تقف أمام المرآة، تُسرّح شعرها الطويل حتى كاحليها، تتأمل جماله بفرح، تفلت منها تنهيدة، تجري إلى الصندوق الأثير لديها، تُخرج الرسائل المحفوظة بداخله، وما إن تلامس أصابعها الناعمة الصندوق حتى ينفتح لوحده، ويستحيل ما بداخله أشباحاً قبيحة تجرها إلى المرآة، تقص شعرها الجميل وتعبث بملامحها، تصرخ رعباً من رؤية وجهها الجديد، ترقص الأشباح حولها، وتشتعل النار في كل أرجاء الغرفة، صراخها يعلو.. يعلو.. النيران تلتهم كل شيء.
تصحو فزعة، ذات الحلم يتكرر منذ سنوات عدة، تهرع إلى دولابها، تطمئن على رسائلها الأثيرة، تُقبّل التميمة الفضية المنقوش عليها أول كلمة حب سكبها في أذنيها، تستنشق الرسائل المضمخة بعطره ملء رئتيها، تتذكر بهجة أول رسالة وتأسرها النشوة:
« لا أحتمل البقاء هنا لحظة واحدة بدون صوتك الحنون، وجهك الملائكي.. تصبح الدنيا سوداء، طريقي مشوش لا أدري كيف ستمر أيامي هنا، من أجلك فقط.. أحتمل كل هذا العذاب».
لم تنم يومها، بكت كثيراً من الشوق، كتبت رسالة طويلة جداً ضمنتها كل خيالاتها الساذجة، وانتظرت حتى شروق الشمس لتبثها أمانيها.
وضعت الرسالة الأولى التي تمزقت بعض الشيء جانباً، وفضت الرسالة الثانية:
« حبيبتي حصلت على عمل جيد، سأدخر ما بوسعي من النقود وأعود إليك.. اشتريت لكِ هذا العقد الفضي المنقوش، لا تبدو الكلمة واضحة جداً، لقد رسمتها للصائغ رسماً.. أحبك».
زينت نفسها بالعقد، وقفت أمام المرآة تتأمل جمالها، القلق أفقدها بعض الألق، لم تعر ذلك اهتماماً. حين يعود سيزول ألمها وشوقها الذي يعذبها وسيضيء جمالها.
تلمست العقد بتأن. كلماته بالفعل ليست واضحة، تشبه تعويذة أو طلسماً سحرياً، لأول مرة تراه غير جذاب.
أعادت العقد إلى مكانه، وبحثت عن الرسالة الثالثة وفضتها:
« قد أتأخر قليلاً، لا أستطيع المجازفة الآن.. إنها مرحلة اختبار حقيقية لي، أنتِ في قلبي.. قبلاتي».
سقطت طريحة الفراش لأسبوع، أمها السقيمة قبعت إلى جانبها تواسيها، لاح عتاب مؤلم في عينيها الرحيمتين لم تقله أبداً حتى رحيلها، طوت الرسالة بألم، لن تنسى ما امتد بها العمر حزن أمها الصامت لأجلها.
فتحت الرسالة التالية بحذر، فقد ابتلت بدموعها أكثر من مرة:
« أشعر بالأسف لموت والدتك، تمنيت لو امتد بها العمر لتكلل رأسك بالزهور ليلة عرسك.. جددت عقد عملي لعام آخر.. أعرف أن صبرك قد نفد، لن ألومك لو اخترت شريكاً آخر».
تأملت نفسها في المرآة، وضعت مساحيق لم تعرفها في حياتها، راقبت بقلق خطوطاً مشاكسة صغيرة زحفت تحت جفنيها، تأملت قامتها الممتلئة فيما مضى، هوت بمشطها على المرآة وقسمتها إلى أجزاء غير متساوية، ولم تجرؤ على النظر فيها مجدداً.
طوت الرسالة، تلمست أناملها قاع الصندوق.. لا يوجد غيرها.. إنها الرسالة الأخيرة:
« كل مستقبلي هنا.. سنوات من الكد والجهد والسهر.. كيف يمكنني أن أرميها وراء ظهري؟ أريدك أن تعرفي بأني لن أحب أحداً مثلك، فلم أحبب سواك».
سرحت شعرها الذي ما عاد طويلاً، وقفت تحت الضوء المتسلل من النافذة، تأملت خصلاً باهتة تغزو شعرها، أصبح شعرها عبئاً عليها، وقعت خصلاته على الأرض بين قدميها، وضعت الخصلات في الصندوق وأغلقته بإحكام.
دندنت بأغنية قديمة، وراحت بهمة ونشاط ترمم المرآة المشروخة، دقات قلبها تصم أذنيها، أصابعها ترتجف، تواصل عملها الدءوب، تلصق آخر قطعة، تواجه نفسها، تصرخ رعباً من ملامحها، ومن أشباح استطالت ورقصت حولها.
* عن اليمني الامريكي
تصحو فزعة، ذات الحلم يتكرر منذ سنوات عدة، تهرع إلى دولابها، تطمئن على رسائلها الأثيرة، تُقبّل التميمة الفضية المنقوش عليها أول كلمة حب سكبها في أذنيها، تستنشق الرسائل المضمخة بعطره ملء رئتيها، تتذكر بهجة أول رسالة وتأسرها النشوة:
« لا أحتمل البقاء هنا لحظة واحدة بدون صوتك الحنون، وجهك الملائكي.. تصبح الدنيا سوداء، طريقي مشوش لا أدري كيف ستمر أيامي هنا، من أجلك فقط.. أحتمل كل هذا العذاب».
لم تنم يومها، بكت كثيراً من الشوق، كتبت رسالة طويلة جداً ضمنتها كل خيالاتها الساذجة، وانتظرت حتى شروق الشمس لتبثها أمانيها.
وضعت الرسالة الأولى التي تمزقت بعض الشيء جانباً، وفضت الرسالة الثانية:
« حبيبتي حصلت على عمل جيد، سأدخر ما بوسعي من النقود وأعود إليك.. اشتريت لكِ هذا العقد الفضي المنقوش، لا تبدو الكلمة واضحة جداً، لقد رسمتها للصائغ رسماً.. أحبك».
زينت نفسها بالعقد، وقفت أمام المرآة تتأمل جمالها، القلق أفقدها بعض الألق، لم تعر ذلك اهتماماً. حين يعود سيزول ألمها وشوقها الذي يعذبها وسيضيء جمالها.
تلمست العقد بتأن. كلماته بالفعل ليست واضحة، تشبه تعويذة أو طلسماً سحرياً، لأول مرة تراه غير جذاب.
أعادت العقد إلى مكانه، وبحثت عن الرسالة الثالثة وفضتها:
« قد أتأخر قليلاً، لا أستطيع المجازفة الآن.. إنها مرحلة اختبار حقيقية لي، أنتِ في قلبي.. قبلاتي».
سقطت طريحة الفراش لأسبوع، أمها السقيمة قبعت إلى جانبها تواسيها، لاح عتاب مؤلم في عينيها الرحيمتين لم تقله أبداً حتى رحيلها، طوت الرسالة بألم، لن تنسى ما امتد بها العمر حزن أمها الصامت لأجلها.
فتحت الرسالة التالية بحذر، فقد ابتلت بدموعها أكثر من مرة:
« أشعر بالأسف لموت والدتك، تمنيت لو امتد بها العمر لتكلل رأسك بالزهور ليلة عرسك.. جددت عقد عملي لعام آخر.. أعرف أن صبرك قد نفد، لن ألومك لو اخترت شريكاً آخر».
تأملت نفسها في المرآة، وضعت مساحيق لم تعرفها في حياتها، راقبت بقلق خطوطاً مشاكسة صغيرة زحفت تحت جفنيها، تأملت قامتها الممتلئة فيما مضى، هوت بمشطها على المرآة وقسمتها إلى أجزاء غير متساوية، ولم تجرؤ على النظر فيها مجدداً.
طوت الرسالة، تلمست أناملها قاع الصندوق.. لا يوجد غيرها.. إنها الرسالة الأخيرة:
« كل مستقبلي هنا.. سنوات من الكد والجهد والسهر.. كيف يمكنني أن أرميها وراء ظهري؟ أريدك أن تعرفي بأني لن أحب أحداً مثلك، فلم أحبب سواك».
سرحت شعرها الذي ما عاد طويلاً، وقفت تحت الضوء المتسلل من النافذة، تأملت خصلاً باهتة تغزو شعرها، أصبح شعرها عبئاً عليها، وقعت خصلاته على الأرض بين قدميها، وضعت الخصلات في الصندوق وأغلقته بإحكام.
دندنت بأغنية قديمة، وراحت بهمة ونشاط ترمم المرآة المشروخة، دقات قلبها تصم أذنيها، أصابعها ترتجف، تواصل عملها الدءوب، تلصق آخر قطعة، تواجه نفسها، تصرخ رعباً من ملامحها، ومن أشباح استطالت ورقصت حولها.
* عن اليمني الامريكي