بين كَمٍّ من الفسائل والنُخَيْلات المتواضعة الارتفاع، انفردت بامتيازها: تلك النخلة الشاهقة الوحيدة .
و كانت السحب الداكنة اللون المثقلة بغيثها وبدمدمة رعدها المتوحش، تمر تباعاً من فوقها دون أن تُنتابها خشية. والريح الصرصرلا تلحق أي أذى ولو بسعفة واحدة من سعفاتها . والمزن البيض تلقي عليها التحية بظلالها الشفيف وتمضي . والنسيم الوديع يؤنسها،ويجلب الطيور البديعة لتصدح لها أعذب الألحان . مرحبة بها بغبطة. ويلوذ بعضها إلى قلبها الأمين . باسقة شيماء، مشرفة على المفازات الرحبة بكل اقتدار .
إنها الأم الكبيرة لكل النخيل . قاومت بجسدها عوامل القسوة الموجعة ، وحِدَّة شأفة سكين التكريب ، والتشذيب الجائر والعبث . لكنها في آخر المطاف : لا ينتابها سوى إحساس لطيف، إحساس، أحياناً يشعرها بالصبر الجميل وحكمة القلب، كونها مزروعة صامدة أمام الملمات .
بودِّها أن تنحني لتُقَبِّل حفيداتها وأحفادها جميعا، لكن ذلك ـ كشأنها دائماً ـ يتعذر عليها. ويراودها حلم، أن تطأ كل مرج . وتتفسح في الأرض الواسعة ألتي ملأتها نخيلاً وفسائل .
في بداية ربيع العمر وحتى أطرافه ، تلوح تماماً كنخلة عنقاء . تنفرد بقامة مديدة دون انحناء. محتفظة رغم السنين العجاف برشاقة جذعها المجدور ، بعوامل الزمن وعبث السناجب والجرذان وقسوة العابثين . دون أن تبخل بقّوتها لكي تزهو سعفاتها وتجزل بعطاء عذوقها . ولكن صدمات الزمن والخواء ظلت تبصم جذعها طيلة الأعوام اللاحقة بالأخاديد والفجوات .
مع كل ذلك .. لم تنشأ أية مناسبة إلاّ وفاح أريج طلعها وعلى ابعد ما تستطيع من الفيافي .
واخضرت مرابع الواحات، واحدة تلو اُخرى، من فسائلها التي تحولت إلى أمهات تتأزَّر بفسائلها وتزدان بطلعها. فظل الربيع يفوح بالطيب مثل أزهار زكية العطر، لتجلب البستاني والطيور المعفرة بحبيبات اللقاح، وتستمر بإنشاء مستعمرات هنا وهناك .
هكذا أجهدها وقت العطاء . وظلت تستهين بشكوى الأوجاع، التي هيمنت عليها بآهات القلب الحكيم . ومع ذلك لا تفارقها ابتسامتها المثقلة بالاعياء . حان ذلك الوقت، وعلى مفازات مترامية، أن تسعد بنشأة تلك البقع الخضراء من الفسائل الزاهية . ثم تتمعن بقلبها : الذي ما عاد يمتلك قوته ويتماسك . بذات المكابرة والجلادة التي رقصت لها سعفاتها، وازدادت عذوقها شهداً. وهي صاحبة قرار كالقدر الذي من الصعب أن ينحني أمام عوامل الدهر. هكذا هو قلبها بحبه، لا يخضع في مسيرته للتغيرات . ولكنها تقر العوامل التي تؤمن باختلاف ازدهار حياتها في الربيع، وجفوله لاحقاً في الخريف . دأبها في العطاء مديد جداً . وأشد خشية تخشاها أن يحوجها القدر لكي تجنح لغدر الخريف، أو تذعن إلى داعمٍ تتكئ عليه، لأنها في الغالب تحدس ما يخفيه الزمن من إجهاد قد يفاجئها في آخر المطاف ، فهي تأنف من إبداء العجز .
غير ان ما يواسيها شعورها بأنها قد أعطت الشيء الكثير . وحمّلت النهير ألمسرع من حذوها شوقها و محبتها إلى فناءات نسلها .
كم واجهت من عواصف وصقيع؟ منذ أن كانت فتية حتى شاخت وكم أعطت من ثمار؟ وكم رصدت من علوّها الشاهق، ما خفي على العين، من كبائر الأمور حتى أهونها؟ مع كل هذا .. هي غير آسفة على شيء . إنها راضية عن مسار عمرها .
إنها أحياناً، لا تكاد أن تتعرف على أُحاديات مكونات قلبها ألذي وزعته نواة نواة. وفسيلة فسيلة . ربما بسبب جنوح العمر . هذا وارد . ربما فاض إناؤها بوفرة أعداد فسائلها . ومدياتها التي حَوَتْ تلك المرابع العديدة المترامية. ربما هو هذا الذي يحسسها بأن : قلبها تَحَوّرَ إلى عطر من الحب والإنجاب. ربما عوامل الزمن والافتراق واستضاءة سفوح الذاكرة . وما أعذب غفرانها لمن يلومها لوم المحبين . بحيث لو رغبت فسيلة من صلبها أن ترحل إلى مزرعة عبر النهير . وسألتها :
ـ أيتها الجدة .. سيحين الوقت الذي أقول فيه : وداعاً .
فتقول لها هامسة باسمة :
ـ وداعك يا بنيتي سيتحَتَّم عليّ أن أُسعد؟
فتقول الفسيلة وهي تتمايل غنجاً :
ـ أما يحزنك رحيلي؟
فتقول الجدة :
ـ هكذا هي الحياة يا بنيتي، ألرحيل إلى حيث العطاء . ستعثرين على سعادة من نوع آخر .
ـ لكني ما زلت لم أبلغ بعد .. أتعرفينني ابنة من ؟
حينذاك تلجأ الجدة إلى النبش بكوابح إخفاقاتها . وبعناء، تحاول استدراج ذاكرتها . فتصاب بالإخفاق، ثم تستكين : إلى ما هو أشبه بهباء مسكيٍّ من الابتسامة والخجل . أو محاولة لإبداء عذر عن خيبتها :
ـ أنا يا بُنَيَّتي نَثَرْت النوى والفسائل . فأمك حتماً من فسائلي أو نوى عذوقي . إذن، أيتها الفسيلة الرشيقة الحلوة : من الكرم أن تَغفري إخفاق ذاكرة الجدة المديدة العمر الواهنة . لكني أشم في الكل جميعاً أريج ربيعي . أنا حيث كنت بهية بما رفدتُ وأفدتُ وأذكيتُ . وأنشأتُ مستعمرات من القلوب ذات المشاعر الشذية . وإن قلبي أحسه يتدفق عبر نبضكن .
كانت النخلة الجدة، دائماً تهيم في عالم من التأمل .عالم مزدحم بالواحات والجنائن . عالم جوَّال في نبش الذكريات الغابرة . وسني العز . وما أُطْرِيَتْ به من إعجاب. والآن .. لا ترهقها قناعتها : أنها ليست إلاّ زائرة سريعة الرحيل . أشبه بنسيم سرعان ما يعود إلى مجرد ذكرى عابرة . لا تترك سوى طيف شوق، وإطراء حميد . وعجالة استراحة في عالم عِطْرِ عذوقها العتيقة .
تَتْعِبُها وتسعدها، وتحرجها أسئلة الفسائل . إنها تحب الجميع . ولكن الذاكرة أحياناً لا تُسْعِف .
****
ذات يوم، وقف البستاني وولده متطلعاً إلى الجذع المديد، بعينين مُتبحِّرتين، واطرق يفكر.
حزرت الجدة النخلة :
ـ إن نظرات الرجل مريبة !!!
نادَمَ البستاني ولده :
ـ إنها شاهقة جداً ومضنية التسلق . وما دمنا نحتاج إلى جسر : فإن جذعها يكفي، لتقطيعه إلى أجزاء ورصفّها بعض لبعض . لكي ننشئ بستاناً عبر الجهة المقابلة .
ابتسمت الجدة بحزن، اهتزت سعفاتُها كجناح طير . وسرحت بنظرها عبر المسافات الزاهية الخضرة، وقالت مع نفسها :
ـ ما أعطيته يكفي ... وقد تطوّح بي الريح ، فأنا ما عدت مُنشدَّة القوام كما كنت سابقاً، وأكاد أن أكون خاوية، حين ذاك ستكون وقعتي مهينة .
و بعد أن تريثت قليلاً تابعت :
ـ لا أريد هزيمة من هذا النوع . وما دامت المسألة تتعلق بإنشاء بستان :
فعلاً سيسعدني أن أكون جسراً .
موسى غافل الشطري
2011/12/1
و كانت السحب الداكنة اللون المثقلة بغيثها وبدمدمة رعدها المتوحش، تمر تباعاً من فوقها دون أن تُنتابها خشية. والريح الصرصرلا تلحق أي أذى ولو بسعفة واحدة من سعفاتها . والمزن البيض تلقي عليها التحية بظلالها الشفيف وتمضي . والنسيم الوديع يؤنسها،ويجلب الطيور البديعة لتصدح لها أعذب الألحان . مرحبة بها بغبطة. ويلوذ بعضها إلى قلبها الأمين . باسقة شيماء، مشرفة على المفازات الرحبة بكل اقتدار .
إنها الأم الكبيرة لكل النخيل . قاومت بجسدها عوامل القسوة الموجعة ، وحِدَّة شأفة سكين التكريب ، والتشذيب الجائر والعبث . لكنها في آخر المطاف : لا ينتابها سوى إحساس لطيف، إحساس، أحياناً يشعرها بالصبر الجميل وحكمة القلب، كونها مزروعة صامدة أمام الملمات .
بودِّها أن تنحني لتُقَبِّل حفيداتها وأحفادها جميعا، لكن ذلك ـ كشأنها دائماً ـ يتعذر عليها. ويراودها حلم، أن تطأ كل مرج . وتتفسح في الأرض الواسعة ألتي ملأتها نخيلاً وفسائل .
في بداية ربيع العمر وحتى أطرافه ، تلوح تماماً كنخلة عنقاء . تنفرد بقامة مديدة دون انحناء. محتفظة رغم السنين العجاف برشاقة جذعها المجدور ، بعوامل الزمن وعبث السناجب والجرذان وقسوة العابثين . دون أن تبخل بقّوتها لكي تزهو سعفاتها وتجزل بعطاء عذوقها . ولكن صدمات الزمن والخواء ظلت تبصم جذعها طيلة الأعوام اللاحقة بالأخاديد والفجوات .
مع كل ذلك .. لم تنشأ أية مناسبة إلاّ وفاح أريج طلعها وعلى ابعد ما تستطيع من الفيافي .
واخضرت مرابع الواحات، واحدة تلو اُخرى، من فسائلها التي تحولت إلى أمهات تتأزَّر بفسائلها وتزدان بطلعها. فظل الربيع يفوح بالطيب مثل أزهار زكية العطر، لتجلب البستاني والطيور المعفرة بحبيبات اللقاح، وتستمر بإنشاء مستعمرات هنا وهناك .
هكذا أجهدها وقت العطاء . وظلت تستهين بشكوى الأوجاع، التي هيمنت عليها بآهات القلب الحكيم . ومع ذلك لا تفارقها ابتسامتها المثقلة بالاعياء . حان ذلك الوقت، وعلى مفازات مترامية، أن تسعد بنشأة تلك البقع الخضراء من الفسائل الزاهية . ثم تتمعن بقلبها : الذي ما عاد يمتلك قوته ويتماسك . بذات المكابرة والجلادة التي رقصت لها سعفاتها، وازدادت عذوقها شهداً. وهي صاحبة قرار كالقدر الذي من الصعب أن ينحني أمام عوامل الدهر. هكذا هو قلبها بحبه، لا يخضع في مسيرته للتغيرات . ولكنها تقر العوامل التي تؤمن باختلاف ازدهار حياتها في الربيع، وجفوله لاحقاً في الخريف . دأبها في العطاء مديد جداً . وأشد خشية تخشاها أن يحوجها القدر لكي تجنح لغدر الخريف، أو تذعن إلى داعمٍ تتكئ عليه، لأنها في الغالب تحدس ما يخفيه الزمن من إجهاد قد يفاجئها في آخر المطاف ، فهي تأنف من إبداء العجز .
غير ان ما يواسيها شعورها بأنها قد أعطت الشيء الكثير . وحمّلت النهير ألمسرع من حذوها شوقها و محبتها إلى فناءات نسلها .
كم واجهت من عواصف وصقيع؟ منذ أن كانت فتية حتى شاخت وكم أعطت من ثمار؟ وكم رصدت من علوّها الشاهق، ما خفي على العين، من كبائر الأمور حتى أهونها؟ مع كل هذا .. هي غير آسفة على شيء . إنها راضية عن مسار عمرها .
إنها أحياناً، لا تكاد أن تتعرف على أُحاديات مكونات قلبها ألذي وزعته نواة نواة. وفسيلة فسيلة . ربما بسبب جنوح العمر . هذا وارد . ربما فاض إناؤها بوفرة أعداد فسائلها . ومدياتها التي حَوَتْ تلك المرابع العديدة المترامية. ربما هو هذا الذي يحسسها بأن : قلبها تَحَوّرَ إلى عطر من الحب والإنجاب. ربما عوامل الزمن والافتراق واستضاءة سفوح الذاكرة . وما أعذب غفرانها لمن يلومها لوم المحبين . بحيث لو رغبت فسيلة من صلبها أن ترحل إلى مزرعة عبر النهير . وسألتها :
ـ أيتها الجدة .. سيحين الوقت الذي أقول فيه : وداعاً .
فتقول لها هامسة باسمة :
ـ وداعك يا بنيتي سيتحَتَّم عليّ أن أُسعد؟
فتقول الفسيلة وهي تتمايل غنجاً :
ـ أما يحزنك رحيلي؟
فتقول الجدة :
ـ هكذا هي الحياة يا بنيتي، ألرحيل إلى حيث العطاء . ستعثرين على سعادة من نوع آخر .
ـ لكني ما زلت لم أبلغ بعد .. أتعرفينني ابنة من ؟
حينذاك تلجأ الجدة إلى النبش بكوابح إخفاقاتها . وبعناء، تحاول استدراج ذاكرتها . فتصاب بالإخفاق، ثم تستكين : إلى ما هو أشبه بهباء مسكيٍّ من الابتسامة والخجل . أو محاولة لإبداء عذر عن خيبتها :
ـ أنا يا بُنَيَّتي نَثَرْت النوى والفسائل . فأمك حتماً من فسائلي أو نوى عذوقي . إذن، أيتها الفسيلة الرشيقة الحلوة : من الكرم أن تَغفري إخفاق ذاكرة الجدة المديدة العمر الواهنة . لكني أشم في الكل جميعاً أريج ربيعي . أنا حيث كنت بهية بما رفدتُ وأفدتُ وأذكيتُ . وأنشأتُ مستعمرات من القلوب ذات المشاعر الشذية . وإن قلبي أحسه يتدفق عبر نبضكن .
كانت النخلة الجدة، دائماً تهيم في عالم من التأمل .عالم مزدحم بالواحات والجنائن . عالم جوَّال في نبش الذكريات الغابرة . وسني العز . وما أُطْرِيَتْ به من إعجاب. والآن .. لا ترهقها قناعتها : أنها ليست إلاّ زائرة سريعة الرحيل . أشبه بنسيم سرعان ما يعود إلى مجرد ذكرى عابرة . لا تترك سوى طيف شوق، وإطراء حميد . وعجالة استراحة في عالم عِطْرِ عذوقها العتيقة .
تَتْعِبُها وتسعدها، وتحرجها أسئلة الفسائل . إنها تحب الجميع . ولكن الذاكرة أحياناً لا تُسْعِف .
****
ذات يوم، وقف البستاني وولده متطلعاً إلى الجذع المديد، بعينين مُتبحِّرتين، واطرق يفكر.
حزرت الجدة النخلة :
ـ إن نظرات الرجل مريبة !!!
نادَمَ البستاني ولده :
ـ إنها شاهقة جداً ومضنية التسلق . وما دمنا نحتاج إلى جسر : فإن جذعها يكفي، لتقطيعه إلى أجزاء ورصفّها بعض لبعض . لكي ننشئ بستاناً عبر الجهة المقابلة .
ابتسمت الجدة بحزن، اهتزت سعفاتُها كجناح طير . وسرحت بنظرها عبر المسافات الزاهية الخضرة، وقالت مع نفسها :
ـ ما أعطيته يكفي ... وقد تطوّح بي الريح ، فأنا ما عدت مُنشدَّة القوام كما كنت سابقاً، وأكاد أن أكون خاوية، حين ذاك ستكون وقعتي مهينة .
و بعد أن تريثت قليلاً تابعت :
ـ لا أريد هزيمة من هذا النوع . وما دامت المسألة تتعلق بإنشاء بستان :
فعلاً سيسعدني أن أكون جسراً .
موسى غافل الشطري
2011/12/1