سعد عبد الرحمن - الجزء الرابع من ( الذئب و تجلياته في الشعر العربي القديم)

8 - ذئب مالك بن الريب
نص مالك بن الريب عن الذئب نص قصير يقع في ستة أبيات يصف فيها ما حدث له مع الذئب الذي تعرض له فقتله ، و الخطاب في الأبيات على سبيل " إياك أعني و اسمعي يا جارة " فالشاعر في ظاهر الأمر يخاطب الذئب و كأنه إنسان يعقل الكلام و يعيه و لكننا عندما نتأمل الأبيات قليلا نكتشف أنه لا يخاطب الذئب فكيف يخاطب ميتا لايسمع و لا يعي ؟ إن الشاعر في حقيقة الأمر يخاطب آخرين من خلال الذئب ، إنه يخاطب في الأبيات أعداءه و يهددهم بأن مصيرهم إذا لم يرتدعوا و ينزجروا عنه و يكفوا عن تحرشهم به فإنهم سيلاقون على يديه ما لاقاه الذئب القتيل .
يبدأ الشاعر نصه و قد وقف على جثة الذئب الصريع يخاطبه فيقول له إنه حين تجرأ فتعرض له قد جعل من نفسه أضحوكة يتناقلها الركبان في كل اتجاه ، لقد ظن أنه جريء شجاع و لكنه التقى بمن هو أكثر منه جرأة و شجاعة ، التقى بفارس ينام دائما و هو متوسد سيفه و حوله عصابة مشهورة بالقوة و سرعة الاستجابة إلى الحرب : أذئب الغضا قد صرت للناس ضحكة .. تنادى بك الركبان شرقا إلى غرب
فأنت و إن كنــــت الجـــــريء جنانه .. منيـــــت بضرغام من الأسد الغلب
بمن لا ينام الليـــــــل إلا و سيـــــــفه .. رهيـــــــنة أقوام سراع إلى الشغب
لقد عرفت يا ذئب حين جئت تخاتلني لتلتمس مني غرة أني لست امرءا غرا يمكنك خداعه و النيل منه ، و لقد حذرتك فزجرتك مرة بعد مرة لكي تبتعد عن طريقي فلما ركبت رأسك و لم تنزجر اضطررت إلى قتلك ، و هأنت قد أصبحت صريعا طريح الأرض .
و لأن الكلام كما سبق أن أشرنا في النص هو من قبيل ( إياك أعني و اسمعي يا جارة ) فنبرة الفخر فيه واضحة لاسيما حين يصف الشاعر نفسه بأنه ( ابن حرة ) أي أنه يأنف أن يغلب على أمره و سيفه بتار يعتمد عليه دائما في معالجة المواقف الصعبة ( ينجي من الكرب ) :
ألم تر يا ذئــــب إذ جئـــــت طارقا .. تخاتــــــــلني أني امــرؤ وافر اللب ؟
زجرتك مـــــرات فلمــــــا غلبتني .. و لم تنزجر نهنهت غربك بالضرب
فصرت لقى لما علاك ابــــن حرة .. بأبيـــــض قطاع ينجي مـــن الكرب
و مما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الذئب هنا هو المعادل الموضوعي في النص لأعداء الشاعر أنه يتبع الأبيات السابقة ببضع أبيات أخرى يصف فيها مفتخرا كيف دخل معركة مع بعض أعدائه فصرع واحدا منهم و لاذ أخر بالهرب و يبدؤها بتمنيه لو كان الذئب حاضرا هذه المعركة ( لو كنت شاهدا ) فعندئذ كان سيعرف على وجه اليقين أنه سيكون الخاسر في مواجهته للشاعر و ربما كان ابتعد عن طريق الشاعر حين زجره فأنقذ نفسه من مصيره الذي اندفع إليه بتهوره و غبائه :
ألا رب يـوم ريــــب لــــــو كنت شاهدا .. لهالك ذكـــــــري عنـــــــد معمعمة الركب
و لســـــت تــــــرى إلا عدوا مـــــجدلا .. يداه جميــــــــــــــعا تثبتان مــــــــن الترب
و آخر يهــــــوي خائر القلــــــب هاربا .. و كنـــــــت امــرءا في الهيج مجتمع القلب
أصول بذي الزريــــــن أمشى عرضنة .. إلى المــــــوت و الأقــــران كالإبل الجرب
أرى المــوت لا أنحاش عنـــــــه تكرما .. و لـو شئت لم أركب على المركب الصعب
و لكن أبــــــــت نفسي فكانــــت أبيــــة .. تقاعس أو ينصاع قــــــــوم مــــــن الرعب
9 - ذئب أسماء بن خارجة الفزاري
نص أسماء الذي يتحدث فيه عن الذئب ليس نصا مستقلا و إنما هو جزء من قصيدة و هو نص طويل يستغرق تسعة عشر بيتا ، يبدؤه الشاعر بأن أحد الذئاب طرأ عليهم يطلب الطعام ، ذئب تعس الحظ في كسب الرزق ( محارف كسب ) فلا ينال ما يقيم أوده من الطعام إلا من حين إلى حين ( غبا إلى غب ) و إن ظفر بما يتبلغ به بدا كأنه لم يستشعر الجوع أبدا ، و كان الذئب هزيلا نحيلا قد التصق جلد بطنه بظهره من شدة الجوع :
و لقــــد ألــــم بنـــــا لنقريـه .. بادي الشقاء محارف الكسب
يدعــــو الغنى إن نال علقتـه .. مـــــن مطعــم غبا إلى غب
فطـــــــوى ثميــــلته فألحقها .. بالصلب بعد لدونــة الصلب
ثم يلبس الشاعر زي الواعظ فيلوم الذئب على تبذيره و تفريطه فيما اكتسبه ، و يقول له لو كنت أيها الذئب شخصا عاقلا لادخرت الكثير مما توافر لك من شبابك حتى الآن ، و لأنه من غير المعقول أن يكون هذا الكلام موجها إلى الذئب لأن ما يصطاده الذئب غير قابل للحفظ و الادخار فلابد إذن أن يكون في الكلام " إسقاط " نفسي فالشاعر في جوهر الأمر يسقط على الذئب أهم العيوب التي يعرفها في نفسه ألا و هي قلة حرصه على الغنى و ادخار المال :
يا ضل سعيــــك ما صنعت بما .. جمعــــت مــــــن شب إلى دب
لو كنت ذا لــــب تعــيـــــش به .. لفعلت فعـل المــــــــرء ذا اللب
فجعلت صالح ما احترشت و ما .. جمعــــت مــــن نهب إلى نهب
ثم يفيق الشاعر من حالة الاستقطاب النفسي ليستكمل حديثه الصريح مع الذئب فيقول له أيها الذئب إن كنت تريد أن تشغب علينا فنحن لنا باع طويل في الشغب و لدينا أسلحتنا التي سنرد بها على شغبك ، و أنصحك أيها الذئب أن تطلب بغيتك عند أصحاب الغنم و ليس عندنا نحن أرباب الإبل ربما تجد منهم غرة فتفترس بعضا من شياههم ، و على أية حال فقد أخطأت حين حسبتني ممن يمكنك أن تلم بهم عند الحاجة فما من شيء يربط بيننا لا صداقة و لا نسب ، أنت ذئب و أنا إنسان .
و حين أيقن الذئب أنه جدوى من متابعة ركب الشاعر و أصحابه طلبا للطعام أقعى غير بعيد و عوى عواء من يشتكي داء برح به :
و أظنــــــه شغــــــبا تـــــدل به .. فلقــد منيــــت بغايـــــــة الشغب
إذ ليس غير مناصل تعصى بها .. و رحالنــــــا و ركائــب الركب
فاعمد إلى أهل الوقيـــــــر فإنما .. يخشى شــذاك مقرفــص الزرب
أحسبتنا ممـــن تطيـــــــــف به .. فاختـــــرتنا للأمــــــــن و النهب
و بغيــــــر معرفــة و لا نسب .. أني و شعبـــك ليــــس من شعبي
لما رأى أن ليــــــس نافـــــعه .. جـــد تهـــــــاون صـــادق الإرب
و ألح إلحـــــــاحا بحاجتـــــــه .. شكوى الضريــر و مزجر الكلب
و لما وجد الشاعر أن الذئب مصر على متابعته و مراقبته و أقعى غير بعيد يشتكي ألم الجوع الشديد أحس أنه قد بالغ في أذاه بالسب و الزجر ليبتعد دون جدوى فرق قلبه له و قرر أن يكون ضيفه و أن يفعل معه ما تعود أن يفعله مع ضيفانه من البشر ، فاختار أسمن نوقه وعقرها ثم تركها وليمة للذئب و عياله يأكلون منها حتى يشبعوا.
و هنا نتأكد أن ما كان ينصح به الشاعر الذئب من عدم التفريط و التبذير كان بالفعل إسقاطا نفسيا فهو لم يكن - كما سبق أن ذكرنا - ينصح الذئب و إنما في الواقع كان ينصح نفسه ، و لكن الطبع غلب التطبع فقد استسلم الشاعر في نهاية الأمر لطبع الكرم الذي ورث جرثومته من أبيه ( أنا ابن قاتل شدة السغب ) ، فضحى بأسمن نوقه ليطعم الذئب الجائع و عياله :
و لوى التكلح يشتكي سغبا .. و أنا ابن قاتل شـــدة السغب
فرأيت أن قـــــد نلته بأذى .. من عذم مثلبة و مـــــن سب
و رأيت حقا أن أضيـــــفه .. إذا رام سلمي و اتقى حربي
فوقفت معتــــــاما أزاولها .. بمهنـــد ذي رونـــق عضب
فعرضته في ساق أسمنها .. فاجتاز بيــــن الحاذ و الكعب
فتركتها لعيـــــــاله جزرا .. عمدا و علــق رحلها صحبي
و نلفت الانتباه إلى أن خللا عروضيا لحق تفعيلة العروض في البيت الذي يبدأ بقول الشاعر " فاعمد إلى .." فنجد أنها تامة ( متفاعلن ) بينما ينبغي أن تأتي هكذا ( متفا ) كما في سائر الأبيات لأن ( الحذذ ) و هو حذف الوتد المجموع من آخر ( متفاعلن ) علة تلزم وليس زحافا يروح و تجيء .
10 - ذئب النجاشي
نص النجاشي عبارة عن سبعة أبيات فقط يحكي فيها قصة وقعت له مع الذئب خلاصتها أنه ورد حوضا في أرض ممحلة كان به القليل من المياه و هناك وجد ذئبا يريد أن يشرب و لكنه على الرغم من شدة ظمئه متخوف حذر فخلى الشاعر بينه و بين الماء كي يرتوي ، و يحكي الشاعر القصة بطريقة بديعة يمزج فيها بين السرد و الحوار و يمهد لقصته بوصف المكان :
و ماء كماء الغسل قد عاد آجنا .. قليل به الأصوات في البلد المحل
و جدت عليه الذئب يعوي كأنه .. خليــع خلا من كل مال و لا أهل
و نعرف من البيتين السابقين أن ماء الحوض ليس على ما يرام فهو لأنه قليل متغير اللون و الطعم ، كما نعرف أن الأرض التي يوجد بها الحوض منطقة ممحلة جفتها الأمطار لفترة طويلة و نعرف أيضا أنه لم يكن على الحوض الذئب و الشاعر وحدهما بل كانت هناك أيضا بضع حيوانات أخرى و طيور دلنا على ذلك قول الشاعر " قليل به الأصوات " ، و يعطينا الشاعر وصفا دقيقا لحالة الذئب الظامئ فيشبهه بصعلوك خليع تبرأ منه أهله و ذووه فهو في حالة يرثى لها من الفاقة و ندرة المواسين لذلك من الظمأ .
ثم يتخيل الشاعر حوارا بينه و بين الذئب يبدؤه بسؤال يقول فيه للذئب : هل لك فيمن يغدو لك صديقا فيعطف عليك و يعينك دون من أو بخل ؟ فيرد عليه الذئب قائلا : هداك الله سبيل الرشاد ، إنما تدعوني أيها الشاعر إلى ما لم يدع إليه حيوان مفترس قبلي ، و هو أمر مستحيل تأباه جبلتي و لا أستطيعه و لكن كل ما أرجوه منك أن تدعني أروي ظمئي مما يتبقى من ماء الحوض بعدك ، فعقب الشاعر على كلام الذئب بقوله : هأنذا انتهيت من الحوض و تركته و فيه قدر من الماء يكفي لري ظمئك و يزيد :
فقلت لـــه يا ذئب هــــل لك في فتى .. يواسي بلا من عليـــــــــك و لا بخل ؟
فقال هــــــــــداك الله للرشـــــد إنما .. دعــــوت لما لــــم يأته سبــــــع قبلي
فلست بآتيــــه و لا أستطيــــــــــعه .. و لاك اسقني إن كــان مـاؤك ذا فضل
فقلت إليـــك الحــــوض إني تركته .. و في صفوه فضل القلوص من السجل
و لما شرب الذئب و ارتوى راح يعوي عواء مطربا يستهوي به غيره من الذئاب الظامئة كي تأتي لتشرب ، و يختم الشاعر قصته بأن كلا منهما بعد ذلك ذهب إلى حال سبيله :
فطرب يستهــــــوي ذئابا كثيــــرة .. و عديت ، كل مـــــن هواه على شغل
و نلفت الانتباه إلى أن خللا عروضيا لحق عروض البيت الذي يبدأ بقوله " فاعمد إلى .... " فقد جاءت العروض تامة بينما هي حذاء في سائر أبيات القصيدة أي حذف الوتد المجموع من آخر التفعيلة فهي ( متفا ) و ليس ( متفاعلن ) كما وردت بالبيت المشار إليه .


-------------------------------------------
هوامش :
شاعر من فتاك العرب يروى أنه لم يكن ينام إلا متوسدا سيفه و هو أحد الشعراء الذين رثوا أنفسهم حين شعروا بدنو أجلهم ، و مرثيته اليائية تعد من عيون الشعر العربي .
11 - ابن خارجة الفزاري ( توفي سنة 66 ھ ) هو أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة الفزاري و كنيته أبو حسان الكوفي ، من أشراف العرب و سادتهم ، تزوجت بنته الحجاج بن يوسف الثقفي ، اشتهر بالجود و السخاء و حسن الخلق حتى ليروى أنه لم يشتم أحدا قط .
12 - النجاشي ( توفي سنة 80 ھ ) هو لقب الشاعر أبي الحارث قيس بن عمرو بن مالك من بني الحارث بن كعب ، شاعر يعد من أشراف العرب ، مسلم و لكنه كان رقيق الدين فاسقا ، و قد اشتهر بالهجاء و أصله من نجران باليمن و قد لقب بالنجاشي لأن أمه كانت حبشية .


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى