وحتى هذا الأصلح قد يتم التخلي عنه إذا ما جاء ما هو أصلح منه . إن ما يجري على مدونات العقل هو ما يجري على مدونات مورثات عملية الخلق نفسها .. فكسر رجل انسان ما مثلا، لا يدوّن في المورثات ، لذلك إذا كسرت رجل أب مثلا أو قلعت عينه ، لا يدون ذلك في المورثات ، حتى لا يأتي الابن برجل مكسورة أو بعين مقلوعة .. وسنتطرق بقدر ما من التفصيل حين نأتي على الحديث عن كيفية الخلق .
- لكن بعض الأمراض التي تصيب الانسان تورث ، لماذا ؟
- لأن عوامل داخلية في الجسم الانساني تساعد على استفحالها ونموها. كما أن عملية الخلق بحد ذاتها لم تتوصل إلى حل لهذه المعضلات .. المكتسبات الانسانية مثلا كالمهارات واللغات والمعارف المختلفة لا تورث ، وهذه من سلبيات عملية الخلق أيضا ، التي لم يتم تجاوزها .. حتى خلق الانسان ونموه خلال ثمانية عشر عاما عملية بطيئة تحتاج إلى تطوير .. في روايتي " أديب في الجنة " أوجدت معجزة في عملية خلق الانسان التي ينشدها الخالق، بأن جعلت الملكة نور السماء تحمل ب "سحب السماوات" وتنجبه ويبلغ سن الرشد ، ويحصل على كل المعارف البشرية خلال ستة أيام فقط!
- ستة أيام فقط ؟ يبدو أن الألوهة كلها تجسدت فيه !
- نعم، إنه الانسان الكامل الذي ينشده الخالق، والذي سيفتخر به !
- سأعود إلى مدونات العقل الكوني . هل النظرية النسبية لآينشتاين مثلا مدونة في العقل الكوني ؟
- النظرية النسبية استنبطها آينشتاين من الوجود الكوني ، وليس باختراع ما هو جديد .. النظرية جديدة على العقل البشري لكن ليس على العقل الخالق. العقل الإلهي الكوني هو الذي وضع القوى الناظمة للكون والقوانين المسيرة لها ولعملية الخلق برمتها، بما في ذلك قوى الجذب الكوني التي تقوم النظرية النسبية عليها .
- يا إلهي إذا كان آينشتاين لم يأت بما هو جديد على العقل الكوني ، فكم يحتاج العقل البشري من الزمن ليأت بما هو جديد يفيد عملية الخلق ويغنيها .
- تكمن قيمة آينشتاين وكل من سار على نهجه من العلماء العباقرة ، في أنهم شقوا طريقا جديدا للعقل البشري لفهم ما هية الخالق . والخالق لا ينتظر من العقل البشري ، رغم أنه جزء من عقله ، أن يأتي بما هو خارق جداً في عملية الخلق بيولوجيا وفيزيولوجيا، فقوانين الخلق وضعها الخالق منذ مليارات السنين ، وهو الأقدرعلى تطويرها الذي قد يحتاج إلى مليارات السنين .. غير أنه ينتظر من العقل البشري فهما فلسفيا انسانيا خيرانيا جماليا .. أي نظام حياة كوني يبني الحضارة الأرقى ويقرب الانسان من أخيه الانسان ، ويقرب الانسان من خالقه المتجلي فيه، ليتم التكامل بينهما على أكمل وجه . وليصبح الانسان على قدر الألوهية فيه . لتتحقق بذلك وحدة الوجود الواحد .
*****
تنهدت أسيل من أعماقها وزفرت نفساً طويلا ، وهي تهتف " أي فهم هذا أستاذ محمود؟ محاورك يحتاج ربما إلى أكثر من عقل ، أو عقل كعقل آينشتاين ، وأنا عقلي ليس على هذا القدر .. هل لديك ما تود أن تضيفه إلى هذه الحلقة ؟
- أجل لدي ما أضيفه !
- تفضل .
أخرج محمود أبو الجدايل كتاباً ضخماً من حقيبته وشرع في الحديث :
- قبل بضعة أعوام كتبت بحثا من ثلاثة عشر فصلا بعنوان " ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة " نشرته على شبكة النت ، أحلل فيه شخصية المسيح وصلبه وعلاقته بالألوهة ، لأخلص إلى أن صلب المسيح هو صلب للألوهة ، دون قدرة الله على منع الصلب ، ودون أن يعرف المسيح أن الله غير قادر على منع الصلب ، لذلك رأى أن الله تخلى عنه ، فصرخ بما معناه : إلهي إلهي لماذا تركتني أو لماذا تخليت عني؟ فالانسان ثُقف على أن الله قادر على كل شيء .. وتطرقت إلى الشباب السوريين الذين كانوا يواجهون ذبحهم في المظاهرات بالهتاف : يا ألله ما لنا غيرك يا ألله ! إدراكا منهم أن الله قادرعلى انقاذهم من الذبح .. ولا يدركون بالتأكيد أن الله يتمزق لفجيعتهم وفجيعة السوريين بشكل عام ، ليس لأنهم سوريون وينزفون دما فحسب ، بل لأن الدماء التي تنزف هي دماء الله ، والأجساد التي تنتهك وتذبح هي أجساد الله ، دون أن يستطيع الله أن ينقذهم أو ينقذ نفسه ، وكان يأمل من الآخرين الأقوياء أن يتدخلوا لإنقاذهم ، أو لإنقاذ الله ، أبينا الذي في السموات ( حسب المسيح ) الذي يذبح في سوريا على أيدي القتلة المختلفين والمتعددين ! ولا أنكر أنني حين كتبت ملحمة " غوايات شيطانية " لم أجد غير الله ليلجأ الأديب إليه ، حين راح يشك في أنه واقع تحت غواية شيطانية لن ينقذه منها إلا الله ، فأنشد قائلا من جملة ما أنشده:
إلهي !
مهما مهما كنت
ومهما لم تكن!
لم يبق لي إلا أنت
وليس لي إلا أنت
ولا يدركني إلا أنت
ولا يبصرني إلا أنت
ولا يسمعني إلا أنت
ولا ينصفني إلا أنت
إن كنت أو لم تكن
فلتكن أنت أنا
ولأكن أنا أنت
فليس لي إلا أنت
ليس لي إلا أنت
يا الله يا الله يا ألله
****
كان الأديب في حاجة إلى الله حتى لو لم يكن هناك إله ، ليكون هو الإله لعله يتمكن من انقاذ نفسه .
وحين بدأت بتدوين مشروعي الفلسفي قبل أكثر من ربع قرن ، كتبت ملحمة " الملك لقمان " هذه التي ترينها!!" تطرقت فيها إلى القدرة غير المطلقة للخالق وإن كانت تتطور في اتجاه ذلك نسبيا .. بل وصورت ألم الخالق وعلى لسانه وهو يرى ما يجري لبعض أجزاء جسده الممثلة في الانسان .
كان الملك لقمان يبحث عن الله . جاء إلى كوكب في الفضاء يقام عليه معبد لآلهة وثنية تقدم فيه القرابين البشرية. كان المشهد مرّوعاً ، فقد كانت الجثث تتكدّس على المذابح وتتبعثر من حولها في أشكالٍ عشوائيّة، أو تحرق . جثث أطفال من أعمار مختلفة، وجثث فتيات، وجثث شباب، وجثث شيوخ وجثث نساء، بعضها عارٍ وبعضها شبه عار، وأحواض تفيض بالدّماء حول المذابح، وأناس ينتظرون بوجوه شاحبة بائسة تخيم عليها أشباح الموت.
أطبق الملك لقمان بيديه على رأسه شابكاً أصابعه فوقه، مُخفياً وجهه خلف مرفقيه، جاهداً بكُلِّ قوّته ليمنع صرخة هائلة من الإفلات منه، وما لبث أن رفع رأسه إلى السَّماء فارجاً مرفقيه قليلاً، ليتيح إلى عينيه الرؤية وكأنّه يأمل مشاهدة الله، وراح يصرخ في أعماق نفسه دون أن يعرف أحد ما يدور في مخيلته، سوى الملكة نور السَّماء:
"لِمَ، لِما! لماذا يا إلهي تجعل كُلَّ هذا يحدث، لِمَ تتيح لكُلِّ هذه الدّماء أن تنزف، ولكُلِّ هذه الأرواح أن تقضي، بكم قلبٍ سأحتمل كُلَّ هذه العذابات والآلام، وأنت لم تمنحني سوى قلبٍ واحدٍ ضعيف؟"
وأنزل الملك رأسه وهو يُطبق يديه عليه ويتنفّس بتسارع وعمق لعلّه يسيطرعلى نفسه. غير أنّ جسده كان يتلوّى وكأنّه أصيب بمغص شديد، فسارعت الملكة إلى مواساته، فيما شرع صوت هائل يهتف في دخليته، ليس إلا صوت الله :
"كل هذه الجثث جسدي يا لقمان، وكل هذه الدماء العائمة دمائي، وكُلُّ الأجساد المصلوبة والملقاة في القبور والتي أحرقت جسدي، كل حنجرة قطعت هي حنجرتي، وكل حلقوم نُحر هو حلقومي، وكل قطرة دم سالت هي من دمي، وكل عين فُقِئت هي من عيوني، وكل روح قضت هي من روحي، فكم من الدّماء التي سالت عبر ملايين السّنين من دمي، وكم من الأرواح التي أزهقت من روحي، وكم من العيون التي فُقئت من عيوني، وكم من الأعناق التي قطعت من عنقي، وكم من القلوب التي توقّف نبضها من قلبي؟! لو أنّك عشت مقدار ذرّة من آلامي يا لقمان، لمتّ ألف ألف ألف بليون مَرّة، فهل تراني كنتُ قادراً على منع حدوث كل هذا لي ولم أمنعه؟ هل تراني كنت قادراً على وقف نزيف جسدي ووقفت متفرّجاً عليه؟ هل تراني كنت قادراً على صَدّ الرّماح المنطلقة نحو جسدي ولم أصدّها؟ أم تراني كنت أنعم بمواضيكم وهي تقطّعني إلى أشلاء؟ ورصاصكم وهو يخترق صدري، وقنابلكم وصواريخكم وهي تحيلني إلى رماد وركام؟" ؟!
وتوقف الصوت ليرفع الملك لقمان رأسه المتفجّر المضطرب، ويدور حول نفسه فاغراً فاه مشدوهاً مرسِلاً نظراته إلى الفضاء وهو ما يزال يشبك يديه خلف رأسه، ليهتف متسائلاً بحيرة وذهول مُفجّراً الصوت الذي طالما حبسه في دخيلته:
"لا! أهذا أنت حقاً؟ هل كان هذا صوتك؟ هل هذه الدّماءُ دماؤك، وهذه الأجساد جسدك؟ هل كنتَ في حاجة إليّ بقدر ما أنا في حاجة إليك، وكنتَ تبحث عنّي كما أبحث عنك، فعثرت عليّ قبل أن أعثر عليك؟! أجبني؟ أجبني؟ هل يُعقل أن تكون ضعيفاً بقدر ما أنتَ قوي؟ هل يُعقل أن تموت بقدر ما تحيا، وأن تتألم بقدر ما تحب؟! لا! لا! مستحيل! ساعدوني، أعينوني، ساعدوني،أعينوني، أعيدوا الحياة إلى الله وكفاكم تمزيقاً لجسده وتقطيعاً لأشلائه وطعناً لسويداء قلبه، وإثارة لأحزانه وآلامه "
كانت هذه حال لقمان حين صدمته الحقيقة الفظيعة التي لم يكن يدركها جيدا ، وبالقدر نفسه كانت صدمة المسيح حين وجد أنه كإله غير قادرعلى منع الألم عن نفسه ، فصرخ صرخته العظيمة مخاطباً الإله الأب، الذي يفترض أنه قادرعلى كل شيء : إيلي، إيلي، لما شبقتني؟ أي: إلهي ، إلهي، لماذا تركتني.
- الله القتيل . ألله الجريح . ألله الحزين . الله غير القادر على منع القتل عن نفسه . شكرا أستاذ محمود على هذه المفاجأة الجميلة غير المتوقعة .
- العفو .
- يبدو أننا سننهي الحلقة دون سؤال نؤجل الإجابة عنه إلى الحلقة القادمة "
- لا ثمة سؤال . هل نسيت أننا استبقنا الزمن بمليارات الأعوم لنعيش في الحاضر ؟
- إذن لا بد من العودة إلى الماضي البعيد ، أي إلى ما بعد الانفجار الكبير ؟ مع أن الغوص في بدايات تشكل النجوم والكواكب ومن ثم الحياة مسألة تناولتها العلوم المختلفة.
- لا أحب كلمة الانفجار هذه ، الخالق لا ينفجر، بل يتجلى أو ينبعث !
- الحق معك في هذه المسألة .
- حسنا مشاهدينا الأعزاء .. إلى اللقاء بكم في الحلقة القادمة ضمن أفق المعرفة، ومع "قصة الخلق" كما يراها أديبنا وفيلسوفنا محمود أبو الجدايل وسؤال : ماذا جرى بعد الانبعاث والتجلي الأول للخالق في الوجود ؟
تصبحون على خير وسلام، مع أطيب تحياتي أنا "أسيل القمر" والأديب الفيلسوف محمود أبو الجدايل !
******
قابلتني أسيل القمر بمرح ووجه مشرق وجمال أخاذ يتوهج كنور يغمر الكون بهالة ربّانية . تأمل جمالها يريحني لتصوري لكم جمال الألوهة السارية فيه. لاحظت أنني أتأمل وجهها بفضول مصحوب بشغف، متناسيا فنجان القهوة الموضوع أمامي ، فتساءلت عمّا إذا كان جمالها يبعث في نفسي البهجة، قلت :
" جمالك يسحرني إلى حد العبادة، ولولا شيخوختي وعشقي للمى وتجربتي في الحياة لما نجوت من سحره ، حين أرنو إلى وجهك ، ألمس مقدار الألوهة المجسدة فيه وكم الطاقة الخالقة السارية في شرايين جسدك التي شكلته ، ليبدو على هذا القدر من الكمال "
كادت أسيل أن تطيرفرحا من كلامي، فلم تجد إلا أن تمد رأسها لتطبع قبلة على خدي ولتشرع خدها لي لآخذ قبلة منه .
ارتبكت قليلا متخوفة من أن يكون أحد قد رآنا نتبادل القبل ، وما لبثت أن دعتني لإكمال قهوتي لندخل إلى استوديو التسجيل . شرعت في ارتشاف القهوة بينما سبقتني هي إلى الاستوديو .
دخلت بعدها. أخذنا مكانينا أمام الكاميرات . بادرت أسيل إلى الكلام :
- أستاذ محمود طرحت في الحلقة الماضية سؤالا للتوضيح ، يتعلق بكون جسد الانسان والطاقة السارية فيه، والناجمة عنه كفعل، هي جزء من مادة وطاقة الخالق نفسه.
- أكيد ! وعقل الانسان أيضا غير منفصل عن عقل الخالق الكلّي الكوني . فالانسان وكل شيء في الوجود جاء من الخالق نفسه ومن مادته وطاقته نفسها ، ليس هناك مادتان مادة للخالق ومادة للمخلوق إذا جاز تعبير مخلوق . فليس هناك إلا خالق يوجد نفسه. هناك مادة واحدة تسري في الكون من أعلاه إلى أدناه كطاقة، وتتجسد فيه كمادة .. الفرق أن الخالق يوظف هذه الطاقة بقدرة عظيمة .
ولو عدنا إلى أساطير الخلق البشرية سنجد أن الخلق جاء من الألوهة . ففي ملحمة الخلق البابلية ( اينوماإيلش ) التي هي امتداد لأساطير الخلق السومرية، يقوم الإله مردوخ بشق جسد جدته الإلهة تيامات أو تعامة، ليجعل من النصف العلوي سماء ومن النصف السفلي أرضا. ومن هذا النصف السفلي الذي هو تراب جسد الجدة يقوم مردوخ بخلق الانسان ، بأن يعجن التراب بدمه ويحيله إلى الإنسان الذي ستأتي البشرية منه . لاحظي أن هذه ثاني عملية خلق أسطورية يكون فيها جسد الخالق عنصرا أساسيا في عملية الخلق.
عملية الخلق هذه من أجساد آلهة ، نجدها أيضا في ملاحم الخلق السومرية . في إحداها، يقوم الآلهة بذبح الإله (وي) لتقوم الإلهة نينتو بمزج دمه مع الصلصال ليكون للإنسان روح.
حسب هذه النصوص الأسطورية أبدو أنا في بداية القرن الحادي والعشرين وكأنني لم أقدم ما هو جديد، حين أقول أن الخلق جاء من مادة الخالق نفسه . فالسومريون سبقوني قبل قرابة ستة آلاف عام ، ولولا التصور المختلف لوجود الخالق والغاية من الوجود لدي ، لما كنت قدمت شيئا إلى الفكر البشري عن نشأة الخلق والغاية منه .
الخلق في ستة أيام الذي جاء في الديانات السماوية اللاحقة ، هو ما جاء به الإله مردوخ قبل ذلك ، ولم يكن جديدا على العقل البشري .
هل أجبت عن سؤالك أم أنك ستكررين الزج بالمعتقدات في حوارنا ؟
- أنت تجيب بذكاء وكأنك لا تريد أن تخدش حرمة المعتقدات والأفكار الأخرى .
- يا سيدتي أنا أتعامل مع فكر انساني أنتجه عقل انساني ، وأنا أملك عقلا انسانيا وأنتج فكرا انسانيا ، ولا أحمل سيفا لقطع الرؤوس! ولا مدفعا أطلقه على عقول الآخرين ، أنا أطلق فكرا، إذا جاز التعبير، يمكن للآخرين أن يتقبلوه أو أن يرفضوه .
- لكن بعضهم كفّروك وألحدوك وهددوك وما زالوا يهددونك ، كما أنهم حاولوا اغتيالك، فلماذا لا تعاملهم بالمثل ؟
- وهل يعقل أن أنزل إلى هذا المستوى من الجهل والحماقة وسفك الدماء، وأنا أرى (ألوهة) تسري في جسدي، وتتطلب أن أكون على مستوى وعيها وغاياتها كساعية للخير والعدل والمحبة والجمال؟
- الألوهة تسري في أجسادهم أيضا حسب فلسفتك فلماذا لا يكونون مثلك ؟!!!
أدرك محمود أبو الجدايل أن أسيل لا تحوز على قدر أخّاذ من الجمال بل وعلى قدر عال من الذكاء أيضا كما يبدو ..أطرق للحظات وهو يفكر في كيفية الاجابة عن سؤالها الهام .
- يمكن أن أتحدث عن ذلك حين نتحدث عن فلسفة الألوهة !
- أستاذ محمود أعتقد أن حوارنا كله ليس خارج فلسفة الألوهة أو فلسفة الخلق أو حتى فلسفة الوجود، منذ البداية وإلى النهاية التي سنصل إليها .
- صحيح . لكن حوارنا الآن يتعلق بقدرة الخالق وفي الجانب المتعلق منه بالانسان على وجه التحديد . وهذه مسألة بعيدة جدا عن بداية الخلق التي تمت قبل أربعة عشر مليارعام.
- أعتقد أن دخولنا في الحاضر وعودتنا إلى الماضي يجعل الحوار ممتعا أكثر . بحيث يمكن القول أننا بفروغنا من الحوار نكون قد أتينا على عملية الخلق كلها من ألفها إلى يائها ، وفرغنا منها ومن أية تساؤلات قد تطرح حولها.
- ليكن ! لقد سبق وأن أشرت إلى أن عملية الخلق ما تزال تحبو، أي أنها ما تزال في بداياتها ، وأقصد خلق الكائنات الحية ، والانسان منها على وجه التحديد ، وهذا يعني أن العملية تخضع لنظرية التطور، وأن التحكم المطلق بها لم يحدث بعد ، وقد يحتاج إلى مليارات السنين ، إن طاقة الخلق السارية في الكون ومن ضمنه جسد الانسان، أشبه بالوقود في السيارة ، تشغلها وتسيّرها دون أن تحدد اتجاه حركتها .
- وفي حال الانسان ، لماذا لم يتم تحديد اتجاهه؟
- لأن القدرة على التحكم لم تتم بعد . هذا من ناحية ، ومن ناحية ثانية ، لكي تظل عملية الخلق مفتوحة على احتمالات مختلفة غير مدركة .
- لم أفهم . المسألة في حاجة إلى توضيح .
- المسألة تتعلق بأكثر من علّة . الأولى كون عملية خلق الانسان ما تزال في بداياتها ولم يتوصل العقل/ الخالق، إلى التصورالكامل لها، والتحكم المطلق بها، فهذا الكائن الحديث ألذي لم يظهر إلا منذ قرابة مائتي ألف عام من عمر الوجود البالغ أربعة عشر مليار عام ، ليس الغاية المنشودة ، فما هو إلا خطوة من خطوات كثيرة لاحقة ، تنشد الانسان الكامل . الحديث عن انسان كامل في حاضر البشرية هو محض هراء . فالانسان الحالي الذي نعيش معه لا علاقة له بالكمال ، ولا حتى بالحداثة ، فالانسان الحديث أيضا لم يخلق بعد . ومعظم البشر في زمننا تنشأ معرفتهم بتأثير ثقافة المجتمع الذي يعيشون فيه، لتنعكس هذه الثقافة على سلوكهم . فبعض الثقافات الدينية مثلا، ينشأ عنها من يدعون إلى قتل من يخالف معتقدهم الديني . الأشخاص المتميزون، الخارجون على الثقافة السائدة يكونون ثقافتهم بجهودهم الشخصية وبتأثيرعوامل مختلفة وخارجية ، ليست نابعة من المجتمع نفسه ، وإن كان المجتمع لا يخلو من طفرات لا تشكل قاعدة. ولو لم يكن الأمر كذلك لكنا نرى ملايين الفلاسفة في كل مجتمع. لا تصدقي ابن طفيل ولا بطله "حي بن يقظان" الذي تربى مع الغزلان. مجتمع الحيوانات ينتج حيوانات بوعي حيواني محدود، ولا ينتج فلاسفة. إن ثقافة المجتمع أي مجتمع ، هي أشبه بالسحر أوالإدمان الذي لا يسهل الفكاك منه . والمؤسف أن تسري طاقة الخلق في أجساد أصحاب الثقافة السائدة، كما تسري في أجساد أصحاب الثقافة الوليدة المناقضة .
- ماذا تقصد بالانسان الحديث إذا كنت أنا وأنت وغيرنا لا ننتمي إليه ؟
- الانسان المدرك لوجوده والغاية منه . وجوده الذي لا ينفصل عن الوجود الكوني ، أي عن وجود القائم بالخلق ، أو عن وجود الخالق أو الله إن شئت . وغايته التي لا تنفصل عن غاية الخالق والسعي إلى تحقيقها ، وهي إقامة حضارة إنسانية / إلهية ، تتحقق فيها قيم الخير والعدل والمحبة والجمال. فأين هو هذا الانسان حسب هذه المواصفات ؟
- يا إلهي ، حسب فهمك، هذا الانسان غير موجود فعلا ، ربما أنت الوحيد بين البشر الذي يحمل هذا المفهوم !
- حتى أنا وإن حملت المفهوم إلا أنني لا أستطيع العمل على تحقيقه ، ولا أعرف إن كانت أفكاري وتأملاتي وكتاباتي محدودة الانتشار تكفي لهذه الغاية .
- هي على الأقل تساعد في رسم الطريق إلى المستقبل ، وإن لم تصل إلى البشرية اليوم ، ستصل في الغد !
- وقد لا تصل، وإن وصلت ستواجه السيوف والصعوبات نفسها التي واجهت أي فكرسابق.
- هذا يعني أن البشرية ما تزال تعيش في الحضيض ، والكلام عن إنسان حديث لا معنى له إلا شكليا ! لكن ماذا نقول عن أمم حاليا نبذت الحروب وأقامت مجتمعات ديمقراطية ، وحققت قدرا مقبولا من العدالة والمساوة بين شعوبها.
- نعم . هي حداثية مقارنة بالواقع البشري المتخلف السائد ، لكنها ليست حداثية مقارنة بالحداثة المنشودة .. هذه الأمم ترى شعوبا تذبح كالمواشي ، بل أسوأ من المواشي ، وترى مدنا تدمر على رؤوس ساكنيها، ولا تفعل شيئا لوقف هذا الذبح الفظيع !
- وماذا عن العلة الثانية ؟
- العلة الثانية مرتبطة بالأولى . فالعقل / الخالق ، أوجد الانسان من ذاته ومنحه طاقة الخلق وطاقة العقل ليرى ذاته فيه ، وليفكر معه في تحقيق غايات الخلق التي ينشدها ، وإذا ما أردنا أن نوظف مفردتي الخالق والخلق ، أو الخالق والمخلوق ، فإنني أرى أن عملية الخلق تكاملية بين الخالق والمخلوق ، وعقل المخلوق جزء من عقل الخالق، ولن تبلغ عملية الخلق غاياتها إلا بهذا التكامل على وجهه الأفضل ، وقد تطرقنا إلى أن الخالق لا يقيم مدنا ولا يبني حضاره إلا بوجوده المتجلي فيه وهو الانسان . فالخالق يحتاج إلى عقل ووعي وعمل المخلوق كجزء من ذاته الكونية .
- لكن لماذا ظل عقل الانسان محدودا حتى يومنا ؟
- عقل الانسان غير محدود على الاطلاق ، ما يحدث هو أن الانسان لا يوظف عقله كما ينبغي. المحدودية في العقل هي للحيوانات فقط وليس للإنسان . لقد سبق وأن تطرقت في كتاباتي للمقارنة بين عقل الانسان وعقل النحلة . فالنحلة قادرة على القيام بعمل محدد هو صنع العسل ، ولا تستطيع أن تقوم بعمل آخر ، والحال نفسه ينطبق على الحيوانات كلها ، من حيث القيام بعمل واحد محدد، ولو أن الخالق أبقى على عقل الانسان كذلك لما كان هناك سعي لإقامة حضارة متطورة باستمرار. تصوري لو أن قدرة الانسان اقتصرت على بناء بيت أقرب إلى الوكر له ، لما كان هناك حضارة مهما كانت !
- ألهذا أبقى الخالق على حرية العقل والعمل لدى الانسان، وأبقى على طاقة الخلق السارية فيه كمجرد وقود كما هي الحال مع السيارة؟
- أجل وهذه هي العلة الثالثة أو الرابعة المتعلقة بسابقاتها . فحسب ما أسلفت ، هذا ما توصلت إليه عملية الخلق حتى حينه .. ومن ناحية ثانية عقل الانسان متصل بعقل الخالق ، فعقل الخالق مصدر عقول الكائنات كلها ، ولا يمكن أن يوظفه لدى الانسان في اتجاه محدد قد لا يكون الأفضل ، لذلك أبقى على عقل الانسان مفتوحا على الوجود ، للعمل مع عقله الكلي لإقامة الحضارة الأرقى والأفضل وتحقيق الغاية من الوجود . إنّ كل ما يصدر عن العقل البشري متصل بالعقل الكوني ، لكن العقل الكوني لا يدوّن إلا ما هو الأصلح منه ، وحتى هذا الأصلح قد يتم التخلي عنه إذا ما جاء ما هو أصلح منه . إن ما يجري على مدونات العقل هو ما يجري على مدونات مورثات عملية الخلق نفسها .. فكسر رجل انسان ما مثلا، لا يدوّن في المورثات ، لذلك إذا كسرت رجل أب مثلا أو قلعت عينه ، لا يدون ذلك في المورثات ، حتى لا يأتي الابن برجل مكسورة أو بعين مقلوعة .. وسنتطرق بقدر ما من التفصيل حين نأتي على الحديث عن كيفية الخلق .
- لكن بعض الأمراض التي تصيب الانسان تورث ، لماذا ؟
- لأن عوامل داخلية في الجسم الانساني تساعد على استفحالها ونموها. كما أن عملية الخلق بحد ذاتها لم تتوصل إلى حل لهذه المعضلات .. المكتسبات الانسانية مثلا كالمهارات واللغات والمعارف المختلفة لا تورث ، وهذه من سلبيات عملية الخلق أيضا ، التي لم يتم تجاوزها .. حتى خلق الانسان ونموه خلال ثمانية عشر عاما عملية بطيئة تحتاج إلى تطوير .. في روايتي " أديب في الجنة " أوجدت معجزة في عملية خلق الانسان التي ينشدها الخالق، بأن جعلت الملكة نور السماء تحمل ب "سحب السماوات" وتنجبه ويبلغ سن الرشد ، ويحصل على كل المعارف البشرية خلال ستة أيام فقط!
- ستة أيام فقط ؟ يبدو أن الألوهة كلها تجسدت فيه !
- نعم، إنه الانسان الكامل الذي ينشده الخالق، والذي سيفتخر به !
- سأعود إلى مدونات العقل الكوني . هل النظرية النسبية لآينشتاين مثلا مدونة في العقل الكوني ؟
- النظرية النسبية استنبطها آينشتاين من الوجود الكوني ، وليس باختراع ما هو جديد .. النظرية جديدة على العقل البشري لكن ليس على العقل الخالق. العقل الإلهي الكوني هو الذي وضع القوى الناظمة للكون والقوانين المسيرة لها ولعملية الخلق برمتها، بما في ذلك قوى الجذب الكوني التي تقوم النظرية النسبية عليها .
- يا إلهي إذا كان آينشتاين لم يأت بما هو جديد على العقل الكوني ، فكم يحتاج العقل البشري من الزمن ليأت بما هو جديد يفيد عملية الخلق ويغنيها .
- تكمن قيمة آينشتاين وكل من سار على نهجه من العلماء العباقرة ، في أنهم شقوا طريقا جديدا للعقل البشري لفهم ما هية الخالق . والخالق لا ينتظر من العقل البشري ، رغم أنه جزء من عقله ، أن يأتي بما هو خارق جداً في عملية الخلق بيولوجيا وفيزيولوجيا، فقوانين الخلق وضعها الخالق منذ مليارات السنين ، وهو الأقدرعلى تطويرها الذي قد يحتاج إلى مليارات السنين .. غير أنه ينتظر من العقل البشري فهما فلسفيا انسانيا خيرانيا جماليا .. أي نظام حياة كوني يبني الحضارة الأرقى ويقرب الانسان من أخيه الانسان ، ويقرب الانسان من خالقه المتجلي فيه، ليتم التكامل بينهما على أكمل وجه . وليصبح الانسان على قدر الألوهية فيه . لتتحقق بذلك وحدة الوجود الواحد .
*****
تنهدت أسيل من أعماقها وزفرت نفساً طويلا ، وهي تهتف " أي فهم هذا أستاذ محمود؟ محاورك يحتاج ربما إلى أكثر من عقل ، أو عقل كعقل آينشتاين ، وأنا عقلي ليس على هذا القدر .. هل لديك ما تود أن تضيفه إلى هذه الحلقة ؟
- أجل لدي ما أضيفه !
- تفضل .
أخرج محمود أبو الجدايل كتاباً ضخماً من حقيبته وشرع في الحديث :
- قبل بضعة أعوام كتبت بحثا من ثلاثة عشر فصلا بعنوان " ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة " نشرته على شبكة النت ، أحلل فيه شخصية المسيح وصلبه وعلاقته بالألوهة ، لأخلص إلى أن صلب المسيح هو صلب للألوهة ، دون قدرة الله على منع الصلب ، ودون أن يعرف المسيح أن الله غير قادر على منع الصلب ، لذلك رأى أن الله تخلى عنه ، فصرخ بما معناه : إلهي إلهي لماذا تركتني أو لماذا تخليت عني؟ فالانسان ثُقف على أن الله قادر على كل شيء .. وتطرقت إلى الشباب السوريين الذين كانوا يواجهون ذبحهم في المظاهرات بالهتاف : يا ألله ما لنا غيرك يا ألله ! إدراكا منهم أن الله قادرعلى انقاذهم من الذبح .. ولا يدركون بالتأكيد أن الله يتمزق لفجيعتهم وفجيعة السوريين بشكل عام ، ليس لأنهم سوريون وينزفون دما فحسب ، بل لأن الدماء التي تنزف هي دماء الله ، والأجساد التي تنتهك وتذبح هي أجساد الله ، دون أن يستطيع الله أن ينقذهم أو ينقذ نفسه ، وكان يأمل من الآخرين الأقوياء أن يتدخلوا لإنقاذهم ، أو لإنقاذ الله ، أبينا الذي في السموات ( حسب المسيح ) الذي يذبح في سوريا على أيدي القتلة المختلفين والمتعددين ! ولا أنكر أنني حين كتبت ملحمة " غوايات شيطانية " لم أجد غير الله ليلجأ الأديب إليه ، حين راح يشك في أنه واقع تحت غواية شيطانية لن ينقذه منها إلا الله ، فأنشد قائلا من جملة ما أنشده:
إلهي !
مهما مهما كنت
ومهما لم تكن!
لم يبق لي إلا أنت
وليس لي إلا أنت
ولا يدركني إلا أنت
ولا يبصرني إلا أنت
ولا يسمعني إلا أنت
ولا ينصفني إلا أنت
إن كنت أو لم تكن
فلتكن أنت أنا
ولأكن أنا أنت
فليس لي إلا أنت
ليس لي إلا أنت
يا الله يا الله يا ألله
****
كان الأديب في حاجة إلى الله حتى لو لم يكن هناك إله ، ليكون هو الإله لعله يتمكن من انقاذ نفسه .
وحين بدأت بتدوين مشروعي الفلسفي قبل أكثر من ربع قرن ، كتبت ملحمة " الملك لقمان " هذه التي ترينها!!" تطرقت فيها إلى القدرة غير المطلقة للخالق وإن كانت تتطور في اتجاه ذلك نسبيا .. بل وصورت ألم الخالق وعلى لسانه وهو يرى ما يجري لبعض أجزاء جسده الممثلة في الانسان .
كان الملك لقمان يبحث عن الله . جاء إلى كوكب في الفضاء يقام عليه معبد لآلهة وثنية تقدم فيه القرابين البشرية. كان المشهد مرّوعاً ، فقد كانت الجثث تتكدّس على المذابح وتتبعثر من حولها في أشكالٍ عشوائيّة، أو تحرق . جثث أطفال من أعمار مختلفة، وجثث فتيات، وجثث شباب، وجثث شيوخ وجثث نساء، بعضها عارٍ وبعضها شبه عار، وأحواض تفيض بالدّماء حول المذابح، وأناس ينتظرون بوجوه شاحبة بائسة تخيم عليها أشباح الموت.
أطبق الملك لقمان بيديه على رأسه شابكاً أصابعه فوقه، مُخفياً وجهه خلف مرفقيه، جاهداً بكُلِّ قوّته ليمنع صرخة هائلة من الإفلات منه، وما لبث أن رفع رأسه إلى السَّماء فارجاً مرفقيه قليلاً، ليتيح إلى عينيه الرؤية وكأنّه يأمل مشاهدة الله، وراح يصرخ في أعماق نفسه دون أن يعرف أحد ما يدور في مخيلته، سوى الملكة نور السَّماء:
"لِمَ، لِما! لماذا يا إلهي تجعل كُلَّ هذا يحدث، لِمَ تتيح لكُلِّ هذه الدّماء أن تنزف، ولكُلِّ هذه الأرواح أن تقضي، بكم قلبٍ سأحتمل كُلَّ هذه العذابات والآلام، وأنت لم تمنحني سوى قلبٍ واحدٍ ضعيف؟"
وأنزل الملك رأسه وهو يُطبق يديه عليه ويتنفّس بتسارع وعمق لعلّه يسيطرعلى نفسه. غير أنّ جسده كان يتلوّى وكأنّه أصيب بمغص شديد، فسارعت الملكة إلى مواساته، فيما شرع صوت هائل يهتف في دخليته، ليس إلا صوت الله :
"كل هذه الجثث جسدي يا لقمان، وكل هذه الدماء العائمة دمائي، وكُلُّ الأجساد المصلوبة والملقاة في القبور والتي أحرقت جسدي، كل حنجرة قطعت هي حنجرتي، وكل حلقوم نُحر هو حلقومي، وكل قطرة دم سالت هي من دمي، وكل عين فُقِئت هي من عيوني، وكل روح قضت هي من روحي، فكم من الدّماء التي سالت عبر ملايين السّنين من دمي، وكم من الأرواح التي أزهقت من روحي، وكم من العيون التي فُقئت من عيوني، وكم من الأعناق التي قطعت من عنقي، وكم من القلوب التي توقّف نبضها من قلبي؟! لو أنّك عشت مقدار ذرّة من آلامي يا لقمان، لمتّ ألف ألف ألف بليون مَرّة، فهل تراني كنتُ قادراً على منع حدوث كل هذا لي ولم أمنعه؟ هل تراني كنت قادراً على وقف نزيف جسدي ووقفت متفرّجاً عليه؟ هل تراني كنت قادراً على صَدّ الرّماح المنطلقة نحو جسدي ولم أصدّها؟ أم تراني كنت أنعم بمواضيكم وهي تقطّعني إلى أشلاء؟ ورصاصكم وهو يخترق صدري، وقنابلكم وصواريخكم وهي تحيلني إلى رماد وركام؟" ؟!
وتوقف الصوت ليرفع الملك لقمان رأسه المتفجّر المضطرب، ويدور حول نفسه فاغراً فاه مشدوهاً مرسِلاً نظراته إلى الفضاء وهو ما يزال يشبك يديه خلف رأسه، ليهتف متسائلاً بحيرة وذهول مُفجّراً الصوت الذي طالما حبسه في دخيلته:
"لا! أهذا أنت حقاً؟ هل كان هذا صوتك؟ هل هذه الدّماءُ دماؤك، وهذه الأجساد جسدك؟ هل كنتَ في حاجة إليّ بقدر ما أنا في حاجة إليك، وكنتَ تبحث عنّي كما أبحث عنك، فعثرت عليّ قبل أن أعثر عليك؟! أجبني؟ أجبني؟ هل يُعقل أن تكون ضعيفاً بقدر ما أنتَ قوي؟ هل يُعقل أن تموت بقدر ما تحيا، وأن تتألم بقدر ما تحب؟! لا! لا! مستحيل! ساعدوني، أعينوني، ساعدوني،أعينوني، أعيدوا الحياة إلى الله وكفاكم تمزيقاً لجسده وتقطيعاً لأشلائه وطعناً لسويداء قلبه، وإثارة لأحزانه وآلامه "
كانت هذه حال لقمان حين صدمته الحقيقة الفظيعة التي لم يكن يدركها جيدا ، وبالقدر نفسه كانت صدمة المسيح حين وجد أنه كإله غير قادرعلى منع الألم عن نفسه ، فصرخ صرخته العظيمة مخاطباً الإله الأب، الذي يفترض أنه قادرعلى كل شيء : إيلي، إيلي، لما شبقتني؟ أي: إلهي ، إلهي، لماذا تركتني.
- الله القتيل . ألله الجريح . ألله الحزين . الله غير القادر على منع القتل عن نفسه . شكرا أستاذ محمود على هذه المفاجأة الجميلة غير المتوقعة .
- العفو .
- يبدو أننا سننهي الحلقة دون سؤال نؤجل الإجابة عنه إلى الحلقة القادمة "
- لا ثمة سؤال . هل نسيت أننا استبقنا الزمن بمليارات الأعوم لنعيش في الحاضر ؟
- إذن لا بد من العودة إلى الماضي البعيد ، أي إلى ما بعد الانفجار الكبير ؟ مع أن الغوص في بدايات تشكل النجوم والكواكب ومن ثم الحياة مسألة تناولتها العلوم المختلفة.
- لا أحب كلمة الانفجار هذه ، الخالق لا ينفجر، بل يتجلى أو ينبعث !
- الحق معك في هذه المسألة .
- حسنا مشاهدينا الأعزاء .. إلى اللقاء بكم في الحلقة القادمة ضمن أفق المعرفة، ومع "قصة الخلق" كما يراها أديبنا وفيلسوفنا محمود أبو الجدايل وسؤال : ماذا جرى بعد الانبعاث والتجلي الأول للخالق في الوجود ؟
تصبحون على خير وسلام، مع أطيب تحياتي أنا "أسيل القمر" والأديب الفيلسوف محمود أبو الجدايل !
******