عبد السلام بنعبد العالي - الضحكُ الذهبيّْ

أميل الى تصنيف الفلاسفة حسب جودة ضحكهم، واضعاً في أعلى مرتبة أولئك الذين يقدرون على الضحك الذهبي.
نيتشه

السخرية متواضعة، أما التهكم فينمّ عن إحساس بالقوة. إنه لا يفتأ يتصيّد نقاط الضعف، وهو يصدر دوما عن ادعاء، صريح أو ضمني. يشعر المتهكم أنه من سلالة رفيعة. لذلك فهو لا يتهكم على نفسه. ليس هناك تهكم انعكاسي réflexif. على عكس السخرية التي تسخر من نفسها قبل كل شيء.
***
يشعر المتهكم أنه يتكلم ويكتب ويرسم من موقع الحقيقة والخير والجمال. ما يطبعه أخلاقيا، الثقة الزائدة بالنفس، ومعرفيا، الوثوقية والتمسك بالرأي، وجماليا، الإيمان بثبات القيم وسكونها. أما الساخر فلا يرتاح إلى نفسه، وما ذلك إلا لأنه يضع «الوضعية البشرية» برمّتها موضع سؤال.
***
تتولد السخرية عما يسمّيه سيغالين «صدمة التعدد»، تلك الصدمة التي لا تكتفي بأن تفتح أعيننا عما ليس إيانا وإنما تحدث فينا رجّة تجعلنا ننتبه إلى الآخر فينا، فتحُول بيننا وبين كل ثقة زائدة بالنفس، وكل وثوقية واعتقاد راسخ، وكل ما من شأنه أن يجعلنا نتهكم من الآخرين.
***
تترعرع السخرية في سياق لا يكتفي ب «تقبل» الآخر، وإنما يعتبره شرط وجوده، بل يعتبر «الأنا آخر»، فيرمي بالذات في حركة لامتناهية للإنفتاح تحول بينها وبين كل انطواء واكتفاء ذاتي.
***
لا يمكن للتهكم أن ينمو إلا في جوّ تسوده نظرية فقيرة عن الهوية، تكتفي بأن ترمي بالآخر في خارج مطلق، وتعتبر الاختلاف تمايزا فاصلا بين هويتين، بين شكلين للهوية يتعينان بخصائص ثابتة، ويتحددان في انفصال بعضهما عن بعض.
***
يشعر السّاخر بضعف التفرّد أمام قوة التعدد، وضيق التوحّد أمام شساعة التنوع، وفقر الاقتصار على الأنا أمام غنى الآخر، وحدود الانطواء على الذات أمام لانهائية الأبعاد الممكنة. آنئذ لا يمكنه أن يتعصّب لرأي، أو يتعلق بنموذج بعينه فيكفّ عن التهكّم من الآخر ليسخر من ذاته ومن الآخر الذي يقطنه.
***
لا يستند السّاخر على أيّة سلطة، لكنه لا يُنصّب من نفسه سلطة. وهو لا يمكن أن يكون جهة الاستبداد والوثوقية والانغلاق. إنه يسعى، على العكس من ذلك، وراء فتح الأبواب والانفلات من قوة الاشياء، لكن أيضا من «قوة الكلمات» و»فاشيستية اللغة».
***
التهكم فنّ الإحراج، فن نصب الشّرك وإيقاع الضّحية، فنّ التحايل بل الاحتيال، فنّ اللعب بالألفاظ وتلوينها، فن الإرباك، فن توليد الأحروجات dilemmes. أما السخرية فهي فن توليد المفارقات paradoxes. الأحروجة تعثر منطقي، أما المفارقة فهي تيه أنطولوجي.
***
السّخرية مجال المفارقات: إنها في الآن نفسه مرح ومأساة، سكون وحركة، معنى ولا معنى، شك ويقين، عقل ولاعقل..لا يعني ذلك على الإطلاق أنها استهتار وموقف عدمي. ومع ذلك فهي لا تعترف للأمور بالضرورة التي تدّعيها، إنها ترى أن الأشياء محكومة دوما بجواز Contingence، أي أن بإمكانها دوما أن تكون غير ما هي عليه.
***
يعمل التهكّم جهة البدايات والمبادئ. إنه فن التأسيس، فن الحفر وراء أساس جديد تقام عليه الأسس. إنه فنّ التقصّي و»التحقيق» (البوليسي). لذا فهو يسلك طريق الاستفسارات المتلاحقة، ويركب الحوار والجدال، وينهج طريق النقاش المستفز. أما السخرية فهي لا تشغل بالها بالأسس، وهي لا تنجرّ إلى الجدال. ما يهمّها هو الكل، هو الحصيلة، هو الأمور وقد تشابكت وتعقدت فغدت قابلة لأن تنفضح، لأن تفضح نفسها، وتكشف عن سرّها الذي لا سرّ من ورائه.
***
بيّن ج. دولوز أن ما يضمّ جميع أشكال التهكم (سواء في شكله السقراطي أو كما هو عند كييركغارد) هو أنها تتم على أرضية ميتافيزيقية. فهي تسجن التفردات في حدود الفرد والشخص، بحيث لا يكون التهكم «متسكعا» إلا في المظهر. لنتذكر أن سقراط لم يخرج عن آغورا المدينة. أما سخرية نيتشه فهي فنّ التفردات الرحّالة والنقاط العشوائية التي لا تنفكّ تتنقل.
***
السّخرية هي فنّ السطوح والانثناءات. إنها ما به «تتسطّح» الأعماق وتتهاوى الأعالي، ليبرز سموّ السطوح وعمقها، ويفتضح الوقار الكاذب للفكر الذي يأبى أن يشغل باله بتوافه الأمور، فلا يولي كبير اهتمام للعابر الزائل المتبدّل، ويظل عالقا بالثوابت، وما كان من الموضوعات سامياً «شريفاً».
***
تفترض السّخرية سوء تفاهم أصلي، وهي بعيدة عن كل مباشرة: الدلالات في منظورها غايات ونتائج جهد وعراك و»عنف». إنها بنات الليالي المعتمة، وليست وليدة الصّباحات الوضّاءة.
***
سقراط متهكم، نيتشه ساخر. سقراط يقمع ديونيزوس الذي يظل مختفيا وراءه. أما نيتشه فيضع بين المتهكم التقليدي والحكيم المتعقل شخصية «الشاعر- المغنّي- الرّاقص» الذي يقدر وحده على «الضّحك الذهبي»، حيث تغدو السخرية في الآن نفسه سخرية مأساوية ومأساة ساخرة.

عبد السلام بنعبد العالي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى