لطالما استطعت أن أحيد عن مرمى تعليقات امرأتي اللاذعة و أرد عليها بدبلوماسية مفرطة تلافيا لحصول احتقان تاريخي، قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه وأقصد بذلك إنه ربما تتوتر شعرة معاوية حتى تنقطع فأنتفض ثائرا بوجه امرأتي ولسانها السليط ،لذلك كان علي أن لا أفعل ذلك لكنني اضطررت لفعله فأنا في الحقيقة طوال عمري لم يخطر ببالي ولو ليوم واحد، ساعة واحدة، لحظة واحدة إنني سأفعل ذلك وها أنا أفعله، كيف لي أن أعرف أن اللأمور ستؤول الى هذا السوء، كان يمكن أن أتجنب ذلك، الكثير قالوا لو أنك،... لما...، وأولهم امرأتي وأولادي الخمسة، بعد ذلك كان كل صباح فيه لو أنك، وكل مساء فيه لو أنك، قبل النوم، بعد النوم، آه ياربي كم النوم لذيذ؟ رغم بعض الكوابيس لكن كثيرا من الأحلام اللذيذةِ ترتادهُ لذلك وبعد كل تلك الأحداث الجسيمة التي حدثت في البلاد،لم يعد مرتبي التقاعدي يكفي لجعل فم امرأتي ضاحكا أو مقفلا ما بالك وأفواه أولادي الخمسة الذين صاروا يفتحونها تباعا من الكبير للصغير، لذلك صار النوم الفسحةَ الوحيدة التي لا أسمع فيها لو أنك، لكان كذا، تراني أسارع للنوم مبتدعا الحيلة المشوبة ببعض المكر لكي أجعل النوم متواطئا معي كي يحولني إلى رجل نائم، الكل يعلم ُ ما معنى رجل نائم، لكنني بعد ذلك أستيقظ على صوت امرأتي المجلجل التي لا تجيد في هذه الدنيا سوى اغتنام الفرص للومي حتى على النوم و في أحيان كثيرة أرى إنها على حق فأهرع إلى أدوات حلاقتي، أحلق ذقني ثم أستحم وأنظر لنفسي في المرآة، وبهمة سرية أحرص على أن لا يعلم بها أحد أقذف بجسدي الهزيل إلى الشارع المؤدي إلى المدينة قاطعا الشوارع التي أعرفها والتي لا أعرفها عرضا وطولا باحثا عن عمل يلائمني لكنني في النهاية أجلس على الأريكة المهملة في موقف الباص المهجور في ساحة الميدان، أستريح من عناء المشي على قدمي كل تلك المسافات بلا طائل ثم لا يلبث هذا الزمن السعيد الذي أقضيه في باص الركاب الصغير، الذي يشبه مقاهي النواصي، لا يلبث ذلك الزمن السعيد حتى ينقضي مستمعا أثناء ذلك ومستمتعا بكل ما يقال دون الإشتراك في حديثهم لأنهم لا يتركون لي شيئا أشارك به رغم رغبتي في المشاركة، لا يتركون لي شيئا لقوله فكلما أود قوله يقال فور التفكير به فأبتلعه وأصمت طوال الطريق، وها أنا أقترب من البيت راجعا خالي الوفاض، سأصبر على أسئلة زوجتي المنقوعة باللؤم وهي تعلم أن كثيرا من المهندسين والمدرسين وجيشا من خريجي الكليات لا يجدون عملا في هذه الأيام فيهرعون مثلي إلى المدينة، أغلبهم كان ذا بنيةجسدية قوية ولا زال شابا يعمل على رصيف الشارع بائع بسطة أو شيالا في الشورجة يملأ ويفرغ الحمولات على مقربة من السوق، ماذا أصنع وهذا الفتاق أسفل بطني من الجهة اليمنى يؤلمني، لذلك كنت أدفع بعقلي بعيدا في أقاصي رأسي عندما بدأت امرأتي بتعليقاتها الهادئة والصامتة أحيانا، هي مستاءة ومتشائمة ما دام مرتبي التقاعدي لا يكفي إلا لعيش الكفاف لا غير ولفداحة هذا الأمر وما يفضي إليه لا أجد إلا النوم حلا سريعا وسعيدا وعندما مللت النوم وسعادته قررت أن أجرب الجلوس في المقهى الذي يرتاده صديق لي كنت أحسب أنني فعلت معه صنيعا إبان الحرب لذلك كان يدفع ثمن قدح الشاي الذي أشربه وكنت لا أشرب سوى قدح واحد لكي لا أثقل عليه كذلك كنت أقرأ صحيفته التي يشتريها بعد أن يفرغ من قرائتها فهو لا يرضى أن يقرأها أحد قبله ولأجل قدح الشاي كنت أقرأ الصحيفة من بعده على مهل قرأت إعلانا عن وظيفة وعندما ذهب صديقي لقضاء حاجة صغيرة اقتطعت الإعلان ودسسته في جيب قميصي وعندما عدت إلى البيت وقبل نوم القيلولة قرأت الإعلان بتمهل شديد، صرخت زوجتي من خلال الباب هل وجدت عملا؟.. قلت في داخلي بصوت قوي غير مسموع يجوب صداه داخلي المرتج من جلجلة صوت امرأتي نعم، نعم لقد وجدت عملا، لقد فضلت الإجابة بهذه الطريقة لأنني بغير ذلك سأجر إلى حديث صاخب لا يخلو من عنف .. أين ,, متى .. كم ؟ سأضطر معه لسماع صوتها الذي صرت أفضل أن لا أسمعه، ذلك الصوت الذي يشبه جعجعة عربة بائع النفط ذات الحصان الأبلق التي تمر من أمام بيتنا في الوقت الذي أريد فيه النوم، بعد ذلك تركت صوت زوجتي وجعجعة العربة ورحت في نوم عميق، في نومي حملت العنوان ورحت أبحث عن ذلك البيت وحين حطت قدمي على إسفلت الشارع النظيف والواسع الذي لا يشبه شوارعنا في أية حال، شوارعنا بيضٌ بلون دقيق التراب، وشوارعهم سودٌ، وتلك الأبواب المنزلقة العملاقة والسيارات الفارهة التي تقف على الرصيف بجدارة ووداعة والحدائق التي تتدلى من أغصانِ أشجارها ثمار النارنج كأنه البرتقال عند ذلك علمتُ أنني في حيّ راق ٍوعندما أدخلوني على السيد الضخم شرح لي وظيفتي قائلا: كل ما عليك فعله هو أن تلبس زي المُهرج ذي الأنف الأحمر الكبير والإبتسامة البلهاء العريضة وأشار إلى زي مهرج برأسٍ من المطاط وشعرٍ منفوش معلق على شماعة ملابس وسط الغرفة الممسرحة جيدا لهذه اللحظة وقال : بالمناسبة إن زي المُهرج هذا زي حقيقي اشتريتهُ من مزادٍ أمريكي، عملك أن تضع رأسك في رأسه وتنظر من خلال عينيه البلهاوين لتسلي طفلتي اليتيمة،إنه عمل بسيط قلت له ياسدي لماذا لا يفعل ذلك الخدم، قال إنهم يرفضون التخلي عن أدوارهم التي تدر عليهم مالا جيدا ثم إن المرء لا يستطيع أن يؤدي دوره بشكل جيد بوظيفتين، قلت ياسيدي أنا طباخ ماهر، قال: لا نحتاج إلا لوظيفة مُهرج مضحك لأسعاد هذه الطفلة اليتيمة تماما كما في الأعلان ورأيت زوجتي المجلجلة التي لا أدري من أين طلعت وهي تغريني بالقبول، ثم أردف وظيفة لأربعة أيام في الإسبوع براتب جيد، لا نطلب مهارات ولا شهادات، عند ذلك لبست زيّ المُهرج وجلستُ أمام الصبية والصبية تضحك تارة وتبكي تارة أخرى، قالوا لي عندما تبكي الصبية عليك أن ترقص.. ترقص حتى تضحك الصبية فرقصت، وهكذا عدت إلى بيتي بعد أربعة أيام لم أخبر أحدا غير أن صديقي على ناصية المقهى افتقدني لأنه لم يجد من يقرأ له جرائده من بعده وعندما رأتني امرأتي أعد النقود استردت ضحكتها المجلجلة، فاستيقظت من نومي على صوتها الرهيب وهي تقول إنهض أيها الكسول كدتَ تتعفن في الفراش.