ذهب متأدِّبٌ يُدعى فونغ – يانغ في بعثة دراسية مدَّتها ستة أشهر. وبعد مُضيِّ عشرة أشهر ولم يَرشَح عن أخباره شيء، بدأت زوجته تقلق.
وذات ليلة، وكانت تهمّ بالاستلقاء في فراشها، رأت ظلا يتراءى على ستار النافذة المضاء بأشعة القمر. وقبل أن تتمالك دهشتها، رفع الستار وبدت فتاة جميلة في ثوب بنفسجي، شعرها معقود باللآلئ؛ دخلت وخاطبتها مبتسمة.
- أتريدين رؤية زوجك؟ تعالي معي.
والمرأة مرتبكة:
- لا تخافين، قالت الصبيّة وهي تمسك بيدها.
وها هما تنطلقان تحت ضوء القمر. والصبيّة تسرع في مشيتها، والمرأة تجد صعوبة في اللحاق بها من الألم الذي يسببه لها نعلاها. فأعارتها الصبية نعليها وباتت كأنها امتلكت جناحين. وسرعان ما شاهدا المتأدّب في طريقه إليهما على ظهر بغل أبيض. وبدا مدهوشاً لرؤية زوجته وعجَّل في النزول عن ركوبته ليكلِّمها.
- كنت ذاهبة لأراك، قالت.
فأشار، عندها، إلى الصبية، ولكن لم يتسع وقت المرأة للإجابة؛ إذ وضعت الصبية كفَّها على فم المرأة ضاحكة، وقالت:
- لا تسألها، فهي متعبة ولا بد أن تكون متعبا أنت أيضا وكذلك دابتك. تعالا إذن واستريحا قليلا في بيتي، فأنا أسكن في الجوار، وفي الغد تنطلقان في طريق العودة.
وعلى بعد خطوات وجدوا قرية بالفعل ودخلوا إلى حوش أحد بيوتها، وحين نادت الصبيّة خرجت من الدار خادمة فقالت لها:
- الليلة مُقمرة، فلا داعي للمصباح. ستجدان على هذه السّطيحة مقاعد حجر فاقتعداها. فربط المتأدِّب بغله إلى مقدم السّقيفة وجلسا. وقدمت لهما وجبة خفيفة. فبادرت الصبية إلى القول:
- بما أن طائري الفينيق اجتمعا أخيرا بعد طول غياب، اسمحا لي أن أشرب كأسا في صحتهما.
فجازاها المتأدِّبُ، وسرعان ما أصبحت المسامرة فكهة وشديدة الطلاقة. كان يلتهم الصبيّة بعينيه ولا يتحرّج أن يُسِرَّ إليها ببعض الكلام المعسول. وإذا صادفت عيناه امرأته بنظرة عابرة، لم يكن يجد ولو كلاما فاترا يخاطبها به. كانت عينا الصبيّة ممتلئتين بحُنُوٍّ غامر، حتى أسرَّت إليه ببعض التلميحات الزاخرة بالوعود، وكانت المرأة التي تجلس منفردة تتصنّعُ عدم الفهم. فباتت المحادثة أكثر ألفة. وعندما قدّمت الصبيّة كأسا أخرى للمتأدّب قال لها إنه شرب كفاية. فأصرّت.
- أوافق، قال مُذعنا، ولكن بشرط أن تنشدي لي أغنية.
ولم تنتظر الصبيّة أن يُلحَّ عليها فأنشدت وهي تضرب أوتار الأرغن بريشة من عاج:
"عند المغيب أضع زينتي / وينسل نسيم الغرب من خلل الستائر / أسمع همسا / فيهطل رذاذ مُزْنة نحيلة / ليس لديَّ من أهديه أنشودتي / أفكاري تشق أمواج الخريف / ولا أراه عائدا / دموعي تُمطر مثل بذور القنب / هو ساكن أفكاري / وهو الذي أفتقده ندما / لذلك أرمي في الهواء حذائي الـمُطرَّز بالأحمر / وأطلب من القدر أن يعود".
وأضافت:
- إنها ليست سوى أغنيةٍ شعبية لا تليق بكما، ولكنها على الموضة اليوم ولا أُجيد غيرها.
كان لفظُها شهوانيا ونبرتُها بارعة الإغواء، فأحسَّ المتأدّب باضطراب اجتهد أن يُخفيَهُ. عندئذ تصنّعت الصبيّة النعاس، وغادرت المائدة. فنهض المتأدّب وتبعها. وحين وجدته الخادمة تأخّر في العودة أحسّت بالتعب وذهبت للنوم تحت السّقيفة. وكانت المرأة التي أَضْنَتْها المهلة والألم والفكر في العودة إلى منزلها لكن ظلمة الليل باتت كاملة ولا تذكر طريق العودة. فأخذت تذرع المكان، حائرة فيما تستطيع أن تفعل، وفجأة خطر لها أن تقترب من النافذة. فسمعت ضجة مصدرها الداخل، ضجة مكتومة لا تترك للشك مجالا، وفيما هي تُصغي بانتباه، تعرّفت، بفضل ذكرياتها الشخصية، على صوت زوجها. وكانت هذه القشّة التي قصمتها، كانت يداها ترتعشان وقلبها يخفق بقوة. وبدل أن تظل واقفة مكانها أرادت أن تخرج إلى العراء وتختبئ في حفرة على الطريق لتموت فيها بسلام. عندئذ لمحت شقيقها سين – لينغ يعبر على صهوة حصانه في الطريق. رآها وترجَّل، وبعد أن سألها: ما الخطب، دخل معها إلى الحوش وهو يشعر بالمهانة. كان باب المنزل مُغلقا، ومن الداخل، وكأنها زقزقة، أحاديث الوسادة الرقيقة. عندها أخذ سين – لينغ حجرا كبيرا بحجم صاع ورماه عبر النافذة التي تطايرت ستائرها الزجاجية نِثارا. وعلا صراخ:
- لقد شج رأسه! يا للهول!
وعند سماع هذه الكلمات ذابت المرأة في دموعها:
- لم أطلب منك أن تقتله. فماذا عساهُ يحلّ بنا الآن؟
ولكن سين – لينغ حَدَجَها بنظرة غاضبة وقال:
- لقد رجوتني لأصحبكِ إلى هنا فأشفقت على أساكِ. وها أنت تنحازين إلى صف زوجك ضدّ شقيقك؟ لست في مزاج يسمح لي بأن أمتثل لنزوات امرأة.
وأراد أن يذهب، لكنها تشبّثت بثيابه:
- إذا لم تأخذني معك فماذا سيحلُّ بي؟
ولكن سين – لينغ دفعها ليتخلص منها فرماها أرضاً. وفي تلك اللحظة، بالذات، استيقظت وأيقنت أنه لم يكن سوى مجرّدِ حلم.
في اليوم التالي ظلّت بكماءَ لهول المفاجأة حين رأت زوجها عائدا، يمتطي بغلا أبيض. وحدث أنه، أيضا، رأى الحلم نفسه هذه الليلة، وحين روت له زوجته حلمها وجده يتطابق تفصيلا بتفصيل مع الحلم الذي رأته هي. ثم جاء سين – لينغ للاطمئنان إلى سلامة صهره، وكان أول ما قاله له:
- لقد حلمت، الليلة الفائتة، أنك عُدتَ وها أنت عُدتَ فعلاً. إنه أمر عجيب.
- لحسن الحظ، أضاف فونغ – يانغ ضاحكاً، أنك لم تقتلني بذلك الحجر الكبير.
- كيف عرفت؟ سأل سين – لينغ.
كانت الأحلامُ الثلاثةُ متطابقةً. ولكن، لا أحد استطاعَ أن يعرفَ من تكون تلك الصبيّة الجميلة.
=============================
بيو سونغ – لنغ (1640 – 1715) كاتب من سلالة كينغ، وُلد بإقليم شاندونغ بالصين. لم يتوقف طوال حياته عن الكتابة رغم أنه مارس العديد من المهن البعيدة عن الأدب. ألّف كتبا تبسيطية مُوجّهة للعموم حول القراءة والفلاحة، وألّف كتاباً بيوغرافياً عن زوجته عقب وفاتها سنة 1712.
كرّس جزءاً كبيراً من حياته لإنجاز كتاب "حكايات غريبة من محترَف الثرثار"، وكتبه باللغة الصينية الكلاسيكية، ويضُمُّ حكايات قصيرة تتسم بالغرابة. في جُلِّ محكياته، يُصادف البطلُ الحبَّ الحقيقيَّ مع امرأة غير عادية في سياق يصْطَبِغُ بملامح عجائبية.
تشكِّلُ قصة "الصبيّة الجميلة من مقصورة لياو" جزءا من أقاصيص غريبة من مقصورة لياو، وتقوم على الحس الغرائبي الشديد البساطة الذي وسَمَ إنتاج الصين الكلاسيكية، وتنبني على مزيجٍ من الخرافة والقدرية والفكاهة المُرّة، وكلها محمّلة في الحكمة "التاوية".
المصدر: عن "الوقت لا ينقضي، قصص قصيرة من العالم"، ترجمة بسّام حجّار، المركز الثقافي العربي 2007. عن "لسان الفراشات، مختارات ورشة القصة"، الكتاب الثاني، منشورات مجموعة البحث في القصة بالمغرب، الكتاب الثالث، الطبعة الأولى، 2013.
وذات ليلة، وكانت تهمّ بالاستلقاء في فراشها، رأت ظلا يتراءى على ستار النافذة المضاء بأشعة القمر. وقبل أن تتمالك دهشتها، رفع الستار وبدت فتاة جميلة في ثوب بنفسجي، شعرها معقود باللآلئ؛ دخلت وخاطبتها مبتسمة.
- أتريدين رؤية زوجك؟ تعالي معي.
والمرأة مرتبكة:
- لا تخافين، قالت الصبيّة وهي تمسك بيدها.
وها هما تنطلقان تحت ضوء القمر. والصبيّة تسرع في مشيتها، والمرأة تجد صعوبة في اللحاق بها من الألم الذي يسببه لها نعلاها. فأعارتها الصبية نعليها وباتت كأنها امتلكت جناحين. وسرعان ما شاهدا المتأدّب في طريقه إليهما على ظهر بغل أبيض. وبدا مدهوشاً لرؤية زوجته وعجَّل في النزول عن ركوبته ليكلِّمها.
- كنت ذاهبة لأراك، قالت.
فأشار، عندها، إلى الصبية، ولكن لم يتسع وقت المرأة للإجابة؛ إذ وضعت الصبية كفَّها على فم المرأة ضاحكة، وقالت:
- لا تسألها، فهي متعبة ولا بد أن تكون متعبا أنت أيضا وكذلك دابتك. تعالا إذن واستريحا قليلا في بيتي، فأنا أسكن في الجوار، وفي الغد تنطلقان في طريق العودة.
وعلى بعد خطوات وجدوا قرية بالفعل ودخلوا إلى حوش أحد بيوتها، وحين نادت الصبيّة خرجت من الدار خادمة فقالت لها:
- الليلة مُقمرة، فلا داعي للمصباح. ستجدان على هذه السّطيحة مقاعد حجر فاقتعداها. فربط المتأدِّب بغله إلى مقدم السّقيفة وجلسا. وقدمت لهما وجبة خفيفة. فبادرت الصبية إلى القول:
- بما أن طائري الفينيق اجتمعا أخيرا بعد طول غياب، اسمحا لي أن أشرب كأسا في صحتهما.
فجازاها المتأدِّبُ، وسرعان ما أصبحت المسامرة فكهة وشديدة الطلاقة. كان يلتهم الصبيّة بعينيه ولا يتحرّج أن يُسِرَّ إليها ببعض الكلام المعسول. وإذا صادفت عيناه امرأته بنظرة عابرة، لم يكن يجد ولو كلاما فاترا يخاطبها به. كانت عينا الصبيّة ممتلئتين بحُنُوٍّ غامر، حتى أسرَّت إليه ببعض التلميحات الزاخرة بالوعود، وكانت المرأة التي تجلس منفردة تتصنّعُ عدم الفهم. فباتت المحادثة أكثر ألفة. وعندما قدّمت الصبيّة كأسا أخرى للمتأدّب قال لها إنه شرب كفاية. فأصرّت.
- أوافق، قال مُذعنا، ولكن بشرط أن تنشدي لي أغنية.
ولم تنتظر الصبيّة أن يُلحَّ عليها فأنشدت وهي تضرب أوتار الأرغن بريشة من عاج:
"عند المغيب أضع زينتي / وينسل نسيم الغرب من خلل الستائر / أسمع همسا / فيهطل رذاذ مُزْنة نحيلة / ليس لديَّ من أهديه أنشودتي / أفكاري تشق أمواج الخريف / ولا أراه عائدا / دموعي تُمطر مثل بذور القنب / هو ساكن أفكاري / وهو الذي أفتقده ندما / لذلك أرمي في الهواء حذائي الـمُطرَّز بالأحمر / وأطلب من القدر أن يعود".
وأضافت:
- إنها ليست سوى أغنيةٍ شعبية لا تليق بكما، ولكنها على الموضة اليوم ولا أُجيد غيرها.
كان لفظُها شهوانيا ونبرتُها بارعة الإغواء، فأحسَّ المتأدّب باضطراب اجتهد أن يُخفيَهُ. عندئذ تصنّعت الصبيّة النعاس، وغادرت المائدة. فنهض المتأدّب وتبعها. وحين وجدته الخادمة تأخّر في العودة أحسّت بالتعب وذهبت للنوم تحت السّقيفة. وكانت المرأة التي أَضْنَتْها المهلة والألم والفكر في العودة إلى منزلها لكن ظلمة الليل باتت كاملة ولا تذكر طريق العودة. فأخذت تذرع المكان، حائرة فيما تستطيع أن تفعل، وفجأة خطر لها أن تقترب من النافذة. فسمعت ضجة مصدرها الداخل، ضجة مكتومة لا تترك للشك مجالا، وفيما هي تُصغي بانتباه، تعرّفت، بفضل ذكرياتها الشخصية، على صوت زوجها. وكانت هذه القشّة التي قصمتها، كانت يداها ترتعشان وقلبها يخفق بقوة. وبدل أن تظل واقفة مكانها أرادت أن تخرج إلى العراء وتختبئ في حفرة على الطريق لتموت فيها بسلام. عندئذ لمحت شقيقها سين – لينغ يعبر على صهوة حصانه في الطريق. رآها وترجَّل، وبعد أن سألها: ما الخطب، دخل معها إلى الحوش وهو يشعر بالمهانة. كان باب المنزل مُغلقا، ومن الداخل، وكأنها زقزقة، أحاديث الوسادة الرقيقة. عندها أخذ سين – لينغ حجرا كبيرا بحجم صاع ورماه عبر النافذة التي تطايرت ستائرها الزجاجية نِثارا. وعلا صراخ:
- لقد شج رأسه! يا للهول!
وعند سماع هذه الكلمات ذابت المرأة في دموعها:
- لم أطلب منك أن تقتله. فماذا عساهُ يحلّ بنا الآن؟
ولكن سين – لينغ حَدَجَها بنظرة غاضبة وقال:
- لقد رجوتني لأصحبكِ إلى هنا فأشفقت على أساكِ. وها أنت تنحازين إلى صف زوجك ضدّ شقيقك؟ لست في مزاج يسمح لي بأن أمتثل لنزوات امرأة.
وأراد أن يذهب، لكنها تشبّثت بثيابه:
- إذا لم تأخذني معك فماذا سيحلُّ بي؟
ولكن سين – لينغ دفعها ليتخلص منها فرماها أرضاً. وفي تلك اللحظة، بالذات، استيقظت وأيقنت أنه لم يكن سوى مجرّدِ حلم.
في اليوم التالي ظلّت بكماءَ لهول المفاجأة حين رأت زوجها عائدا، يمتطي بغلا أبيض. وحدث أنه، أيضا، رأى الحلم نفسه هذه الليلة، وحين روت له زوجته حلمها وجده يتطابق تفصيلا بتفصيل مع الحلم الذي رأته هي. ثم جاء سين – لينغ للاطمئنان إلى سلامة صهره، وكان أول ما قاله له:
- لقد حلمت، الليلة الفائتة، أنك عُدتَ وها أنت عُدتَ فعلاً. إنه أمر عجيب.
- لحسن الحظ، أضاف فونغ – يانغ ضاحكاً، أنك لم تقتلني بذلك الحجر الكبير.
- كيف عرفت؟ سأل سين – لينغ.
كانت الأحلامُ الثلاثةُ متطابقةً. ولكن، لا أحد استطاعَ أن يعرفَ من تكون تلك الصبيّة الجميلة.
=============================
بيو سونغ – لنغ (1640 – 1715) كاتب من سلالة كينغ، وُلد بإقليم شاندونغ بالصين. لم يتوقف طوال حياته عن الكتابة رغم أنه مارس العديد من المهن البعيدة عن الأدب. ألّف كتبا تبسيطية مُوجّهة للعموم حول القراءة والفلاحة، وألّف كتاباً بيوغرافياً عن زوجته عقب وفاتها سنة 1712.
كرّس جزءاً كبيراً من حياته لإنجاز كتاب "حكايات غريبة من محترَف الثرثار"، وكتبه باللغة الصينية الكلاسيكية، ويضُمُّ حكايات قصيرة تتسم بالغرابة. في جُلِّ محكياته، يُصادف البطلُ الحبَّ الحقيقيَّ مع امرأة غير عادية في سياق يصْطَبِغُ بملامح عجائبية.
تشكِّلُ قصة "الصبيّة الجميلة من مقصورة لياو" جزءا من أقاصيص غريبة من مقصورة لياو، وتقوم على الحس الغرائبي الشديد البساطة الذي وسَمَ إنتاج الصين الكلاسيكية، وتنبني على مزيجٍ من الخرافة والقدرية والفكاهة المُرّة، وكلها محمّلة في الحكمة "التاوية".
المصدر: عن "الوقت لا ينقضي، قصص قصيرة من العالم"، ترجمة بسّام حجّار، المركز الثقافي العربي 2007. عن "لسان الفراشات، مختارات ورشة القصة"، الكتاب الثاني، منشورات مجموعة البحث في القصة بالمغرب، الكتاب الثالث، الطبعة الأولى، 2013.