لن أنتظر فيسبوك حتى يذكرني بهذه الكلمة التي كتبتها حِدادا في رحيل الإعلامي والمؤرخ سي محمد العربي المساري رحمه الله ..
............................
البغتة التي لا يُتقن صناعتها إلا الموت، عبثاً حاولت أن تسرق من قلوبنا، العزيز الكبير الأستاذ محمد العربي المساري، لأنه أعمق بجذوره الثقافية والإعلامية والدبلوماسية بل والإنسانية في هذه القلوب التي أحبته ولو في صمت، ولا تستطيع اليوم مع الموت أن تمعن في صمتها لأن وجعه يُخلِّف زلزالا في أعتى النفوس جبالا؛ أعترف أني بِخَبَرِ رحيل أستاذنا الكريم سي محمد العربي المساري شعرت بالروح تبرح جسدي وليس جسم الفقيد الذي سيبقى حيّاً إلى أبد، هو الذي اشتغل طيلة الكتابة على ذاكرتنا الثقافية المغربية لن يجد عُسْراً لنيل المكانة الرفيعة في قلب التاريخ..!
لاتُخطئ أذني أبداً الحسَّ الذي يتلوه حتماً الخبر، لسي محمد العربي المسّاري وهو قادم من بعيد إلى مكتبي، إذ تسبقه دقّات الحذاء على أرضية الجريدة التي إنما تَدُلُّ بإيقاع خطوها الحثيث، على الحزم وأن ثمة شيئاً ساخناً لا يحتمل التأخير وإلا أصبح إعلامياً طعاماً بائتاً تعافه حتى القطط في الشوارع؛ فيصْدُق النبأ قبل أن يصل الهُدهد، بأن يقف الأستاذ المساري بكل ما أوتي من لباقة تتقدمها ابتسامة عريضة، ليناولني مقالا على ورق أو كتاباً أو خبراً شفهياً، ثم يغادرني دون أن يَرْتَدَّ إليَّ ببَصرٍ، بعد أن بثَّ كل الحزم الذي أتى به في نفسي، لأجمع في القلم وقفته وأغدو مسؤولا بأن أنْكَبَّ على شُغْلي..!
هل مات حقّاً سي محمد العربي المساري، أم أن الحياة هي التي فقدت برحيله نبضاً في قلبها، كان لا يهدأ من الخفقان بأقصى ما يملكه إنسان من حيوية في التفكير الذي لاينتهي لمجرد ديباجات تُسَوِّد صحائفنا الإعلامية، إنما يُدمَغُ بالفعل المسؤول والملتزم بقضايا الوطن؛ لنَقُل إننا فقدنا أنفسنا برحيل هذا العيار من الرجال الذي لم تشْترهِ أزمنة مغربية صعبة كانت تُباع رصاصاً، وهو لعمري أبخس المعادن التي جعلت الكثيرين ممن يَدَّعون الوطنية يقلبون المعطف على أقصر كرسي حكومي؛ أجل فقدنا أنفسنا برحيله لأننا لانساوي شيئاً بدون مواقف شجاعة تحفظ لإعلامنا الصوت والصورة دون حاجة لناي أومرآة، مثل ما سَطَّرهُ سي محمد العربي المساري رحمه الله في سِجلِّ ديمقراطيتنا التي مازالت تمشي عرجاء، وأبرز مواقفه التي يحفظها التاريخ السياسي المغربي ما لم يفقد الذاكرة، تجلَّت حين لَوَّح وَهُو وزير للاتصال بالاستقالة من حكومة الأستاذ عبدالرحمن اليوسفي رحمه الله، رافضاً أن يكون بوقاً لصوت لا يَصْدُر من ضميره ذي الأنفة والكبرياء..؟
إذا كان الموت دقيقاً في حساباته البيولوجية وهو يختار التوقيت الذي يناسبه دون أن يناسبنا دائماً، في جعل الأرواح تتذوق نَزْعها الأخير؛ إذا كان الموت بهذه الدّقة المتناهية في صناعة الفراق ببرود ليس في قاموسه وداع، فإنه وهو يضع اليد على سي محمد العربي المساري، اختار إنساناً ما عرفته إلا دقيقاً في كل شيء، ولا يُسقط رقماً من حساباته ولو كان صفراً، حتى ليكادُ يسخَر من الموت؛ يُدركُ الدور البليغ للفاصلة ما دامت تصل ماضي الجُملة بمستقبلها دون أن يختل معنى ليس فقط في المقالة بل الحياة، وما دامت ستَعْقُبُ هذه الفاصلة الأحوج إلى وقفتها الرصينة حتى البلدان، ديمقراطية تعم كل صباحاتنا التي مازالت تغُطُّ في تثاؤب سحيق؛ ألم يبادرنا سي محمد العربي المساري بتحية هذا الصباح منذ 1985 في كتابه «صباح الخير للديمقراطية، للغد» ومازال الحلم يُساور أجفاننا في أن تطلع لهذا الصباح شمس ولا تبقى حبيسة الكتاب..!
تُراه رحل بعد أن فقد الأمل في أن ترد عليه الديمقراطية تحية الصباح بشمس أجمل مع فنجان قهوة قد يَتَّزن بمرارتها مزاج الأيام؟
أبداً، ونحن نرى على الأقل هذه الديمقراطية تتجسَّدُ وضَّاءة في وجهه البشوش الذي لم تقهره تجاعيد لا توجد جذورها عادة إلا في بعض القلوب؛ أبداً لم ييأس سي محمد العربي المساري، دون أن يلبس عباءة الديبلوماسي، من ديمقراطية تَعُمُّ البلد، وهو يتخذها سلوكاً يومياً كل صباح حتى تؤول إلى كلمة يكتبها لتشمل الناس بأفكار تستيقظ بالتغيير على واقعنا ولا تتخذه سريراً..!
للموت يَدٌ أقوى من يدنا، وهو الذي يمسك اليوم بقلمنا ليكتب كأنه يَخُطُّ مصيراً في الجبين، هذه الإفتتاحية بطعم النهايات؛ رحم الله مؤرخ ذاكرتنا التي ما فتئت تضعف قبراً بعد قبر برحيل رجالاتها الكبار الذين مثلما أثخنوا قلوبنا بأسى الموت ثقوباً، تركوا حياتنا الثقافية من دون حكمتهم السديدة فراغاً..!
صباح الخير سي محمد العربي المساري، ولك في الحياة الأخرى وأنت لا تنفصل عن ضمائرنا، كل الخُلود..!
............................
افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 10 شتنبر 2015
............................
البغتة التي لا يُتقن صناعتها إلا الموت، عبثاً حاولت أن تسرق من قلوبنا، العزيز الكبير الأستاذ محمد العربي المساري، لأنه أعمق بجذوره الثقافية والإعلامية والدبلوماسية بل والإنسانية في هذه القلوب التي أحبته ولو في صمت، ولا تستطيع اليوم مع الموت أن تمعن في صمتها لأن وجعه يُخلِّف زلزالا في أعتى النفوس جبالا؛ أعترف أني بِخَبَرِ رحيل أستاذنا الكريم سي محمد العربي المساري شعرت بالروح تبرح جسدي وليس جسم الفقيد الذي سيبقى حيّاً إلى أبد، هو الذي اشتغل طيلة الكتابة على ذاكرتنا الثقافية المغربية لن يجد عُسْراً لنيل المكانة الرفيعة في قلب التاريخ..!
لاتُخطئ أذني أبداً الحسَّ الذي يتلوه حتماً الخبر، لسي محمد العربي المسّاري وهو قادم من بعيد إلى مكتبي، إذ تسبقه دقّات الحذاء على أرضية الجريدة التي إنما تَدُلُّ بإيقاع خطوها الحثيث، على الحزم وأن ثمة شيئاً ساخناً لا يحتمل التأخير وإلا أصبح إعلامياً طعاماً بائتاً تعافه حتى القطط في الشوارع؛ فيصْدُق النبأ قبل أن يصل الهُدهد، بأن يقف الأستاذ المساري بكل ما أوتي من لباقة تتقدمها ابتسامة عريضة، ليناولني مقالا على ورق أو كتاباً أو خبراً شفهياً، ثم يغادرني دون أن يَرْتَدَّ إليَّ ببَصرٍ، بعد أن بثَّ كل الحزم الذي أتى به في نفسي، لأجمع في القلم وقفته وأغدو مسؤولا بأن أنْكَبَّ على شُغْلي..!
هل مات حقّاً سي محمد العربي المساري، أم أن الحياة هي التي فقدت برحيله نبضاً في قلبها، كان لا يهدأ من الخفقان بأقصى ما يملكه إنسان من حيوية في التفكير الذي لاينتهي لمجرد ديباجات تُسَوِّد صحائفنا الإعلامية، إنما يُدمَغُ بالفعل المسؤول والملتزم بقضايا الوطن؛ لنَقُل إننا فقدنا أنفسنا برحيل هذا العيار من الرجال الذي لم تشْترهِ أزمنة مغربية صعبة كانت تُباع رصاصاً، وهو لعمري أبخس المعادن التي جعلت الكثيرين ممن يَدَّعون الوطنية يقلبون المعطف على أقصر كرسي حكومي؛ أجل فقدنا أنفسنا برحيله لأننا لانساوي شيئاً بدون مواقف شجاعة تحفظ لإعلامنا الصوت والصورة دون حاجة لناي أومرآة، مثل ما سَطَّرهُ سي محمد العربي المساري رحمه الله في سِجلِّ ديمقراطيتنا التي مازالت تمشي عرجاء، وأبرز مواقفه التي يحفظها التاريخ السياسي المغربي ما لم يفقد الذاكرة، تجلَّت حين لَوَّح وَهُو وزير للاتصال بالاستقالة من حكومة الأستاذ عبدالرحمن اليوسفي رحمه الله، رافضاً أن يكون بوقاً لصوت لا يَصْدُر من ضميره ذي الأنفة والكبرياء..؟
إذا كان الموت دقيقاً في حساباته البيولوجية وهو يختار التوقيت الذي يناسبه دون أن يناسبنا دائماً، في جعل الأرواح تتذوق نَزْعها الأخير؛ إذا كان الموت بهذه الدّقة المتناهية في صناعة الفراق ببرود ليس في قاموسه وداع، فإنه وهو يضع اليد على سي محمد العربي المساري، اختار إنساناً ما عرفته إلا دقيقاً في كل شيء، ولا يُسقط رقماً من حساباته ولو كان صفراً، حتى ليكادُ يسخَر من الموت؛ يُدركُ الدور البليغ للفاصلة ما دامت تصل ماضي الجُملة بمستقبلها دون أن يختل معنى ليس فقط في المقالة بل الحياة، وما دامت ستَعْقُبُ هذه الفاصلة الأحوج إلى وقفتها الرصينة حتى البلدان، ديمقراطية تعم كل صباحاتنا التي مازالت تغُطُّ في تثاؤب سحيق؛ ألم يبادرنا سي محمد العربي المساري بتحية هذا الصباح منذ 1985 في كتابه «صباح الخير للديمقراطية، للغد» ومازال الحلم يُساور أجفاننا في أن تطلع لهذا الصباح شمس ولا تبقى حبيسة الكتاب..!
تُراه رحل بعد أن فقد الأمل في أن ترد عليه الديمقراطية تحية الصباح بشمس أجمل مع فنجان قهوة قد يَتَّزن بمرارتها مزاج الأيام؟
أبداً، ونحن نرى على الأقل هذه الديمقراطية تتجسَّدُ وضَّاءة في وجهه البشوش الذي لم تقهره تجاعيد لا توجد جذورها عادة إلا في بعض القلوب؛ أبداً لم ييأس سي محمد العربي المساري، دون أن يلبس عباءة الديبلوماسي، من ديمقراطية تَعُمُّ البلد، وهو يتخذها سلوكاً يومياً كل صباح حتى تؤول إلى كلمة يكتبها لتشمل الناس بأفكار تستيقظ بالتغيير على واقعنا ولا تتخذه سريراً..!
للموت يَدٌ أقوى من يدنا، وهو الذي يمسك اليوم بقلمنا ليكتب كأنه يَخُطُّ مصيراً في الجبين، هذه الإفتتاحية بطعم النهايات؛ رحم الله مؤرخ ذاكرتنا التي ما فتئت تضعف قبراً بعد قبر برحيل رجالاتها الكبار الذين مثلما أثخنوا قلوبنا بأسى الموت ثقوباً، تركوا حياتنا الثقافية من دون حكمتهم السديدة فراغاً..!
صباح الخير سي محمد العربي المساري، ولك في الحياة الأخرى وأنت لا تنفصل عن ضمائرنا، كل الخُلود..!
............................
افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 10 شتنبر 2015