علي أسعد وطفة - النزعة الطبيعية في التربية عند ابن طفيل الأندلسي "حي بن يقظان " رائعة الفلسفة والتربية



" العقل... مصباح محمول على الرأس ، البعض يحمله مضيئاً و البعض الآخر يتركه مطفأً "
ابن طفيل الأندلسي

مقدمة :

تدفقت العبقرية العربية الإسلامية بعطاءات فكرية تربوية وفلسفية يندر مثيلها في تاريخ الفكر الإنساني. وقد شكلت هذه العطاءات منطلقا من منطلقات النهضة التربوية في الحضارة الغربية في مختلف تجلياتها. وفي التربية كما هو الحال في الفلسفة وغيرها نجد نوعا من الطفرات الإبداعية العبقرية التي ما زالت تحظى بإعجاب المفكرين وتثير دهشتهم. وليس في قولنا أي نوع من التعصب القومي إذا قلنا بأن النزعة الطبيعة في التربية كانت منذ البدء عربية الهوية إسلامية التكوين. وأن ابن طفيل الأندلسي في رائعته الخالدة "حي بن يقظان" يمثل الأب الروحي للنزعة الطبيعية في التربية ورائدا لها في القرن الرابع عشر أي قبل ولادة جان جاك روسو بأربعة قرون. وليس في هذا القول تجنيا على الحركة الطبيعية التي شهدناها في القرن الثامن عشر بزعامة جان جاك روسو زعيم النزعة الطبيعية في عصره. وإن كان روسو قد قدم للإنسانية نسقا نظريا متكاملا وأصيلا لهذه النزعة فإن ابن طفيل نسج خيوطها الأساسية وغرس بذورها الأولى، ولا يستطيع احد في دنيا المعرفة أن ينكر هذه الحقيقية الصارخة في الفكر الإنساني.​

ومما لا شك فيه أن روسو يختلف عن ابن طفيل في نبل الغايات والأهداف، فجان جاك روسو كان منظّرا ومفكرا تربويا شغلته هموم التربية والسياسة بالدرجة الأولى، في الوقت الذي كان فيه ابن طفيل فيلسوفا يؤسس لنظرية معرفية تتجاوب مع أهم القضايا الفلسفية المطروحة في عصره. وابن طفيل في رائعته "حي بن يقظان" كان يواجه تحديا فلسفيا يتمثل في مسألة التوفيق بين المعرفة الدينية والمعرفية العقلية. ومهما يكن الأمر فإن بن طفيل الأندلسي يعد أول من قدم للإنسانية نسقا فكريا أدبيا فلسفيا يستعرض فيه أهمية الطبيعة ودورها في بناء العقل والإنسان وتشكيل الرؤى الشمولية للوجود والكون.​

ولد أبو بكر محمد بن عبد الملك بن طفيل القيسي الأندلسي في وادي آش Gudix حاليا وهي منطقة تبعد حوالي 55 كلم عن قرطبة في أسبانيا. ويختلف المؤرخون في تحديد تاريخ ميلاده ولكنهم يحددون الفترة الزمنية التي ولد فيها ما بين عامي 495 و 505 هجرية. ولا يذكر المؤرخون شيئا ذي أهمية عن منشئه وأسرته وحياته الخاصة وطفولته ([1]).

كان ابن طفيل فيلسوفا ومفكرا موسوعيا، ويقدمه المؤرخون لنا قاضيا وفقيها وطبيبا وفيلسوفا وفلكيا. وقد عرف بشأنه الكبير عند السلطان أبو يعقوب يوسف القيسي حيث تقلد وزارته. وكان السلطان أبو يعقوب يوسف القيسي شغوفا بالمعرفة والعلم والأدب يقرب إليه العلماء والفلاسفة وأهل الرأي حيث حظي ابن طفيل بمكانة كبيرة في إمارته، فكان ابن طفيل كاتبه ووزيره وطبيبه ومستشاره وجليسه. وإليه يعود الفضل في تقديم ابن رشد للأمير أبو يعقوب يوسف القيسي والثناء عليه والمشورة بتعيينه قاضيا في دولته. وبقي ابن طفيل في بلاط السلطان أبو يعقوب يوسف القيسي على عظم مكانته حتى تقدمت به السنون وطعن في السن فتخلى عن وظيفته في الطب والوزارة والقضاء لتلميذه الفيلسوف المشهور ابن رشد. وقد توفي رحمه الله عام 581هـ/1185 ميلادية في مدينة مراكش ودفن فيها.

أودع ابن طفيل الأندلسي أفكاره التربوية وخلاصة تصوراته الفلسفية في عمله المشهور حي بن يقظان الذي طبقت شهرته الأفاق في عالمي الفلسفة والأدب. وقد وصف كتابه هذا بأنه قصة في فلسفة وفلسفة في قصة حيث كتبت بأسلوب أدبي ساحر وأخاذ. ويشكل كتابه هذا بالمقياس الأدبي رائعة أدبية فذة تأخذ مكانها بين أروع إبداعات الأدب العالمي. ويصف عبد الكريم اليافي هذه الرائعة بأنها " لؤلؤة من أجمل لآلي الفكر العربي الإسلامي". هذا وتمثل رائعة ابن طفيل "حي بن يقظان " نوعا من المغامرة العقلية لابن طفيل واستجابة للحوار الفلسفي الدائر في زمنه حول العلاقة ما بين العقل والنقل أو ما بين الدين والفلسفة ومدى قدرة العقل الخالص في الوصول إلى الدليل القاطع والحجة الدامغة بوجود الله جلّ جلاله([2]).

بعض النقاد يرجعون الأصل القصصي لحي بن يقظان إلى أسطورة يونانية قديمة وإلى عهد الإسكندر المقدوني تحديدا ، ومهما يكن أمر الأصل في هذه القصة فإن النقاد والمؤرخين يؤكدون أن ابن طفيل هو مبتكر هذا الأسلوب القصصي البديع ، وهذا ما يؤكده الفرنسي غوتييه مترجم هذه القصة إلى الفرنسية([3]). وليس غريبا أن يكون ابن سينا قد كتب قصة تحمل الاسم نفسه باحثا فيها عن طبيعة الصراع بين العقل والشهوة. ثم نجد هذا العنوان مرة أخرى لقصة حاك فصولها السهرودي في محاولة منه للبحث أيضا عن قضية الصراع الوجودي بين الشهوات ووصول الإنسان إلى حالة الكشف والاتصال بعد تحرره من ضغط الشهوة وإكراهات الميول المادية. وهذا كله يعني أن هذا العنوان قد تصدر مجموعة من الأعمال التي تختلف مضامينها باختلاف العصور واختلاف الغايات.

ويؤكد المؤرخون والنقاد بأن قصة حي بن يقظان لابن طفيل كانت من أكثر كتب الدنيا انتشارا. لقد ذاع صيت هذه القصة وتلقفها الأدباء والعلماء والمفكرون في الشرق والغرب فانكبوا على قراءتها والبحث في معانيها واستشراف غاياتها وقد أدهشهم أسلوبها الأدبي الساحر وأغرقتهم فصولها بالمعاني الفلسفية والإشراقات الأدبية فكان لها شأن ينقطع نظيره في تاريخ الفكر الإنساني. لقد ترجمت هذه القصة إلى أغلب لغات العالم تقريبا ويندر أن تغيب معاني هذه القصة عن عالم أو فيلسوف أو أديب منذ القرن الرابع عشر حتى المرحلة الحاضرة.

يبين ابن طفيل أن الدافع الذي ألهمه كتابة هذه القصة سؤال أثاره أحد المهتمين بقضايا الخلق والنشوء والارتقاء الذي طلب منه وضع إجابة عن سؤال يتمحور حول أصل المعرفة الإنسانية، وقد قدر لهذا السؤال أن يفجر عبقرية ابن طفيل وان ينهض بإشراقاته الفلسفية وحدوسه الإنسانية، فتجلت في إبداعه العبقري لهذه القصة، التي شكلت إجابة حيّة عن تساؤلات السائل، وتلبية لفضول العالم في ميدان النشوء والارتقاء وتكون المعرفة. ويصف ابن طفيل الحالة الاشراقية التي اعترته وهو يتأمل في هذا السؤال بقوله " وانتهى بي هذا السؤال إلى مبلغ من الغربة بحيث لا يصفه إنسان، ولا يقوم له بيان (...) غير أن تلك الحال لما لها من البهجة والسرور واللذة والحبور، لا يستطيع من وصل إليها وانتهى إلى حد من حدودها أن يكتم أمرها أو يخفي سرها، بل يعتريه من الطرب والنشاط والمرح والانبساط ما يحمله على البوح بها مجملة دون تفصيل، وإن كان ممن لم تحذقه العلوم قال فيها بغير تحصيل"([4]).

لقد أراد ابن طفيل لهذه القصة أن تكون أفضل وسيلة يمكنه فيها أن يصل إلى عقول العامة من الناس وأن يثقف الفئات الاجتماعية في عصره ثقافة فلسفية تتميز بالدقة والأصالة عبر حكاية فلسفية مشوقة وجذابة. وكأننا به أراد أن يراهن بأن عامة الناس قادرة على التعامل مع الشأن الفلسفي عندما يتمكن الفيلسوف من مخاطبة الناس بأسلوب سهل وبسيط وجذاب. وهل هناك أبسط من هذه الحكاية التي يقدمها للناس في قصة حي بن يقظان وهي القصة التي تمتلك في ذاتها على مختلف عناصر التشويق والإثارة؟ إن في قصة حي نوع من التحدي والرهان الكبير حول قدرة الفيلسوف على مخاطبة الناس عامتهم قبل خاصتهم. ولا غبار على ذلك فإن العامة كانوا يعانون من نظرة دونية عبثية مصدرها أهل الفلسفة والعلم. ولذلك فـإن الفلاسفة كانوا يكتبون أفكارهم بلغة معقدة مركبة تفوق إمكانية العامة وقدراتها. ومن هنا يأتي رهان ابن طفيل الذي حاول أن يؤصل الفلسفة في العقل العام وأن يدعوا الجماهير للمشاركة في الموقف الفلسفي وفي الصراع الدائر بين الفلاسفة في عصره حول طبيعة الحقيقة.

فابن طفيل في رائعته هذه يضع العامة أمام قدر التنوير ويحاول أن يخرجها من قوقعة الحصار الذي كان يفرضه الفلاسفة على عقل الناس من غير أهل الاختصاص. وهنا يمكن الاعتقاد بأن ابن طفيل كان منوّرا جماهيريا وكان يدرك أن تقدم الأمة لا يكون إلا بتقدم العقل العام ومن هنا اجتهد في تقديم الحقيقة في قالب قصصي فيه جمال وروعة وجذب وتشويق وإثارة. وكان في ذلك نوع من التحدي الذي يريد فيه إسقاط أيديولوجيا النخبة وأوهامها وأن يرفض ازدراء العامة واحتقارها من قبل الخاصة في عصره. وقد رأينا أن الباعث على كتابة هذه القصة كان سؤال وهو سؤال ونحن نفترض مصدره بأنه كان سؤال العامة من الناس لا بل هو سؤال كل العامة في عصر تحرق فيه الكتب وتحدث الحوادث وتنزل بالعلماء النوازل دون أن تعرف العامة حقيقية ما يجري في عالم فكري يتصف بالغرابة ويثير لديهم العجب.

بين حي بن يقظان وروبنسون كروزو:

يقابل الأدباء والمفكرون غالبا بين رائعة «دانييل ديفو» Daniel De Foeالمعروفة «روبنسون كروزو» Robenson Crousoe ورائعة ابن طفيل في حي بن يقظان . ويعتقد كثيرون أن دانييل ديفو قد اقتبس ومض رائعته هذه من صلب التصورات العبقرية التي جاءت في قصة حي بن يقظان. فروبنسون كروزو عاش كما هو حال حي منفردا وحيدا في جزيرة، لكنه وصل إليها بعد أن تحطمت سفينته على صخور الجزيرة، حيث يستطيع الوصول إلى شاطئ الجزيرة عوما بعد أن أعياه الجهد وأسقطه التعب نائما مرهقا من شدة الإعياء. وعندما أفاق روبنسون كروزو من غيبوبته صعد إلى تل قريب مستكشفا حوله في مطلب للأمن من الحيوانات المفترسة والمخاطر المحتملة التي قد تهدد حياته. وبعد أن يشعر بتوفر الأمن يتابع روبنسون كروزو البحث عن أولويات الوجود من مأوى ومن طعام. فهاهو يعود عوما إلى حيث سفينته الغارقة، ليأخذ منها ما يمكن أن يحتاج إليه، وينقله إلى الجزيرة، و تعد رواية «روبنسون كروزو و» من الروائع الأدبية وحالها كحال قصة حي بن يقظان فهي رواية رفيعة المستوى، وقد لقيت مذ طبعت إقبالا منقطع النظير، وتم تبسيطها في عدة طبعات.. وهي تسلط الضوء على الفرد حين يعيش وحده في عزله وها هو روبنسون كروزو و يحفر على شجرة تاريخ وصوله، وصنع لنفسه «أجندة» حتى لا تكرّ الأيام وتمرّ دون أن يدري بها. ونحن هنا كما هو جلي وواضح أمام شخص له تجارب شخصية، بالغة الأهمية فقد وصل الجزيرة كبيرا، ولم يولد عليها كما حدث مع حي بن يقظان.

لقد تغير سلوك حي بن يقظان بوصول آبسال، كما تغير سلوك روبنسون كروزو جذريا بوصول "فراي داي" أو جمعة - لأنه وصل في يوم جمعة فأطلق عليه هذا الاسم - وكان طريفا أن يعيد أحدهم رواية قصة «روبنسون كروزو» كلها من وجهة نظر «جمعة» ليكشف لنا عنصرية روبنسون كروزو و الذي استعبد الوافد الجديد واستغله أسوأ استغلال. وأظننا ونحن نتعرف على الأعمال الأخرى قد أدركنا الفارق الشاسع فيما بينها وبين حي بن يقظان الذي يمثل ذروة من ذرى الأدب الإسلامي ونموذجا فريدا عظيما في مجاله، وما من سبيل لمقارنة الأعمال الأخرى به، لأنه يقف بينها شامخا وعملاقا، إذ لا قدرة لأحد على تقليده فكريا، لأنهم يكتفون بالظاهر. أما الجوهر العميق فهو يحتاج إلى غواص ماهر، يكتم أنفاسه تحت الماء ليخرج علينا بهذه اللؤلؤة المبهرة.

الجانب الفلسفي في قصة حي بن يقظان:

يستخدم ابن طفيل الرموز والأساطير في إبداع رائعته الأدبية " حي بن يقظان" وهو يضع فرضتين رمزيتين لأصل حي بن يقظان وولادته واستقراره في جزيرة من جزر الهند. في الافتراض الأول يرى ابن طفيل أن حي توّلد من الطين بلا أم ولا أب، وفي الافتراض الثاني يرى أن حي هو طفل غير شرعي لأبوين في جزيرة قريبة تزوجا دون علم الملك فوضعا حي عند ولادته في قارب صغير استقر على ضفاف الجزيرة فتلقفته غزالة كانت قد فقدت وليدها فأغدقت عليه عطفها وحنانها وتعهدته بعنايتها حتى استقام له الأمر وشب عن الطوق. ويمضي ابن طفيل مع الافتراض الثاني، حيث عاش حي وترعرع في الجزيرة بين الطيور والحيوانات وبدأ يكتشف نفسه والعالم الذي حوله عن طريق التأمل والتفكير، وسرعان ما بدا يطرح الأسئلة الفلسفية الكبرى التي تتعلق بالمعقولات وبأصل الوجود، وفي غمرة تأملاته العقلية واستغراقه الكامل في النظر والتفكير لاح له العالم الروحاني بصوره التي لا تدرك بالحس بل تقبل ذلك بالنظر العقلي والحدس واستطاع حي بمحض فطرته وصدق طويته اكتشاف العلاقة بين العلة والمعلول والفاعل والمفعول بين الوجود وواجب الوجود وبرهن على أن الكون واحداً في الحقيقة وأن هذه الوحدة ناجمة عن وحدة الخالق ووحدة التكوين. وبدأ عقله ينقدح تساؤلا في ماهية الخلق والخالق وقدم الخلق وحدثانه وراح يتساءل هل هو شيء حدث بعد أن لم يكن أم أنه خرج إلى الوجود بعد العدم ؟ أم أنه أمر كان موجوداً ولم يسبقه العدم؟ وقد تبين له بالحجة العقلية الدامغة أن لكل حركة محرّك ولكل مخلوق خالق وأن الخالق هو رب العزة خالق الخلق وباعث الرزق وهو الله رب العالمين سبحانه وتعلى جل جلاله وعزّ كماله. واكتشف بعين العقل وحكمة النظر أن الخالق روح مطلق ونور محض خالص لا بل هو نور لا كالأنوار إذ هو بريء عن المادة منزه عن الصور عظيم بقدرته. وذهب به التأمل وأخذته الفطنة الربانية إلى القول بحدوث العالم بعد أن لم يكن وأن الله أخرجه إلى الوجود وأنه هو القديم الأزل الذي لم يزل.

وهذا يعني أن ابن طفيل قد اكتشف عظمة الخالق ووحدانيته وعظمته وقدمه وحدوث العالم وصيرورة الوجود ونزهه الباري عز وجلّ عن الصورة والصور ووحده ونزه دون أن يلجأ في ذلك إلى معرفة سابقة وكان تنزيه الباري والكشف عن طبيعة خلقه بمحض التفكير والتأمل والعقل الذي وهبه الله سبحانه وتعالى للإنسان. فالعقل يكتشف الحقيقية منفردا وتصفو له المعقولات بعيدا عن النص والرسائل والوحي. وهذا يعني ان الله وهب الإنسان عقلا وأن عقل الإنسان قادر على الكشف وألا تناقض هنا ما بين الحقيقة الدينية والحقيقة الإيمانية وأن الدين والعقل يتكاملان في الكشف عن الله وعن خلق الوجود. وهنا يريد ابن طفيل أن يعيد الاعتبار للفلسفة والعقل في لجة الصراع بين العقل والنقل والفلسفة والدين. وبعبارة أخرى يريد المصالحة بين الدين والفلسفة والعقل والإيمان ويريد أن يحقق التوافق بينهما في ردّ مستتر يتسم بعبقرية الإجابة عن سؤال العقل والإيمان.


حظيت رائعة ابن طفيل باهتمام كبير في أوروبا والعالم، وتقاطرت عليها الدراسات الفلسفية والتربوية والأدبية، ولطالما بحث الدارسون عن وجوه الشبه بينها وبين مثيلاتها من القصص الفلسفية الأوروبية، وقد بينت هذه الدراسات النقدية أن الأحداث الدرامية في قصة حي موجهة بوضوح تام لخدمة هدف فلسفي شُغل به العصر الذي عاش فيه ابن طفيل، إذ لم يكن ابن طفيل قادرا في قصته هذه على التحرر من سلطة مذهبه الفلسفي لأنه يعرف الهدف الذي يمضي إليه ويدرك الحقيقة الفلسفية التي يسعى إليها. وهو من أجل التوفيق بين ينبوعي المعرفة المتمثلين في الفلسفة والوحي يستقدم في قصته رجلين من خارج الجزيرة هما أبسال وسلامان حيث يمثل أحدهما رمزا للتعمق الروحي الغواص على المعاني، وثانيهما رمزا للمذهب الظاهري الذي لا يحب التأويل، وأراد بالحوار الذي يجري بين هذا الثالوث المختلف في النزعة والاتجاه أن يحقق هذه المصالحة بين الفلسفة العقلية وبين النصوص الدينية، ويتضح أن ابن طفيل كان في دائرة هذه العلاقة يعلي من شأن الفيلسوف المؤمن لأنه يستطيع دون توسط النص أن يصل إلى غايته في فهم الكون وإدراك أسراره الخفية. فبعد حوار معمق بين حي وأبسال وسلامان يكتشف الجميع أنهم يمتلكون حقيقية واحدة في فهم الكون ويدركون سر الأسرار متمثلا في توحيد الذات الإلهية العليا إدراكا للذات ومعرفة بالصفات.

الجانب التربوي:

لا تقل المعاني التربوية في أهميتها عن المعاني الفلسفية في قصة حي بن يقظان. فالقصة تتضمن فيضا ساحرا من المعاني والمواقف التربوية. ويمكن القول في هذا الصدد بأن قصة "حي بن يقظان " تنطوي على نظرية تربوية متكاملة الأنساق في مستوى المنهج والطريقة والتطبيق. ويمكن أن نقول ومنذ البداية بأن هذه النظرية تأخذ المنحى الطبيعي في التربية وتريد أن تؤسس لكل عطاء فكري تربوي لاحق في مجال التربية الطبيعية. فالأحداث تبدأ في الطبيعة في هذه القصة لا بل أن الحياة تنشأ بفعل طبيعي وهذا ما يبادئنا به ابن طفيل في واحد من فرضيتين حول منشأ حي من الطين في الجزيرة وأية بداية طبيعية أكثر عمقا من هذه التي يدون لها بسبق ضمني صريح على دارون في كتابه أصل الأنواع.
المرحلة الأولى حي والظبية:

وعندما يبلغ الطفل الحولين من العمر في هذه المرحلة يتعلم حي عن طريق التقليد والمحاكاة للطيور والحيوانات الأخرى، وتظهر لديه الانفعالات الأولى مثل: الخوف والاستغاثة والقبول والرفض. وكان له ذلك بمساعدة الظبية التي وفرت له أصوات الحيوانات المعبرة عن نقل الانفعالات مثل الاستصراخ والاستئلاف والاستدعاء والاستدفاع "([5]). ومع أن حي لم يبلغ العامين من عمره إلا أنه في هذه المرحلة أصبح مهيأ للحياة ومستعدا لها.



المرحلة الثانية:
وتمتد هذه المرحلة من السنتين حتى السابعة من العمر. وفي هذه المرحلة يبدأ حي يتجاوز مناحي ضعفه وقصوره ويصبح قادرا على أداء بعض الأدوار الضرورية للحفاظ على وجوده واستمرارية حياته. وفي هذه المرحلة يتمكن حي من استخدام الملاحظة والمقارنة والمشاهدة والتأمل. وبدأ يفهم معنى وحدة الذات والهوية وانفصاله عن الآخرين ويكتشف الفروق بين الكائنات الحية التي تحيط به. وبدأت أيضا في هذه المرحلة تظهر لديه بعض العواطف السلبية والإيجابية تجاه الأشياء.​

المرحلة الثالثة:
وتبدأ هذه المرحلة من السابعة حتى الحادية والعشرين من العمر، وهي من أطوال مراحل النمو عند حي وهي بالتالي تشكل نوعا من الاستمرارية المؤسسة على المرحلة السابقة والتي تؤسس لمرحلة لاحقة. ففي مستوى الجسد استطاع حي أن يدرك التكامل القائم بين الروح والجسد وبدأ يفهم ماهية كل منهما. فالروح كما يدركها هي أسمى من الجسد والجسد آلة الروح ومسكنها. وتبلغ معرف حي عن العلاقة بين الجسد والروح غايتها القصوى ويتفهم وظائف الأعضاء وطبيعتها.
وفي المستوى العاطفي تتمحور عواطف حي ونوازعه الانفعالية نحو الظبية التي منحته نسغ الحياة. وقد تعلم من الغراب عملية الدفن دفن الجثث الميتة ومواراتها في التراب. وقد فعل ذلك عندما ماتت أمه الظبية ولكن حبه يقي وجدا روحيا شمل جميع الظباء في الغابة لأنه كان يرى صورة أمه في جميع الظباء. وذلك هو الحب الروحي الذي يعم ويسمو ويأخذ انطلاقاته الرمزية. وفي المستوى العقلي نجد أن حي يحقق تقدما لا يستهان به في مجال التفكير والتأمل والنظر في قضايا الكون والوجود والحياة. واستطاع في هذه المرحلة أن يكتشف علاقات كثيرة أهمها:
- الكشف عن العلاقات بين أشياء متنافرة ومتضادة مثل علاقة الروح بالجسد.
- عرف أن الإدراك يتم عن طريق الحواس وأن تعطل حاسة ما يؤدي إلى تعطل وظيفتها الإدراكية.
- إدراك طبيعة الحركة من الأعلى إلى الأسفل ومن الأسفل إلى الأعلى. كما أدرك خصائص المادة الهندسية التي تتعلق بالعمق والطول والعرض والارتفاع.
- الكشف عن خصائص المادة وأصولها التي تعود إلى الماء والهواء والتراب والنار.
- الكشف عن مبدأ العلية والسببية بين الظاهر الطبيعية.

المرحلة الرابعة:
وتبدأ من الحادي والعشرين حتى الثامن والعشرين من عمر حي.


تأخذ هذه المرحلة مشروعيتها من المرحلة السابقة وتمثل استمرارا لها. وفي هذه المرحلة يفكر حي بالموضوعات السماوية أي في الأفلاك والأجرام والنجوم ثم في قضايا العالم في أصل العالم وفي قدمه وحدوثه والعلاقة بين المادة والصورة والبحث عن مبدأ العلّية. وفي هذه المرحلة يدرك بأن تحرر الإنسان من ثقل المادة وشهوات الجسد يمكنه من تحقيق التواصل مع الكليات ومعرفة المعقولات وبالتالي تحقيق السعادة الكلية. وهذا يعني أن حي قد بلغ أقصىا درجات المعرفة.

المرحلة الخامسة:
وهي المرحلة التي تقع بين الثامنة والعشرين والخمسين من العمر.
يبلغ حي من النضج العقلي مبلغا عظيما ويصل إلى السعادة الكبرى. وسبيله إلى هذه السعادة التحرر من ربقات الجسد ومن الرغبات والشهوات واعتماد الرياضة الفكرية. وهنا يصبح حي صوفيا إشراقيا يتحد مع الكون الأعظم ويدرك معنى الألوهية ويوحد الله عزّ وجلّ وينزهه. وفي هذه المرحلة يلتقي بأبسال وسلامان ويدور ما يدور بينهم من جدل حول الحقيقة والغايات الكونية المطلقة، ويعرف الثلاثة أن ما يكتسب بالوحي يمكن أن يكتسب بالعقل وأنه ليس هناك من تعارض بين الدين والفلسفة في اكتناه الحقيقية والوصول إلى غاية الكشف الكلية.

وعلى الرغم من عودة أبسال وحي إلى المدينة لهداية المجتمع ولكنهما يمنيان بالفشل ويعترفان بصعوبة تنوير الناس بالحقائق الكلية وتخليصهم من عذابهم الأبدي فعادا مهزومين مدحورين إلى الجزيرة أملا بالخلاص وعزفا عن الدنيا وتوجدا بالمعرفة واتحادا مع الحقيقية وإيمانا بالله المنزه عن المادة والصفات. وهذا يعني العودة إلى الطبيعة حيث الصفاء والنقاء والانقطاع إلى عبادة الله عز وجل جلاله([6]).

منهج ابن طفيل التربوي:

يؤكد ابن طفيل على أهمية الاستعدادات العقلية والانفعالية عند الإنسان. فالإنسان يمتلك قابلية التعلم والإدراك بالفطرة السليمة وعلى هذا الأساس تمكن حي من إدراك المحسوسات والمعقولات إدراكا يتصف بالتمام والكمال. لأن عقل حي كان مهيأ باستعداد فطري للكشف عن طبيعة الحقائق والعلاقة الجوهرية بين الأشياء: بين الخالق والمخلوق ، بين الجسد والروح، بين المتشابهات والمتناقضات، وبين القضايا المتقابلة والمتعاكسة. ومع ذلك كله فإن هذه المعرفة لا تحدث بصورة عفوية كيفما اتفق بل تحدث عبر منهجية عرفانية ترتبط بالعمر والخبرة والتجربة والبيئة. فالطبيعة عامل كشف وإلهام وهي التي تصقل الفطرة وتنمي فيها انقداحات المعرفة وبفضل التجربة الطبيعية لحي تمكن من الكشف عن ماهية الأشياء وطبيعة المعقولات. ويبين ابن طفيل المنهجية التي يعتمدها حي في كشفه وفي اشراقاته العقلية. ويتكون هذا المنهج العرفاني من الخطوات التالية:
أولا – الانتقال من البسيط إلى المركب في معرفة الكائنات والمخلوقات والأشياء. إذ كان حي ينتقل في عملية المعرفة من السهل إلى الصعب ومن البسيط إلى المركب.
ثانيا- الانتقال من الظاهر المحسوس إلى الباطن. وتلك هي حالة حي عندما ماتت الظبية حيث كان يبحث في ظاهر الأمر، فلم يعرف سببا لموتها ولكنه افترض غياب الروح فيها وهي كينونة لا تشاهد بالعين المجردة ولو كانت كذلك لشاهدها.
ثالثا – الانتقال من المحسوس إلى المعقول وهذا يشمل إدراك حي لمبدأ السببية والعلّية ومبدأ الوحدة والكثرة ثم ماهية الأشياء ومكنوناتها.
رابعا – الانتقال من الجزئي إلى الكلي ومن الخاص إلى العام وهذا يدل على المعرفة الاستقرائية التي ينتقل فيها الإنسان من الملاحظات الجزئية إلى القانون العام الذي يشملها
[7].
يشكل مذهب ابن طفيل في حي بن يقظان ينبوعا متدفقا للفكر الطبيعي في الفلسفة والتربية، ويعد بحق علاّمة التربية الطبيعية وربان المذاهب الطبيعية المختلفة التي شهدتها أوروبا في القرن الثامن عشر على يد المفكر الفرنسي جان جاك روسو في كتابه إميل. ويقرّ كثير من النقاد بأن روسو كان قد نهل من معين الفكر الطبيعي عند ابن طفيل وأنه قد قرأ بتمعن كبير قصة حي بن يقظان واطلع على مضامينها واستفاد منها في تشكيل نظريته الطبيعية في التربية والسياسة. ففي كل منحى من مناحي فكر ابن طفيل تطالعنا الطبيعية بجمال تكوينها طاقة سامية خلاقة تمكن حي من الوصول إلى أقصى غايته وأنبل طموحاته الإنسانية بوصفه مفكرا أنسيا عاقلا وحكيما.

لقد تلقفته الطبيعة في المهد ووفرت له ما يناسبه من الحنان والرعاية عبر الجزيرة والظبية والطيور والأشجار والثمار. فأيقظت فيه هذه الطبيعة حب التأمل والتفكير فولدت فيه فضول العارفين وانطلقت به إلى الحلم الكبير الإدراك الصوفي الاشراقي للعالم والكون.

فالتربية يجب أن تكون طبيعية لأن ابن طفيل عاش في أحضان الطبيعية وتغذى من عطائها وتعلم منها فن التفكير والحياة والعمل والتأمل والنظر والبحث عن ماهية الأشياء. ويلاحظ في هذا السياق أن ابن طفيل يؤكد في نسق تصوراته أن الطبيعة كافية بذاتها لتربية الإنسان وقادرة على أن تأخذ به إلى أكثر معالم الرشد والمعرفة الإنسانية تقدما.

ويعتقد ابن طفيل مرة أخرى أن الطبيعة خيرة لا شر فيها ، وليس ثمة نزع شر أصيل في النفس الإنسانية. كان حي خيرا بفطرته وكانت الطبيعة حاضنه الذي ينضح بكل الخير وبين لقاء الطبيعة والطبيعية بين طبيعة حي وطبيعة الجزيرة امتلك حي زمام نفسه نحو الخير المطلق. فالعلاقة هي جدل طبيعي بين الخير الذي يتأصل في كل طبيعة. وتلك هي الطبيعة الأم التي يلجأ إليها الإنسان عندما يحاصره الفساد والظلم والقهر في المجتمع. وكأن ابن طفيل كان يرى في الطبيعة ملاذا ومنهجا يمكّن الإنسان من العودة إلى أصالته الخيرة والتحرر من أثقال المجتمع التي تنذر بالفساد.

وباختصار فإن ابن طفيل يرسم في كتابه هذا ملامح نظرية طبيعية في التربية متعددة الاتجاهات بعيدة الغايات تحمل في ذاتها نسقا يفيض بتصورات فلسفية وإنسانية تتميز بطابع الشمول والأصالة.
خلاصة نقدية:


لا يمكن أن تحاكم قصة حي بن يقظان بوصفها رؤية فلسفية محضة، ففي القصة ما يفوق الخيال وما يضاهي الأسطورة. ومهما تكن الحال فإن بعض الأفكار التي وردت فيها يمكن أن تقدم على منصة النقد والمحاكمة. والنقد الكبير الذي يمكن أن يوجه إلى هذه النظرية في المستوى التربوي أن النظريات والدراسات التربوية الحديثة تبين بالأدلة القاطعة أن الإنسان لا يصير إنسانا إلا بالتربية، والتربية هنا ليست هي التربية الطبيعية التي يريدها ابن طفيل بل هي التربية التي تتم في الحاضن الاجتماعي. لقد بينت الأحداث التاريخية التي تتصل بالأطفال المتوحشين والأطفال الذئاب أن هؤلاء الأطفال نتيجة العزلة الطويلة قد فقدوا خاصتهم الإنسانية. وبعد تجارب ومحاورات عديدة وسنين طويلة من إعادة تربية هؤلاء الأطفال لم يتمكن المربون والمتخصصون من إعادتهم إلى الحظيرة الإنسانية وأكثرهم وقف عاجزا حتى عن تعلم الكلام. فالإنسان كما تثبت النظريات الحديثة ليس ماهية مطلقة نهائية ولا يمكن للفطرة أن تحكمه في صيرورته الإنسانية بل هو محكوم بفعل تربوي يجب أن يكون اجتماعيا لكي يصبح الإنسان إنسانا بالمعنى الحقيقي للكلمة. وباختصار فإن الجملة العصبية مفتوحة على كل الاحتمالات فالأطفال الذئاب الذين عاشوا في كنف الذئاب تحولا إلى ذئاب حقيقية ، ذئاب تنطلق على أربع أقدام وتعوي وتأكل الجيف ولا تستطيع أن تسير مستقيمة على قدميها ولا يمكن تعليمها إلا بعض الكلمات. وتلك هي حالة الطفلتين الذئبتين آمالا وكامالا اللتين اكتشفتا في الهند إبان العهد الاستعماري. وتلك هي حالة طفل الإيفرون البري الطفل الذئب. وتلك هي حالة كثرة كاسرة من الأطفال الذين عاشوا في عزلة عن المجتمع لفترات طويلة. قد يدرك ابن طفيل هذه الحقيقة وقد لا تكون غائبة عنه وإن كان يريد في قصته هذه ربما أن يؤكد دور الطبيعة لأن ما يرويه ويؤكده هو قصة من نسج الخيال وهي قصة خيالية حمّالة لمعاني فلسفية أراد أن يحييها في عقل الناس وفي قلوبهم.

ومهما يكن الأمر فإن ابن طفيل كان سباقا إلى القول بأهمية الطبيعة في التربية وكان سبقه أعظم في تحديد كثير من المعاني والمفاهيم والتصورات التي تطل علينا في النظريات الأحدث في عالم التربية. وحري بنا أن نأخذ مضامين هذه النظرية وأن نتأمل في هذه العبقرية التي أبدعتها وأن نقف بخشوع أمام مفكر عظيم وخالد ترك صداه الفكري والفلسفي والتربوي في مختف أصقاع الدنيا. إنه المفكر والفيلسوف الذي أدهش المفكرين والعلماء في زمنه وفي زمن غيره بعطائه الفكري ورائعته الأدبية التي حملها قبس روح حضارية تطل علينا من القرن الرابع عشر لتؤكد عظمة الحضارة العربية الإسلامية التي ننتمي إليها.

================================================================

هوامش الدراسة :
[2] - أنظر: حي بن يقظان لابن سينا وابن طفيل والسهرودي، تعليق وتحقيق أحمد أمين، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الخامسة، دمشق،2001.
[3] Leon Gautier , IbenThifail. sa vie , Ses œuvres , Paris ,1909. الترجمة الفرنسية لقصة حي بن يقظان
[4] - ابن طفيل الأندلسي، حي بين يقظان، تقديم وتحقيق فاروق سعد، بيروت 18980، ص 106.
[5] عبد الأمير ز.شمس الدين، الفكر التربوي عند ابن طفيل الأندلسي في كتابه حي بن يقظان، الشركة العالمية للكتاب: دار الكتاب العالمي، الدارالإفريقية العربية، بيروت، 1990، ص 26.
[6] - انظر: محمد الفرحان، الخطاب التربوي الإسلامي، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، 1999، صص 127-137.
[7] - انظر ، حي بن يقظان لبن طفيل ، تقديم وشرح علي بو ملحم ، دار ومكتبة الهلال ، بيروت ، 1999.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى