سيرة أحمد عبيدة.. ولماذا أودعوه مستشفى المجانين؟.. تحقيق: حورية عبيدة

"طائر النار" ينهض من رقدته بعد اثنين وأربعين عاما (2 من 2)
- قلت لعمتي: "احكي لي عن قَريبنا الشاعر الذي انتحر" فقالت: لاتصدقي.. بل غيبوا عقله بالتعذيب
- تطوع في بناء السد العالي وأسس مقرا للاتحاد الاشتركي وبعد هزيمة 67 تبدّل حالُه، وكَرِه من خانوا الوطن
- زيارات "عبد الرحمن الأبنودي" تكررت له؛ واستطاع بِلُغتِة البسيطة الولوج لقلوب البسطاء والكادحين
- اطّلع على تفاصيل محادثات (الكيلو101) مع العدو الصهيوني؛ واعتبرها بدايةً لهزيمةٍ جديدةٍ، وجاهر برأيه فاعتُقل.

صافحتْ عيوننا مياه الترعة الوسيعة الصافية؛ أحد روافد نيلنا الرائق، وبعِشقٍ عَصِيّ على الكتمان لمحنا أشجار "الزَّنْزَلَخت" و"أم الشّعور" و"الصَّفصاف" تتهادى على ضفافها؛ فتزيد المنظر روعةً خَلابة، وامتدتْ نظراتناالدَّهِشة تُعانق حقولاً سندسية اللون تتيه زهواً ودلالاً فتُضفي على المكان سِحراً وجَمالاً؛ كان البهاء يفترِش الأرجاء؛ ويعترِش المَدَى، فبدتْ القريةفي روعتها وحُلّتها والَقِها واحةً أفلتتْ مِن الجنة.

جَمال فتياتها ونسائها؛وصفاء بشرتهنَّ؛ وجدائِل شعورهن الصفراء؛ وعيونهن الخضراء كانت لافتةً لانتباهنا، وحين لاحظ الأبدهشتنا ضحِك بحنوٍ بالغٍ لا يخلو مِن تيهٍ واضحٍ قائلاً: تلك يد الطبيعة الباهرة، فالبنات هنا يُرسلن شعورهن تحت أشعة الشمس طيلة اليوم؛ فتلونها بأشعتها الذهبية، أما العيون الخضراء فسترونَها حادة البصر كذاك،ولن تجدوا مَن يرتدي نظارةً طبية - كأهل البندر -، فالعيون هنا تنتشيبالجمال المُشتَهى والمساحات الممتدة على مرمى البصر اليانع الاخضرار والأفق الأزرق المتسع دونما حَد، وكلها أشياءٌ لن تجدوها في منازلالمدن حيث المساحات المحدودة والجدران تكاد تُطبِق على ساكنيها مِن كل صَوبٍ، فضلاً عن ليالي السَّهر أمام التلفاز؛ والذي يساهم دون رَيبٍ في إضعاف قوة الإبصار، الفلاح هنا ينام ويصحو مبكراً؛ فيُمتِّع ناظريه بآيات الله الكونية؛ فتكونُ تِرياقاً لجسده ورُوحه وقلبه.

في بيت عمّتي"سعدية" الحبيبة التي -كانت تَبشُّ دوماً لرؤيتي؛ لتشابه ملامحنا بشكلٍ لافتٍ– اجتمعتْالنساء للترحيب بنا ريثما تنتهي الأُخريات مِن تنظيف بيت العائلة ليلائم استقبالنا، تضحك عَمتي اللمّاحَةمُشفقةً علينا قائلة: (أولاد البندر لا يستطيعون العَيش مع الفلاحين، البراغيث سترحب بكم جداً، صراحةً ملّوا منّا، ويحبون الضيوف والدم الجديد)..تواصل العمَّة الجميلة ضحكاتها الساخرة وعيونها تمتليء حباً وشفقةً علينا، ثم تردف معاتبةً والدي: (أكيدصدَمْتَهم بزيارة المقابر أول شيء، حرام عليك ياحاج مازالوا صغاراً، معقول ترعبهم أول مرة ينزلوا البلد؟!).

ننتبه جميعنا لكلمة المقابر، أجري عليها متوسلةً: "عمتي احكي لي عن قَريبنا الشاعر الذي انتحر"، تتنهد العمَّة والحسرة تنفث صداها بصدرها المُتَّقد؛ وبتركيزٍ شديد تنظر في عينيّ اللتين تشبهانها بشكلٍ واضحٍ مُنبهةً إياي: (إوعي تصدقي إنه انتحر، الانتحار كُفر يابنتي، إزاي ينتحر وجَده "الحاج أحمد" حامل القرآن الكريم، وهو اللي علّمه وحفّظه كتاب الله! ده ماكنش فيه أذكى ولا أعقل منه، كان مترجماً للرئيس السادات؛ وحضر مفاوضات مع إسرائيل وكان معارضا للانسحاب هو و"الجمسي"؛ بعدها يا بنتي سجنوه وعذبوه بجلسات الكهربا لغاية لما عقله بدأ يتوه ساعات، وموضوع الانتحار أكيد في وقت من الأوقات اللي عقله غاب فيها، وعشان كده ربنا هايغفر له إن شاء الله؛ فليس على المريض حرَج، يعني في وقت توهان عقله هو معفي من المسؤولية).

تُكمل العمّة ذات الذاكرة الحديدية: (أنا كنت أعرفه كويس، كنا بنلعب وأولاد العيلة مع بعض في مندرتنا، كان غاوي قِراية وشِعر، كل يوم يروح المدرسة على رجليه مِن "العَمار" لـ "شبين القناطر" رايح جاي ماسك الكتاب يقرأ في الطريق، كان ماشاء الله طُول بعَرْض، وكنا نحتمى بيه لو حد ضايقنا من العيال المشاغبة، لكن الحق يتقال عُمْره ما أذى حد، وكان يلمّنا حواليه، ويحفظَّنا أغانيه ويقول البنات بتحفظ أحسن من الأولاد، وانا لسة فاكرة كلامه:

عندما تكف أنفاسي عن النشيج
عندما تنسج خيوط الأنوال من النسيج
عندما أموت كالحطّابين في الغابات المتشابكة
احرقوني بأحطاب شَجر الجميز
واطحنوا لحم عظامي وانثروها على ضفاف النيل..
فربما يستيقظ النهر)

تطفر الدموع من مُقلتي عمتي مضيفةً: (كان قلبه طيبا جداً وغَضا، خدوم وبيجامل كل الناس، كان لمّا يرجع من المدرسة يلم عيال البلد اللي مش قادرين يروحوا يتعلموا وبيشتغلوا في الأرض بالأُجرة؛ ويقعد يعلمهم القِراية والكتابة، وكان بعض الأهالي بيقولوا عليه مجنون وهايخرب دماغ العيال، لأن الناس في الوقت ده كان همها الأول لقمة العيش، ومع كده كان بيشجعنا ويحفظنا أناشيد عن "جمال عبد الناصر"، أصله كان ناصري، لدرجة إنه سافر بنفسه واتطوع وساعد في حفر السد العالي، واتزعّم مظاهرة بالفؤوس في البلد لصالح الفقراء ضد الأغنياء، وأسس مكان لـ "الاتحاد الاشتراكي" و"جمعية الغد"؛ يجتمع فيه مع المثقفين اللي زيه اللي كانوا بيجوا من خارج البلد ومن القاهرة، لكن بعد هزيمة 67 اتبدّل حالُه، وكَرِه اللي خان الوطن، وكتب قصيدة اسمها "السد العالي"، وفضِل الغلابة والفقرا أهم ناس عنده.. وكفاية كده بقا وياللا عشان تتغدوا قبل الفطير ما يبرد).

الطَّمي.. النِّيل.. القمر.. الصَّيد.. شجر الزَّنْزَلَخْت.. فدائي.. الوطن.. الحب.. شجر الجميز.. مفردات شكّلت عالَم "أحمد عبيدة" الشِّعري كما قال عنه معاصروه؛ ومنها كانت عناوين قصائده، تلك القصائد التي احترق بعضها كله أو أجزاء منها، والبقية كانت مُخبأة في صدور أصدقائه ومريديه، والبعض تجرَّأ وسرقها ونسَبها لنفسه! يذكر أهالي البلدة زيارات الشاعر "عبد الرحمن الأبنودي" له؛ فلم يكونا يجدان راحتيهما مع سواهما، وكيف أنه وبِلُغتِة البسيطة استطاع الولوج لقلوب البسطاء والكادحين، وقد اتسعت ثقافته لتتجاوز الذات إلى آفاق تستوعب الشقاء البشري كله والانحياز لقضايا الإنسان المقهور، واتسع مدى الصورة الكلية لديه لتكتنز تفاصيل الحياة في بعض دقائقها إلى جانب قضايا الوجود والموت والتمرد على الظلم بشتّى ألوانه، وتشِفُّ صُوَره وأخيلتُه عن معانٍ ميثولوجية وأنثروبولوجية كما قال عنه النُّقاد - وقد ضمَّن أراءه تلك في قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر- مما حدا بالبعض أن يطلق عليه لقب "الشاعر المتمرد"؛ كتب ذات مرة:

( العالم بيتي
كل مكان مَسقط رأسي
مِن سور الصين العظيم..
حتى أعماق مناجم أمريكا اللاتينية
مِن أكواخ طمبية في أعالي أنهار جبال الشمس

حتى معمل تكرير الزنك أو مصنع تفحيم المازوت
وأبي ذلك الفلاح الأشيب فوق حقول القوقاز
والزنجي الضخم المثقوب الأذنين
والسَّرّيح بعربة يَدٍ بين براري ومزارع أمريكا الرحبة
أمي رحم الأرض الطَّميي)

أيَّدَ عبد الناصر في كثير مِن رؤاه؛ ثم انقلب عليه بعد النكسة، وأُصيبَ بحالةٍ مِن الحزن الشديد، لذا علَّق آماله على حرب أكتوبر واعتبرها إعادة لكرامة المواطن المصري، ولكن ولكونه المترجم الخاص للرئيس السادات؛ فقد اطّلع بحكم عمله على تفاصيل محادثاته (الكيلو101) مع العدو الصهيوني وأمريكا؛ واعتبرها بدايةً لهزيمةٍ جديدةٍ، وظلَّ يجاهر برأيه حتى اعتُقل؛ ثم بدأتْ سلسلة معاناته وعذاباته، وحوصر بزنزانته؛ فظل يكتب أحزانه على الورق والجدران؛ وحالما تنبه السجانون نزعوا أوراقه الكثيرة والتي دوّن بها أشعاره على وعدٍ بإعادتها له بعد خروجه، لكنهم نكصوا بوعدهم؛ وظل يبحث شهوراً طوال عنها بين العديد من أقسام الشرطة التي كانوا يدَّعون أنهم أودعوها إياها!

طار صَواب الشاعر الشاب؛ فقاد عدداً من المظاهرات؛ مُندّداً بخسّة التنازل والتساهل مع عدونا الصهيوني، فلم يزد ذلك الظالمين إلا عتواٌ وتجبراً، فأودعوه مشفى الأمراض العقلية؛ مستعينين بجلسات كهربائية مكثفة قضتْ على إنسانيته، وأفقدوه القدرة على إدراك مَن حوله! كلما خرج بعد أن يتماثل للشفاء أعادوه إياها؛ ولم يتركوه حتى أصبح يهذي كارهاً وجوده في الحياة؛ متطلعاً لأن يحيا في زمن آخر مع مَن يفهمه! زاد الطين بلَّة هجوم السلفيين عليه واتهامه بالشيوعية والكفر! ومِن هنا انقسم الناس حوله - حتى عائلته نفسها- وخاف البعض مِن بَطش السُّلطة فابتعدوا عنه وهُم يؤثرون السلامة؛ سيّما بعد أن صارت البلدة قِبلةً للمثقفين التقدميين.

لم يكن الأمر هيناَ على الشاعر المثقف الثوري المُرهف الحس، ففي واحدة من المرّات التي كانت تنتابه فيها حالات اليأس والقنوط وذهاب العقل؛ قرر أن يتخلص من حياته، فحفر حفرة بوسط داره الريفي؛ وأغلق المنافذ؛ والقى بدواوينه ومسرحياته الشِّعرية ومؤلفاته جميعها بداخلها مُضرماً النيران فيها، ثم القى بنفسه داخلها حتى فاضت روحه لبارئها وهو في الرابعة والثلاثين من عمره الغض والشَّقي! وبعد وفاته أسرع الأهل والأصدقاء يحرقون كل مالديهم مِن مؤلفاته وأشعاره خوفاً من بطش السلطة آنذاك، ونَسُوهُ عن قصدٍ وعَمَد، وظل بيته مغلقاً سنواتٍ طوال لا يجرؤ أحدٌ ولُوجه أو شراءه؛ لاعتقادهم أنه مسكونٌ بالعفاريت! لكن بعضهم احتفظ بصدره ببعض أشعاره؛ منها:

( يستطيعون أن يكمِّموا فمِي بالحَجر
ون يرشقوا الأسياخ الحديدية في أضلاعي..
وفي شباك الزنزانة
لكنهم لن يستطيعوا أن يوقفوا زقزقة العصافير على الأشجار
ولا تدفق المياه في النهر
ولا صياح الدِّيكة في الفجر
حتى تبشر بميلاد صباحٍ جديد)
ثلاثية اللون الأصفر..

تمضي الأيام راكضةً كشذراتٍ مِن نسيمٍ عَبِق، فمَوسِم المشمش الذي شارف على الانتهاء كان فرصة ذهبية لرؤية أرضنا المزروعة أيضاً برتقالاً؛ ومِن بين حنايا أشجاره اليافعة نُصِبتْ خلايا نحلٍ - كان أبي يهوى تربيتها- لتُخرج لنا عسلاً مُصفَّى كصفاء سبائك الذهب، استشعرتُ وقتها راحة قديمة كانت تعتري صدري مذ صغري كلما رأيت اللون الأصفر في بيتنا حتى خلته لون الجدران، ها قد عرفت السرَّ الأن، فهو لون: المشمش والبرتقال والعسل؛ التي كان يعجُّ بها بيتنا؛ كلٌ حَسْب مَوسم حَصادِه.

شاهدنا كيف يجنِي الفلاحون المشمش ويرصونه في أقفاصٍ أُعدَّتْ للغرض، يزينونها بأوراق شجر "الزَنْزَلَخْت السُندسية"، تعرَّفنا على "السِّيبَة" وهو تكوينٌ خَشبي يشبه السُّلم المتنقل؛ لكنه ثلاثي الأضلاع، يصعد عليه "النَّفر" لأعلى الشجرة ليجمعها في فتحة صدر جلبابٍ مخصوصٍ يرتديه، حتى إذا ما امتلأ أفرغه في أقفاصٍ وصناديقٍ تتعاون النساء والفتيات في صفِّها وتزيينها، تلك النسوة حكتْ لنا عن زهرة المشمش والتي يسمونها "الَّنوّارة" التي ما إن تظهر حتى تتحول بعد أيامٍ إلى ثمرةٍ يانعةٍ.

وكما بدأنا الحُلم انتهينا، تمر بنا السيارة -في طريق المغادرة- على المقابر، نُعيد نفس المشهد السابق، يكرر والدي على مسامِعنا أسماء الأموات بدءاً مِن جَدي، ويقفز للعيون ثانيةً اسم الشاعر:"أحمد عبد العليم أحمد محمد عبيدة"، هذه المرة أقرأ اسمه بوضوحٍ تامٍ على قبره، لم نكن ندري أن حكايته لم تنتهِ بعد، وأن تأثيره الكبير لا تحدّه سنوات حياته القليلة التي انتهت وهو في الرابعة والثلاثين من عُمْره، لكن سيرته عادتْ بقوة في الأذهان وفوق الشفاه وعلى جبين الوطن، ساعتها تذكرتُ حَبة المشمش الصغيرة الحجم؛ الرفيعة المقام والقدر رغم قِصَر أيامها.

بجوار مسجد المناصِرة بالبلد وتحديداً في منطقة البواب؛ يلمح المارّون لافتةً زرقاء تحمل اسم: شارع / أحمد عبيدة.... تُراه الدهر يعتذر مُتطهراً مُرتدياً حُلة الإنصاف ممّن ظلموه وأماتوه منتحراً؟ هل يعود الرَّجل مِن قبره بعد انجلاء غمامة التَّغبيش تلك التي رانتْ أمداً على العيون والقلوب؟ يخالجني الشعور أنَّ قبره – ربما - أراد أن يعيد إلينا "طائر النار" بعد اثنين وأربعين عاماً قضاها جثمانه في طَي الخوف والنسيان "المقصود"، نهض الطائر مِن رقدته؛ يحوم فوق رؤوس الناس؛ يُفيقهم مِن سُباتهم وغفلتهم، فيجمعون أشعاره ومسرحياته الشعرية و"قصص" حياته، يستفيق التلفاز المصري فيُسجّل عدة حلقات عن الشاعر وحكايته من افواه اهل بلدته؛ يُخرجون دون وَجلٍ ما في صدورهم مِن نصوصٍ محفوظةٍ، وحكاياتٍ مأثورة مرَّتْ عليها سنونٌ لم يبوحوا بها.

أربعة عقودٍ ظلَّ القبر ينفخ فيها بخور الحِكمة ومِسْك المعرفة؛ يستنهِض الشاعر والمناضل نصير البسطاء والكادحين؛ فيبعثه مِن رقاده الصَّموت؛ ليهدينا ضَمَّةً مِن قصائده المُضمّخة بالحُب والشوق والتوق للإنسانية الراقية والكرامة، فنتسمَّعه يتلو علينا مِن سِفْر الحرية.. سِفْر العَمار الكبرى؛ التي أضحتْ قِبلةً وهويةً وأغنيةً وقصيدةً ووتداً للحرية، لتمتلئ نفوسنا ثُمالةً ورُواءً مِن عَبق سيرتها ومَسيرتها الفكرية والسياسية، كما ننهلُ مِن شَهْد عسلها ومشمشها وبرتقالها.. ونسيم ليلها وسِحْر أماسيها.

________________________________________
تحقيق: حورية عبيدة

من المشهد الأسبوعي
أعلى