المستشار بهاء المري - من أغرب القضايا... وتَكلمَت الجثة!

لم يَرتكب إثمًا، لم يَتعامَل مع أحد، لم يَظلم أحدًا، بل ربما لم يَرَ في الدنيا كلها إلا مَن قَتلَه، ومَن قتَله ُلم يَرَهُ إلا الله سبحانه، ولو شاءَ لأظهَره.
قَتيلٌ بلا أهل، لا والد يُسأل عن ملابسات قتله ولا والدة، لقيطٌ رأى الناس جثته في مَقلب القِمامة فصاحوا، وتولت الشرطة أمر البحث عن الجاني.
خَلَتْ الجثة مِن إصابات ظاهرة، لا طَعن، ولا جُرح، ولا َعلامات خَنق، ولا كَتم نَفَسْ، ولا الحبل السُري لم يُربَط، وتلك طُرق القتل الشائعة مع اللُّقطاء في الأرياف.
ولذلك كان على الطبيب الشرعي أن يُجيب على تساؤلا عِدّة: هل وُلد اللقيط حيًا أم وُلد ميتًا؟ هل اكتملَ الشهور الرَّحمية أم كانَ سَقْطًا؟ وفي الحالة الأولى هل ماتَ مَوتة طبيعية، أم أنها جنائية؟
لقد وُلدَ حيًا، رأيتُ تَجربتهم في هذا الشأن من قبل، خلال حضوري التشريح، يُفتِتُون جزءً من الرئة يَضعونه في إناءٍ به ماء، فإذا طَفَا كانت علامة ولادته حيًا، فمَعنى ذلك أنه تَنفس بعد الولادة، وبالتالي فقد دخلَ الهواء حُويصلات الرئة ولذلك فإنها تطفو.
استبعد الطبيب الشرعي عماد الديب الخَنق والمرَض وكتم النفس، وعلامات الالتهاب الرئوي، تلك كانت نتيجة التشريح، وهو لم يُغادر المشرحة، ولكنه وقف حائرًا زائغ البصر يُفكر، لابُد أنه يَسأل نفسه: إذن كيف قُتل؟
يدور في الغرفة مُطرقًا زائغَ النَظر وهو يَسحبُ أنفاسًا مُتتالية من سيجارته ويَنفُثها في الهواء فور سَحبها، وفي دورانه يقترب من منضدة التشريح يختلس نظرات إلى الجثة، ثم يوالي الدوران بذات الإطراق.
هكذا عدة مرات، بينما مُساعده لم يزل مُمسكًا ببعض أدوات التشريح انتظارًا لأمر آخر منه.
ولكَ أن تَتخيل كيف كان الصمتُ المُطبق على المكان في هذه اللحظات الغريبة، كأن الطبيب الشرعي في صَومعة يَنتظر من الله وَحيًا، أو فَيضًا من فُيوضاته على عِباده المُخلَصين.
كان في عالمه الخاص الذي لم يَشأ أحد أن يَقتحمه ولو بسؤالٍ لا فائدة منه في هذه اللحظات، كل ما استطاع أن يفعله مساعده ومَن كان حاضرًا؛ أنْ يتبادلوا النظرات الحائرات، أو قُلْ المُستغربات، أو المُتعجبات، أو المُنتظرات لمُفاجأة تُريح الضمائر، أو لتُصيب باليأس والإحباط.
في دَورانه هذا يَنتبه الطبيب الشرعي على لَسْعَة سيجارته لأطراف أصابعه، يُلقيها لا إراديًا بسُرعة خاطفة، يَهزُ رأسه كأنه يَنفُض عنها شيئًا، يَقترب بهدوء من جثة اللقيط مُبتسمًا ابتسامة هادئة، خُيلَّ إلى الحضور أنها بَلهاء حينَ مال عليه وهو يُمَلِّسُ على رأسه الصغير بهدوء ويسأله: قُلْ لي بالله عليكَ ماذا فعلوا بك؟! قل لي، فأنا أسمعُك؟
ومن العَجَب أنه التزم الصمت بعد أنْ وجَّه سؤاله إلى الجثة وكأنه في انتظار إجابة، لم يَطُل صَمته، تَوقفَت يده التي تُملِّس، اتسعت عيناه دهشة، ثم عاد ليُحرك يده ببطء، ثم يُملس مرة أخرى، ثم يتوقف، كل هذا وهو يَنظر إلى أعلى حتى بلغت عيناه حَد الجُحوظ، ثم انقضَّ ببصره على الموضع الذي كان يَتحسَسه.
يا الله! نُقطة سوداء على نافوخ اللقيط، تَهلل وجهه، أشار لمساعده على الرأس إشارة يَفهم الأخير معناها، استلَّ مشرطًا ومنشارًا، تمَّ تشريح الرأس، دبوس مَغروز في نافوخ اللقيط!
يَحمد الله حمدًا كثيرًا، يَعود ليتفحص اللفة الملفوف بها الجثة من جديد، لفافة مُهلهلة هي جزء مِن جلباب عليه كلمات مطبوعة تُشير إلى اسم مصنع نسيج.
شاءَت إرادة السماء بالقِصاص فاكتمَلت الصورة، أمّ اللقيط فتاة لم تُجاوز الثامنة عشرة من عُمرها تعمل في مصنع النسيج، أغواها صاحبه فحملت منه سِفاحًا، تلد، يَقتلاه معًا بهذه الطريقة، وبتلك الأداة البسيطة المُستوحاة من طبيعة عملهما (الدبوس)!




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى