أدب السجون محمود الورداني - صنع الله إبراهيم معتقلًا: خمس سنوات من الغوص في الرمال

الحلقة الرابعة من كوكبة «المصريون والسجن»



بالطبع ليس المصريون وحدهم هم الذين لعب السجن والمعتقل وآلات التعذيب والمحاكمات دورًا أساسيًا في حياتهم، فالقمع والانفراد والاستغلال وصراع الطبقات أمور لا تحتاج للتأكيد، بل هي واقع عاشته وتعيشه سائر المجتمعات منذ قرون وسيستمر أيضًا، وإن كنت أتمنى ألا يستمر حتى النهاية.

برنامج القراءة الذي أقترحه هنا يطمح للاقتراب من تلك التجربة المخيفة بكل ما فيها من بسالة وانكسار لمن عاشوا خلف الأسوار، من تعذيب وتنكيل اقترب في أحيان كثيرة من القتل، ناهيك عن أن هناك من قُتلوا فعلًا وتم تعذيبهم حتى الموت. ويطمح للاقتراب أيضًا من مستعمرات العقاب ذاتها ومعسكرات الاعتقال في سائر بقاع المحروسة. ومن بين ما يسعى إليه برنامج القراءة الذي أقترحه الكشف عن دهاليز وخفايا نظام التحقيقات والمحاكمات الذي أتاح وسمح بمساخر لا حصر لها، لا تتعلق فقط بإهدار سنوات طويلة من عُمر المعتقلين داخل مستعمرات الاعتقال، بل أتاح أيضًا وسمح بأن تعيش مصر ومثقفوها وقواها الاجتماعية عدة عقود متوالية، في أوهام وضلالات الحكم العسكري المطلق منذ عام 1952 وحتى الآن.

في الحلقة الأولى تناولت «مؤامرة شبرا»، التي اتهم فيها شباب بالتخطيط لقتل الجناب الخديو عام 1912. وفي الثانية والثالثة اخترت كتاب سعد زهران «الأوردي .. مذكرات سجين» عن التجربة الدامية في «أوردي أبو زعبل» كنقطة انطلاق، وبجواره وحوله عدد لا بأس به من شهادات المعاصرين الذين سجّلوا تجاربهم.

وهنا أتناول تجربة «الواحات»، منطلقًا من كتاب «يوميات الواحات» لصنع الله إبراهيم.

اليوميات تم تهريبها مع صديق صنع الله، حسين عبد ربه، الذي كان حصل على إفراج قبله، وتطوّع أن يتولى إخفاؤها خلال رحلة الإفراج، ونجح بالفعل، وعندما خرج صنع الله وجد اليوميات كاملة عند شقيقته في الحفظ والصون.

تبدو اليوميات مثل ورشة الكتابة، أو معمل للكاتب، أو رؤوس موضوعات، أو خواطر سريعة عن الكتابة والكتابة وحدها إلا فيما ندر. أي أن من يريد أن يبحث عن تجربة السجن ذاتها، لن يجدها في اليوميات بل في المستويين الآخرين. هناك فقرات تعد بدايات لقصص أو مشاهد روائية سواء من داخل السجن أو من خارجه، بعضها استخدمه بالفعل في أعماله اللاحقة.

اليوميات وحدها هي التي كُتبت أثناء السجن، لذلك حرص الكاتب أن يوردها كما هي بالجمل المرتبكة والصياغات غير المكتملة، وبالتساؤلات التي ترصد تطوره وعلاقته بالكتابة. ومما يلفت النظر مئات الإشارات التي أوردها لأعمال أدبية وفلسفية وسياسية، تتضمن تعليقات عليها أو مناقشة لها أو اختلافًا معها (بلغ عدد الكتب في مكتبة سجن الواحات نحو عشرة آلاف كتاب حسبما ذكر، وأقل القليل منها كان موجودًا كنسخ ورقية مهرّبة ومحفوظة في مخابئ، وأغلبها نسخ مكتوبة على ورق بفرة يسهل إخفاؤها في مخابئ خاصة.

*

أما المستوى الأول، المدخل، والذي كتبه، كما كتب المستوى الثالث بعد ذلك بسنوات طويلة عام 2005 فيكشف عن بدايات ارتباطه بالسياسة أثناء وجوده بالجامعة، والتحاقه بمنظمة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني «حدتو»، ثم القبض عليه عام 1959 وإيداعه سجن القلعة، ومنه إلى سجن مصر، ثم «الواحات» حيث حضر أولى حفلات استقبال اللواء إسماعيل همت، المسؤول عن تعذيب الشيوعيين خلال العهد الناصري. وما لبث أن تم ترحيله إلى سجن القناطر الخيرية. استمرت الجولة بين تلك السجون حتى أواخر فبراير من العام التالي، حيث تم ترحيله إلى سجن الحضرة ليمثُل أمام محكمة عسكرية بتهمة قلب نظام الحكم، وتعرّض لوجبات متتالية من التعذيب.

أود أن أشير إلى أن سمات وملامح كتابته الروائية، مثل الابتعاد عن الحواشي البلاغية واللغة المحايدة، والبعد عن التورط العاطفي والميلودراما، والسخرية القاسية، مع قدر محدود من خفة الدم القاسية أيضًا، هي نفسها التي تميّز كتابته عن تجربة السجن. يذكر أقل القليل مثلًا عن تفاصيل تعذيبه ورفاقه، لكن ما يذكره يظل كافيًا ومؤثرًا وصادقًا أكثر مما لو صرخ واستخدم الصوت العالي والمباشرة في التعبير.

وفي 15 يوليو 1959 -بعد المحاكمة- تم ترحيل مجموعة كان هو من بينها إلى «أوردي أبو زعبل». وعندما هبطوا من سيارة السجن. جرى فصل أربعة فقط: صنع الله وإبراهيم المناسترلي وسعد بهجت والسحرتي، ولم يُضربوا بالشوم أو تمارس معهم طقوس التعذيب مثل رفاقهم، وإن كانوا أمروا بالجلوس القرفصاء.

ويفسر الأمر بأنه كانت هناك بلا شك توصية بشأنهم. وإذا كان كل من السحرتي والمناسترلي ضابطين سابقين في الجيش، فيما يحظى سعد بهجت بعلاقات عائلية واسعة، فإن التفسير الوحيد لتجنيب صنع الله أيضًا هو لقب عائلته (الأورفلي) فاعتبروه ابن عائلة كبيرة!

رأى كيف ضاعفوا الضرب على شهدي عطية، فيما نال هو أقل القليل وإن كان قد تم تجريده من ملابسه وجز الشعر والعانة. وفي صباح اليوم التالي اصطحب الأربعة الصول مطاوع إلى مكتب الضابط يونس مرعي. وهناك بادرهم الأخير، بعد أن كشفوا ظهورهم وتأكد أنه لا علامات تعذيب لديهم وبالتالي يسهل استخدامهم كشهود، بالخبر الفاجع: شهدي مات.. وبعد قليل سوف يتوجهون للمبنى الرئيسي للمثول أمام النيابة، والمطلوب أن يشهدوا أنه توفي في الطريق قبل الوصول للمعتقل. وعندما رفضوا، اقترح عليهم أن يشهدوا بأنه حصل هياج وهتاف من المساجين أعقبه الضرب. على الرغم من الجو الهستيري والرعب لم يستطع واحد منهم أن يقبل. كان صنع الله حريص على ألا يسبغ البطولة والشجاعة الخارقة وما إلى ذلك على تصرفه ورفاقه. أبدا.. لقد كانوا خائفين ومرعوبين لكنهم رفضوا بكل هدوء لأنهم لم يكن ممكنًا لهم أن يوافقوا.

*

حُكم عليه بالأشغال الشاقة لسبع سنوات، وتم شحنه مع عدد من رفاقه إلى «الواحات».

من جانب آخر، هناك عدد كبير من شهود تجريدة الواحات، وكانوا معنيين بتسجيل التجربة. ومن تلك الشهادات نعرف أن «الواحات» تبعد نحو 900 كيلومتر عن القاهرة في الصحراء الشرقية. وسجن المحاريق يعود اسمه إلى درجة الحرارة القاسية التي تميّزه في نظر البعض، وإلى أنه بسبب ما تعرّض له المسيحيون المصريون إبان الاضطهاد الروماني والمحارق التي نُصبت لهم في نظر البعض الآخر.

استضاف «المحاريق» الإخوان المسلمين والشيوعيين لبضع سنوات. الأخيرون كان بعضهم قادمين من سجن «جناح» الذي يبعد عدة كيلومترات عن «المحاريق»، لكن تم هدمه، وهؤلاء كانوا مسجونين قبل تجريدة يناير 1959، وأضيف إليهم دفعات متتالية من سجون: القلعة وطرة والقناطر والحضرة وأوردي أبو زعبل. تجمع نحو ألفين من بينهم عدد من الشيوعيين الفلسطينيين الذين اعتقلوا من غزة عندما كانت تتبع الإدارة المصرية.

لم يكن الطريق الذي قطعه المسجونون والمعتقلون من السجون السالف ذكرها سهلًا، بل تخللته وجبات تعذيب متتالية، وأوشك البعض على الموت تحت عجلات القطارات التي أقلّتهم. واستقبلوا في سجن المحاريق بالتشريفة المعتادة، وكان الجزار اللواء إسماعيل همت حريصًا على المشاركة بفرقته في استقبال أغلب الدفعات، وكان يحلو له أن يخلع المعتقلين ملابسهم كاملة، ويساقوا عرايا وهم يُجلدون ويضربون بقسوة بين صفين من الزبانية حتى زنازينهم.

على أي حال، شهد معسكر اعتقال المحاريق بعنابره الثلاثة ذات الطابق الواحد، والذي شغل الإخوان المسلمين واحدا منها، فيما شغل الشيوعيون الصادرة ضدهم أحكام أحد العنابر، والأخير شغله الشيوعيون المعتقلون، شهد صنع الله مراحل مختلفة من التضييق والإنفراج على مدى السنوات الخمس (1959-1964). تتحدث بعض الشهادات عن انهيارات عصبية أصابت ستة من المعتقلين، بينما صمد زكي عثمان مثلًا وكان قد فقد بصره قبل القبض عليه، ومع ذلك تم اعتقاله وتعذيبه.

*

من جانب آخر، حرص كل فريق على تمييز موقفه السياسي عن الآخر، ومن ينتمون لـ«حدتو» مثلًا اعتبروا أنفسهم حلفاء لعبد الناصر ومؤيدين لنظامه الوطني، الذي يسير نحو الاشتراكية، وأن هناك مجموعة اشتراكية في السلطة يقودها عبد الناصر! ولنتذكر أن نظام عبد الناصر كان يقوم آنذاك بتحولات اجتماعية جبارة، وكان عبد الناصر نفسه أحد كبار قادة حركة التحرر الوطني ومعاداة الاستعمار على المستوى العالمي. وفي الوقت نفسه كان هناك منظمات أخرى مثل الحزب الشيوعي المصري «الراية» وحزب العمال والفلاحين «ع.ف» ترى أن التحولات المشار إليها تصب في مصلحة الطبقة البورجوازية مع الرفض القاطع لفكرة المجموعة الاشتراكية الجالسة في السلطة!!

لكن هذه الخلافات والانقسامات لم تقف حائلًا دونهم ودون تطبيق نظام الحياة العامة بنسبة 100%، أي أن كل الموارد التي ترد من الأهالي والمبالغ المودعة في الكانتين توزع بالتساوي وجميعها في حوزة «لجنة الحياة العامة».

كذلك أصدرت التنظيمات المختلفة عدة مجلات تُسمع ولا تُقرأ. فـ«حدتو» أصدرت مجلة «الهواء» و«الراية» مجلة «الطريق»، وانشقاق «الأفق» الذي تم داخل المعتقل أصدر مجلة« الأفق».. وكلها مجلات تقدم في طرقات العنبر في مواعيد أسبوعية ثابتة، ويمر واحد من الرفاق على العنابر وينادي فيتجمعوا للاستماع إلى المجلة.

كان صمودهم في حقيقة الأمر أسطوريًا، خصوصًا أن بعضهم تعرّض لضغوط أسرية دبرتها أجهزة الأمن التي كانت تضغط بدورها على الأهالي. أغلب الأسر لم يكن لها عائل إلا المعتقل، وتم الضغط أيضًا بالأطفال. وكان من الممكن لأي منهم أن يكتب ورقة يعلن فيها استنكاره لموقفه السياسي فيفرج عنه. تحملوا السخرة والخروج للعمل اليومي (كان العمل في معظمه عبثيًا مثل نقل الأحجار وإعادتها مرة أخرى أو نقل الرمال من مكان لآخر في منطقة تكثر فيها العقارب وثعابين الطريشة العمياء وهم حفاة الأقدام.

لا تكاد الشهادات المختلفة تغفل عن ذكر وقائع معينة، من بينها مثلًا استعانة مأمور السجن الفظ، فريد شنيشن، بعدد من الأطباء المعتقلين، لإنقاذ ابنيه، اللذان كانا يلفظان أنفاسهما، بسبب تناولهما عن طريق الخطأ دواء ضغط أمهما، وفتح المأمور السجن بعد منتصف الليل، ولم يكن أمامه حل إلا الأطباء المعتقلين لأن المستشفى تبعد 40 كيلومترًا والطفلان يحتضران. خرج ثلاثة أطباء إلى فيلا المأمور ونجحوا في عمل غسيل معدة للطفلين وتم إنقاذهما من الموت.. تحسنت أحوال السجن قليلًا بعد ذلك.

هناك واقعة أخرى أسطورية بالفعل وهي نجاح المعتقلين في استصلاح ما يقرب من سبعة أفدنة متاخمة للسجن وزراعتها بأجود الخضراوات التي كانوا محرومين منها ولا يتناولون إلا اليمك المليء الحشرات والسوس من طعام السجن. الواقعة أسطورية فعلًا، فهم في الصحراء واستصلاح الأرض يستلزم تمهيد الأرض وتغطيتها بالرمال لأن التربة طفلية وغير صالحة وتوفير المياه والسماد والبذور. كانت النتيجة مذهلة بكل المقاييس. لم يأكلوا وحدهم من المزرعة، بل أكل معهم السجانة والإدارة، كما توقفوا في أحيان كثيرة عن استلام اليمك.

هناك واقعة أخرى هي نجاح اثنين في الفرار من السجن في حادثة لم تتكرر، حيث هرب المحامي وعالم الآثار المصري اليهودي، إبراهيم هراري، والعامل، محمد عويضة. دبرا وأعدا الخطة وحدهما ودون إبلاغ رفاقهما. لم يدر أحد كيف هربا من سجن وسط الصحراء وحدهما. عرف الرفاق بالأمر في المساء، فقد كان الاتفاق بينهم وبين الإدارة أن يقوموا هم بالتمام. وعندما اكتشفوا، تعرضوا لاختيار بالغ القسوة: هل يتم الإبلاغ فورًا، فتتحرك الإدارة على الفور ويتم القبض عليهما، على الرغم من أنهما أخفيا خطتهما عن رفاقهم؟ أم ينتظرون يومًا ويتيحون لهما الفرصة للفرار ويتعرضون للعقاب والتكدير من الإدارة؟ اختاروا القرار الأخير وتعرضوا بالطبع للعقاب..

ظل لغز الهروب الكبير سرًا لم يكتشف إلا بعد 60 عامًا في كتاب صدر عام 2018 سأخصص له حلقة كاملة في هذه السلسلة.

*

أعود إلى كتاب صنع الله إبراهيم. ومما يلفت النظر فيه الدور الذي أسنده لهوامش كتابه.

وإذا كان المعتاد أن يكون دورالهوامش إحالة لمرجع ما، أو توضيح لنقطة صغيرة، أو إشارة سريعة مرتبطة بالنص.. إذا كان الأمر كذلك، فإن الكاتب جعل من الهوامش نصًا موازيًا للمتن، ويحتوي على معلومات وافية ومفصلة عن شخصيات ووقائع وأحداث. فمثلًا إذا ورد في المتن اسم شخصية مثل هنري كورييل، يتوقف أمامه طويلًا ويكتب مقالًا وافيًا طويلًا يمتد إلى أكثر من 15 صفحة ببُنط صغير يتناول فيه دوره في المشاركة في تأسيس الحركة المصرية للتحرر الوطني، والتي اتحدت مع منظمة إيسكرا عام 1947 ليكوّنا معا الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو)، ويمضي ليكتب سيرة ذاتية مكتملة لقصة طرده إلى إيطاليا ومنها إلى فرنسا حيث لعب دورًا بالغ الأهمية في انتصار ثورة الجزائر، ثم في منظمة تضامن حتى اغتالته منظمة يمينية مرتبطة بالأجهزة الأمنية في فرنسا عام 1978.

وإذا وردت واقعة تعذيب شهدي عطية حتى الموت، يحرص على أن يذكر كل الروايات التي ذكرها شهود العيان، وكذلك في واقعة تعذيب فريد حداد وقتله، وفي واقعة مسؤولية قيادة حزب الراية عن عدم مواجهة التعذيب وترك الأمور تنفلت إلى حد تحطيم الكرامة والإذلال، أو البطاقة الوافية عن شعبان حافظ الذي كان من مؤسسي أول حزب شيوعي في مصر عام 1923، ولم يتوقف عن النضال السياسي ودفع الثمن كاملًا في معتقلات النظم المختلفة حتى مات إثر أزمة قلبية في «المحاريق» وعمره 75 سنة، والجنازة المهيبة التي نظمها رفاقه قبل إرساله إلى مسقط رأسه في الإسكندرية.. وغيرها وغيرها من الوقائع والشخصيات التي أنجزت بالفعل نصًا موازيًا للمتن.

*

بقى من الكتاب ما أطلق عليه «فذلكة تاريخية» أنهى بها اليوميات، وتتضمن إشارات سريعة لنهاية السنوات الخمس. ففي مايو 1964 كان أُفرج عن الجميع على دفعات، قد يكون هو من بين آخر هذه الدفعات بسبب الطريقة التي تم بها الإفراج عنه، وعكست أن هناك صراعًا ما في السلطة وأن هناك تعطيلًا متعمدًا للإفراج، على الرغم من قرار عبد الناصر. ثم يتناول مأساة حل المنظمات وتفاصيل الحل. والمؤلم في هذا الحل أنه جرى بعد الإفراج، ونجح نظام عبد الناصر في فرضه عليهم وهم خارج الأسوار، فيما لم ينجح في ذلك منذ انقلاب 23 يوليو 1952.

لم يكن مثل هذا التطور سهلا أو بسيطا، فقد أحاطت به تعقيدات، ويصف صنع الله ما حدث بأنه «الفصل الأخير من الدراما التي بدأت قبل خمس سنوات وانتهت بتصفية الحركة الشيوعية المنظمة».

ويضيف أنه كانت هناك اتصالات مستمرة داخل المعتقل بين القيادات السياسية للمنظمات المختلفة وبين عبد الناصر وأعوانه. بالنسبة لـ«حدتو» كان يقوم بتلك الاتصالات عناصر يسارية لم تتعرض للاعتقال وابتعدت عن الارتباط التنظيمي بالشيوعية، مثل خالد محيي الدين ويوسف صديق وأحمد حمروش. أما بالنسبة لمجموعة الحزب (الراية) فقد تردد أنه كانت هناك مكاتبات سرية بين محمد حسنين هيكل وإسماعيل صبري عبد الله. وفي كل تلك الاتصالات كان النظام يطلب شيئًا واحدًا هو حل التنظيمات الشيوعية.

من جانب آخر، وجد الشيوعيون أنفسهم معزولين عند خروجهم من مأساة السنوات الخمس، وكان عبد الناصر حقق للفئات الشعبية مكاسب لا حصر لها، أكثر مما كان الشيوعيون يدعون إليه في ظل شعارات يسارية وحركة قوية مناهضة للاستعمار.. إلخ إلخ.

ويضيف أيضًا أن كل هذا «انعكس على التنظيم فأصيب بحالة تميع. والتقطت السلطة بعض قياداته وألحقتها بالتنظيم الطليعي لحزب السلطة الاتحاد الاشتراكي. ثم مارست مجموعة من الضغوط -بمساندة بعض اليساريين- وتوعدت بأنها لا تقبل التعامل مع من يعملون تحت الأرض، فإما حل الحزب أو الصدام الفوري والمباشر».

لم تكن حكاية التنظيم الطليعي إلا حيلة تافهة انطلت على الشيوعيين الذين أُلحقوا به، لأنه كان اختراعًا هشًا لا عمل حقيقي له ولا دور سياسي له بل دور أمني وجزء من الصراع بين أجنحة النظام. وتملص ممثلو النظام من الاتفاقات التي كانوا عقدوها بالاندماج بين الطليعي وحدتو حتى إنهم كانوا أعدوا الكشوف للدمج، وكانت المفاجأة بعد أسبوعين، عندما أبلغ «الطليعي» ممثلي «حدتو» أنه لن يكون هناك دمج وعليهم التقدم فرادى عندئذ يُنظر في قبولهم أو رفضهم!

وهكذا فقد الشيوعيون الرؤية المستقلة والبرنامج المستقل وفقدوا وجودهم المستقل. «لقد تخيلوا أن عبد الناصر يحتاج إلى التعاون معهم للاستفادة من خبرتهم في العمل وسط الجماهير وتفانيهم. وأنه سيقتنع بإخلاصهم فيتيح لهم الاشتراك في تطوير البلاد وتحويلها إلى الاشتراكية. كان أقسى ما يطمحون إليه أن يكونوا جنودًا باسلين لكن عبد الناصر لم يرغب في جنود يمكن أن يتحولوا إلى جنرالات».

ويضيف: «كانوا مجموعة من المثاليين استمدوا تقديرهم لذواتهم من سمو الأفكار التي آمنوا بها ومن قدرتهم على التضحية في سبيلها. لم يكونوا انقلابيين وآمنوا بالجماهير وبقدرتها على صنع الأحداث وسعوا دائمًا إلى الالتحام بها وتبني مطالبها. ولم يجعلوا الوصول إلى السلطة هدفًا لهم ففاجأتهم تحولاتها».

وأخيرًا قامت المنظمات الشيوعية بحل نفسها بقرارات رسمية.

*

وأخيرًًا أيضًا لم يعد أحد منهم إلى عمله إلا بعد جهد باستثناء الصحفيين، فيما لم يُسمح للمدرسين وأساتذة الجامعات بالعودة لأعمالهم السابقة وألحقوا بأعمال إدارية، وظلت غالبية العمال بلا عمل لسنوات. بالنسبة له قرر عدم مواصلة الدراسة والتركيز على الكتابة. بعد أشهر من الإفراج تم استدعاؤه مع آخرين إلى مكتب في قصر عابدين وسجل البيانات الخاصة به لتوظيفه. وفي ديسمبر 1965 تلقى وثيقة تعيينه في مصنع أبو زعبل للشركة الأهلية للصناعات المعدنية بوظيفة «كاتب أ» بشهادة التوجيهية، فتجاهل الموضوع بعد أن قال لنفسه: أبو زعبل تاني! وبعد عامين من الإفراج عُيّن بوساطات ومصادفات عبثية محررًا بوكالة أنباء الشرق الأوسط ثم استقال منها.

أما صلته التنظيمية بـ«حدتو» فقد انقطعت منذ لحظة الإفراج عنه، وتفرغ لتنفيذ أكبر مغامرة -على حد تعبيره- قام بها في حياته وهي أن يكون كاتبًا..
اعلان
لو كان فاتك
الخط الفاصل بين التهريج الفارغ والنقد الساخر
لا تطمئنوا.. الدعم لا يصل لمستحقيه
لأن «الحلال» مربح.. سنحتكر
«تكليف الأطباء»: تغيّر في علاقة الطبيب بالوظيفة الميري؟


محمود الورداني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى