بهاء المري - وطنية.. قصة قصيرة

بصوتٍ خَفيضٍ وابتسامةٍ باهتة يَسألها:
- بَلغني تَخوُّفك، فهل قرأتِ جيدًا في تاريخنا المُفترَي عليه؟
لم تكن تعلم أنه قياديّ في جماعته، رشحها له صديقٌ مشتركٌ بعد رحيل زوجها حين أبدى رغبته في الزواج مرة أخرى، ولم يذكر لها تفاصيل أخرى.
أجابته:
- لا، طَوالَ حياتي لم أهتم إلا بتفوقي الدراسي إلى أنْ نِلت شهادةُ الدكتوراة في الآداب، لم أُحب السياسة يومًا، ولم أقرأ فيها، حتى لمَّا قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 وأنا هنا في هذه الدولة الخليجية، لم يَشغلني إلا خَوفي على وطني، فهل تُتابع مِثلي وأنتَ هنا؟
تهللت أسارير وجهه، ابتلع ريقه وانفرجت شفتاه عن ابتسامة رضا، واستطرد:
- لو كنتِ قرأتِ؛ لالتمَستِ العذرَ لأُناس تَحملوا في سبيل الله ما تنوءُ به الجبال، ولَمَا تَخوفتِ، فمنذ العَهد المَلكيّ وما تلاه من عُهود حُكم العَسكر ونحن نُظلَم، ونُعتَقل، ونُسجَن، ويُفتَرى علينا ...
تُقاطعه مُنزعجة:
- عَسْكَر؟!
يَتَنبَّه، يعود للابتسام الباهت، يجيب مُراوغًا:
- أُضاحككِ بها، فهي تَتردَّد كثيرًا هذه الأيام.
تَمكنَ مِن تبديد مَخاوفها، صدَّقته، تمَّ الزواج سريعًا.
تُتابع في التلفاز تَأجُّج الثورة، قَتلٌ وفوضَى، تَخريبٌ وحرائق وتدمير، تتألم لجِراح وطنها، تسأله عن رأيه، يَروغ فلا تَجد منه إجابة شافية. َ
يَستقبل اتصالاتٍ دولية مُتكررة، يَنتحى بهاتفه بعيدًا عنها، فلا يَستكمل الرَّد عليها إذا كانت حاضرة، وإذا دخلَ مكتبه استفاض، فإذا تَبعَتهُ أنهاها.
تُحدثُ نفسها: ربما تَخَوفه على مشروعاته المُتعددة في مصر بعد اندلاع الثورة وراء تصرفاته الغريبة هذه.
تَدخُل عليه غرفة مكتبه بفنجان القهوة، كان قد استدارَ بمقعده الدَّوار فصارَ ظهره ناحية دُخولها، وجدته مُنفعلاً، صوته عاليًا غاضبًا، يُشدِّد على مُحدثه تنفيذ ما يَطلبهُ منه: "انسفوا الجَيش، احرقوا المحاكم ومراكز وأقسام الشرطة، فجِّروا المُنشآت العامة وأبراج الكهرباء ".
تَسمَّرت قدمَاها، انَعقدَ لسانها، كادت أن تفقد اتزانها، تَماسَكت، انسَحبَت ببطء وهي تَرتعد.
تُهرَع إلى غُرفتها، صُداعٌ يَضربُ رأسها، وصِراعٌ أوشكَ يَفتكُ بعقلها، تَتساءل وهي تَدور حول نفسها: إلى هذا الحد يكونُ ارتداء الأقنعة؟ يبدو أنه ذو شأن، يٌخطط، يُملي، ويأمر بالتنفيذ، أهؤلاء بَشرٌ مثلنا؟! لو لم أسمَع بأذني لمَا صدَّقتُ! "
كاد رأسها أن ينفجر. يدخلُ عليها، تُغادر الغرفة في صمت، تبيتُ ليلتها جالسةً في الصالون، لم يَهتم، كان لديه ما يَشغله، يَتَناهى إلى سَمعها صوت استقباله رنّاتٍ أخرى، ورَدّه عليها لا يكاد يَبين.
تَنطفئ، يكسو الوُجومَ مَلامَحها، يَخرج عليها راسمًا ابتسامة بَلهاء، يسألها مُتصَنعًا البَراءة:
- ماذا بكِ حبيبتي وطنية؟
- تُطالعُ وجهه، تَجد نفسها تُجيبه في حَزم:
- طَلِّقني!




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى