أمل الكردفاني- تفسير الماء بالماء..هل هو خطأ؟

تفسير الماء بالماء..هل هو خطأ؟



قال ابن سودون الشاعر الهزلي:

الأرض أرضُ والسماء سمــاءُ
والـماء ماء ُوالهواء هواءُ
والبحر بحر والجبال رواسخُ
والنور نور والظلام عماءُ
والحر ضد البردِ قولٌ صادقٌ
والصيف صيفٌ والشتاءُ شتاءُ
كلُّ الرجالِ على العمومِ مذكرٌ
أما النساءُ فكلُّهن نساءُ

وقد سخر الناس من مثل هذه التفاسير، والتعاريف (ميز دولوز بين التفسير والتعريف ليس هذا محل تفصيله وسنستخدمهما كمترادفين)، فقال البعض: قد فسر الماء بعد الجهد بالماء.
وسنرى في قانوننا الجنائي مثل هذا الهزل الكثير، (وهذه أيضاً ليست سانحة تناسب التفصيل).
ولكن هل حقاً يعتبر تفسير الماء بالماء قضية هزلية، تنم عن غباء المفسِّر وبلادته؟
إن المسألة ليست بهذه البساطة، فلو أردنا ان نعرف الماء، ماذا سنقول؟
هل سنقول أن الماء هو الذي إذا عطشنا شربناه فارتوينا؟ أم نقول أنه سائل يهبط من السماء في شكل قطرات مطر؟ هل نحن هنا نمنح الماء تعريفاً حقيقياً؟ أم وصفاً عاماً له أو لوظائفه؟
دعونا ننتقل لتعريف الماء على نحو علمي (مؤقتاً)؛ فالماء هو جزيئ من ذرّة أكسجين مركزية ترتبط بها ذرّتا هيدروجين على طرفيها برابطة تساهميّة بحيث تكون صيغته الكيميائية H2O.
هل نتفق على هذا التعريف، كجامع مانع؟
إن الإجابة المبدئية هي نعم؟ فكل عناصر الماء موجودة في هذا التعريف ذرتا الهيدروجين وذرة الأوكسجين والرابطة بينهما، فماذا نريد أكثر من ذلك؟
ولكن فلنفترض أن طالباً بليداً سأل استاذه: ماذا تقصد بذرة؟ وماذا تقصد بهيدروجين؟ وماذا تقصد بأوكسجين؟
فسندرك مباشرة أن التعريف الأول، ليس جامعاً مانعاً، وحينها سيتعين على الأستاذ أن يزيد من حجم التعريف فيلجأ إلى ويكيبيديا كما أفعل الآن ليقول:
أما الأكسجين فهو عنصر كيميائي رمزه O وعدده الذرّي 8، ويقع ضمن عناصر الدورة الثانية وعلى رأس المجموعة السادسة عشر (المجموعة السادسة وفق ترقيم المجموعات الرئيسية) في الجدول الدوري، والتي تدعى باسم مجموعة الكالكوجين وهو عنصر مجموعة رئيسي. يصنّف الأكسجين ضمن اللافلزّات، ويكون في الشروط العاديّة من الضغط ودرجة الحرارة على شكل غاز ثنائي الذرّة O2. ليس له لون أو طعم أو رائحة.....الخ...
وأما الهيدروجين فهو أخفّ العناصر الكيميائيّة على الإطلاق وأقلّها كثافةً حيث يتكوّن من بروتون وإلكترون واحد. في درجة الحرارة والضغط القياسيّين يكون الهيدروجين على شكل غاز ثنائي الذرة....الخ..
وأما الذرة فهي تتكون من سحابة من الشحنات السالبة (الإلكترونات) التي تدور حول نواة موجبة الشحنة صغيرة جدًا في المركز، وتتكون النواة من بروتونات موجبة الشحنة، ونيوترونات متعادلة، وتعدّ الذرة هي أصغر جزء من العنصر يمكن أن يتميز به عن بقية العناصر؛ إذ كلما غصنا أكثر في المادة لنلاقي البنى الأصغر لن يعود هناك فرق بين عنصر وآخر. فمثلاً، لا فرق بين بروتون في ذرة حديد وبروتون آخر في ذرة يورانيوم مثلًا، أو ذرة أي عنصرٍ آخر. الذرة، بما تحمله من خصائص؛ عدد بروتوناتها، كتلتها، توزيعها الإلكتروني...، تصنع الفروقات بين العناصر المختلفة، وبين الصور المختلفة للعنصر نفسه (المسماة بالنظائر)، وحتى بين كَون هذا العنصر قادرًا على خوض تفاعل كيميائي ما أم لا.
(سنلاحظ أهمية هذه النقطة الأخيرة في مقالنا لاحقاً)
ويستمر الأستاذ محاولاً الشرح:
ظل وما زال تركيب الذرة وما يجري في هذا العالم البالغ الصغر يشغل العلماء ويدفعهم إلى اكتشاف المزيد. ومن هنا أخذت تظهر فروع جديدة في العلم حاملة معها مبادئها ونظرياتها الخاصة بها، بدءًا بمبدأ عدم التأكد (اللاثقة)، مرورًا بنظريات التوحيد الكبرى، وانتهاءً بنظرية الأوتار الفائقة. الذرة اصغر من الجزيء ويمكن لذرتين أو اكتر تكوين جزيء.

سيلتقط الأستاذ نفسه، وقد ارتاح ضميره لأنه استطاع تفسير الماء، ثم ينظر إلى التلميذ البليد ويقول:
- فهمت يا ابني؟
حينها يرد التلميذ بعينين حائرتين:
- لا..
ثم يضيف:
- ما هو الالكترون وماهو النيوترون وما هي النواة وماهي الأوتار الفائقة؟

إذاً فهل تعريف الماء الأول جامع مانع؟
إن العلوم ليست سوى تفاسير للطبيعة، تفاسير مستمرة، وتتراكم التفاسير، ويتم جمعها جمعاً كلياً، داخل حقول realms بروابط متعددة، فتتداخل العلوم رغم ذلك، وتحتاج لما يمكنني تسميته بالثقافة العلمية Scientific culture للتمكن من الاستفادة من كل هذه العلوم.
لذلك فعندما يسأل شخص ما هو الماء؟ ؛ فإن علينا أن نسأل أنفسنا: أي تعريف يجب علينا ان نستخدمه:
هل التعريف الشيئى أم الإسمي أم التعريف الشرطي؟
فالتعريف يجب ان يدل على جوهر الشيء، كما ذهب المناطقة الأولون، وكما كان ذلك هدف سقراط في محاوراتته المتعددة، حين يسأل عن الروح، المعرفة، العدالة، ...الخ (انظر: زكي نجيب محمود، المنطق الوضعي، ص٤٩ وما بعدها).
ينتهي الفشل بالمناطقة إلى التعريف بالإشارة، أي الإشارة إلى المُعرَّف، وعليه فعلى ذلك الأستاذ أن يشير بأصبعه فقط إلى زجاجة الماء للتلميذ الغبي ويقول:
- هذا هو الماء؟
أي انه فسر الماء بالماء..
لكن مهلا،
فالتلميذ لم يفهم الأمر بشكل دقيق حتى الآن، لأنه عاد وسأل الأستاذ:
- ولكن..هل يجب أن يجتمع الإناء والسائل الذي به ليكون ذلك هو الماء..
فيقول الأستاذ بصبر عتيد:
- ليس بالضرورة..فقد يكون السائل الذي هو الماء في زجاجة او كوب خشبي أو فوق الأرض أو فوق السماء كما هو حال السحب أو يكون بخارا ..الخ.
فيسأل التلميذ:
- هل تقصد أن الماء فوق السحاب هو نفسه الماء الذي على الأرض؟
يجيب الأستاذ:
- نعم يا إبني..
فيسأله الطالب من جديد:
- ولكن لماذا لا تعيش الأسماك في السماء؟
فيجيبه الأستاذ:
- لأن الماء الذي في السماء مختلف قليلاً عن الماء الذي على الأرض..
حينها يسأله التلميذ البليد:
- ولكن إذا كان هناك اختلاف بينهما، فهما ليسا شيئاً واحداً؟
فيجيب الأستاذ:
- نعم ولكن الإختلاف بسيط..
حينها يقول التلميذ:
- وهل يمكن أن يكون الشيء هو ذاته الشيء الآخر إن كان هناك اختلاف بين الشيئين؟..
فيخبط الأستاذ رأسه بالسبورة من الغضب، حتى يسقط مغمى عليه.
إن خلاصة ما نود قوله؛ هو انه لا أصدق من تعريف الماء بأنه الماء فقط. فكل محاولاتنا الأخرى لن تفضي بنا سوى إلى التحول من التعريف إلى الشرح، والشرح ليس تعريفاً بل هو محاولات العلماء لتفسير الظواهر الطبيعية والإنسانية تفسيراً مطولاً، ونتيجة لأن تلك الظواهر من العمق بما يتجاوز إمكانية بلوغ منتهاها، فإن الشروحات لن تنتهي، بل أنها تتعاظم ووتكاثر كلما زادت معارفنا، إننا ننتقل من الذرة للنواة للالكترون للبروتون للأوتار الفائقة...الخ دون أن نحسم المدركات حسماً نهائياً..غير أن هذا لا يعني أننا يجب أن نستسلم ونعرف الماء بالماء فقط، بل علينا أن نعترف أولاً بأن تعريف الماء بالماء ليس خطأً وليس مستحقاً للسخرية..ثم ننطلق في البحث والتقصي بتواضع أكبر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى