سعد عبد الرحمن - الجزء الثالث و الأخير: التمرد الميتافيزيقي في الشعر العربي المعاصر .. أمل دنقل نموذجا

أما التمرد الذي جاء على المستوى الكلي للنص فهو ما يتمثل في قصيدته " مقابلة خاصة مع ابن نوح " و ابن نوح في النص القرآني رغم أنه أقرب الناس لحمة إلى نبي الله نوح إلا أنه تمرد على دعوة أبيه كنبي مرسل و هو الذي يفترض فيه أن يكون أول الناس إيمانا به و أشدهم تصديقا له في دعوته لأنه ابنه الذي رباه و عايشه كما لم يعايشه أحد غيره ، و تمرد أيضا على نداء أبيه أن يركب السفينة معه و مع المؤمنين ، ذلك النداء الذي أملته على نوح فطرته كأب يخشى على ابنه من الغرق فكل ما يريده لابنه هو أن ينجو من الموت الذي هو مصيره إن لم يركب معه السفينة و انحاز إلى الكافرين " يا بني اركب معنا و لا تكن مع الكافرين " لقد انحاز ابن نوح إلى قومه الضالين و ظن أن بإمكانه تجنب الموت حين رد على نداء أبيه بقوله " سآوي إلى جبل يعصمني من الماء " و كانت النتيجة أنه ( لا عاصم اليوم من أمر الله ) فغرق مع من انحاز إليهم من الضالين الكافرين " و حال بينهما الموج فكان من المغرقين " ، تمرد ابن نوح في النص القرآني تمرد ديني نتج عنه مروقه من الإيمان بالله و برسالته التي حملها إلى قومه أبوه نبي الله نوح .
يتجلى تمرد أمل الميتافيزيقي في طرحه عبر قصيدته رؤية موازية و لكنها مناقضة للرؤية كما تضمنها النص القرآني و في سياق آخر مختلف مما يمكن أن نسميه ( تناص المغايرة ) ، سياق الرؤية في النص القرآني هو سياق ديني و الطوفان هو عقاب الله للأشرار ( الضالين الكافرين ) على عدم استجابتهم لرسالته ، و السفينة هي وسيلة نجاة الأخيار ( المؤمنين ) من الطوفان و قد أوحى الله إلى نبيه نوح أن يصنعها برغم أنه و قومه يعيشون في منطقة صحراوية لا يوجد بالقرب منها بحار أو أنهار و هذا ما جعل قومه يسخرون منه كلما مروا عليه و هو مشغول بصنعها ، أما سياق رؤية أمل في نصه فهو سياق اجتماعي سياسي إذ إن الطوفان ( كتب أمل النص في منتصف السبعينيات تقريبا مع بداية الانفتاح الاقتصادي و توجه النظام المصري آنذاك سياسيا و اقتصاديا ناحية الغرب و قد ترتب على ذلك تدهور الطبقة الوسطى و نزول شرائح اجتماعية كثيرة تحت خط الفقر كما ترتب على ذلك نزوح كثير من المصريين في ظاهرة غير مسبوقة للعمل خارج مصر لا سيما بلدان الخليج العربي ) هو الفوضى التي راحت تتدفق عبر الخراب السياسي و الاقتصادي للبلاد فتجتاح كل شيء و يصور أمل هذا الطوفان في اجتياحه كل شيء في البلد قائلا :
الماء يعلو على درجات البيوت ، الحوانيت ، مبنى البريد ، البنوك ، تماثيل أجدادنا الخالدين ، المعابد ، أجولة القمح ، مستشفيات الولادة ، دار الولاية ، أروقة الثكنات الحصينة " .
و يكمل أمل لوحة الطوفان و هو يجتاح المدينة من خلال حشد مجموعة أخرى من المشاهد الدالة على حجم المأساة و تأثيرها على الجميع : " العصافير تجلو رويدا رويد ، و يطفو الإوز على الماء ، يطفو الأثاث ، و لعبة طفل و شهقة أم حزينة "
و الهاربون من خطر الطوفان في نص أمل ليسوا الأخيار كما في النص القرآني بل الأشرار الذين كان استبدادهم و فسادهم السببين الأساسيين في حدوث هذا الطوفان من الفوضى و الخراب ، هم حاشية النظام المستبد الفاسد و اللصوص و أصحاب المصالح المستفيدون منه و المتحالفون معه ، و منهم على سبيل المثال :
" المغنون ، سائس خيل الأمير ، المرابون ، قاضي القضاة و مملوكه ، حامل السيف ، راقصة المعبد "
و بعد أن يعطينا أمل لمحة عن نوعية هؤلاء الأشرار من خلال جملة صغيرة تصف ابتهاج راقصة المعبد بأمر تافه في تلك اللحظات العصيبة : " ابتهجت عندما انتشلت شعرها المستعار " يسوق إلينا بقية رتل الهاربين من الأشرار :
" جباة الضرائب ، مستوردو شحنات السلاح ، عشيق الأميرة في سمته الأنثوي الصبوح " و الجملة الأخيرة مشحونة بالكثير من الدلالات على تغلغل الفساد الخلقي في بلاط الحكم .
و يصف أمل هذه الفئات المرة الأولى بـ " الحكماء " و يصفهم المرة الثانية بـ " الجبناء " فنعرف أن وصفه الأول لهم بالحكمة لم يكن وصفا جديا بل كان في سياق السخرية منهم فحكمة الهروب و إن كانت في ظاهرها حكمة عقلانية فرضتها غريزة حفظ الذات إلا أنها في جوهرها حكمة انتهازية أملتها أخلاق الجبن و الحرص و الأنانية ، لذا فالسفينة في نص أمل ليست وسيلة نجاة بل وسيلة هروب و نكوص عن مواجهة خطر الطوفان الداهم و لا غرو فالفئات الهاربة هم المتسببون الرئيسيون في حدوث الطوفان باستبدادهم و فسادهم ، و المواطنون أي رجال القبيلة الذين انحاز إليهم ابن نوح فلم يركبوا و لم يركب معهم السفينة يمثلون في رؤية أمل دنقل الأخيار لا الأشرار ، إنهم الذين تشبثوا بالبقاء في الأرض / الوطن و حاولوا قدر استطاعتهم إنقاذ بلدهم من الخراب و الدمار :
بينما كنت ، كان شباب المدينة ،
يلجمون جواد المياه الجموح ،
ينقلون المياه على الكتفين ؛ و يستبقون الزمن
يبتنون سدود الحجارة
علهم ينقذون مهاد الصبا و الحضارة
علهم ينقذون الوطن
و كم كان أمل بليغا في عبارته الموجزة " مهاد الصبا و الحضارة " فقد جمع فيها بين قيمتين أساسيتين للوطن تتضاءل في حضرتهما كل قيمة أخرى : قيمة مصر الخاصة بالنسبة له و لكل مواطن مصري مثله كمهد للصبا بكل ما تحمله مفردة الصبا من عبق الذكريات البريئة و ما تثيره في النفس من حنين و شجن و أحلام و طموحات نبيلة ؛ و قيمة مصر العامة بالنسبة للبشرية جمعاء بوصفها مهدا للحضارة حيث بزغ فجر الضمير الإنساني وفق تعبير المؤرخ الشهير هنري برستيد .
و يتقمص أمل في نصه شخصية ابن نوح الذي تمرد على رغبة أبيه و محاولاته الدائبة أن يضمه إلى زمرة المؤمنين برسالته ، فكما رفض ابن نوح نصيحة أبيه بركوب السفينة معه و مع المؤمنين رفض أمل دنقل نصيحة سيد الفلك بمغادرة البلد الذي فقد روحه حين صاح به " انج من بلد لم تعد فيه روح " لقد فضل أمل ( ابن نوح الجديد ) أن يكون مع أبناء بلده البسطاء ساخرا من أولئك الذين عاشوا منعمين بخيرات الوطن حين كان الوطن بخير لكنهم في وقت المحنة أداروا له ظهورهم و لاذوا بالفرار و كأن علاقتهم بالوطن علاقة براجماتية ؛ علاقة منفعة و استفادة فلما لم يعد ثمة منفعة و لا استفادة هربوا :
قلت : طوبى لمن طعموا خبزه
في الزمان الحسن
و أداروا له الظهر يوم المحن
فالمجد الحقيقي ليس للانتهازيين و الأنانيين الجبناء و إنما لأولئك الذين اتخذوا من الشعب ملاذا آمنا و اعتصموا به ركنا حصينا فأبوا الفرار و رفضوا النزوح .
لا يكمن تمرد الشاعر فقط في تناص المغايرة مع النص القرآني و طرح رؤية موازية متعارضة في نصه تبدو في ظاهرها كأنها مجرد عملية توظيف فنية بحتة بل فيما تأسس عليه هذا التناص في مرحلة سابقة حين أعاد الشاعر تفسير النص المقدس تفسيرا مختلفا عما هو متداول و مستقر في أذهان الناس ، و يرتكز تفسير الشاعر الجديد للنص المقدس على النفي و الاستبدال ، نفي دلالات المواقف على الخيرية والشرية أو الإيمان و الكفر ثم استبدال القيم الدنيوية بالقيم الدينية أو بمعنى أكثر صراحة استبدال القيم الإنسانية بالقيم الإلهية مما يشي بتلفح تفسير الشاعر بمسحة نيتشويه تستبدل الإنسان بالله و إن لم ينف أمل ( الله ) في تفسيره الجديد للنص القرآني كما فعل منظر القوة أو فيلسوف السوبرمان - كما يلقبه بعضهم - حين صرح بموته ، و نعود للتذكير بأن تمرد أمل الميتافيزيقي تمرد موقف و ليس تمرد تساؤل دائم يسلكه في قائمة اللا أدريين و لا تمرد رفض شامل يخرجه من دائرة الإيمان .
على أن ما يلفت الانتباه في تمرد أمل الميتافيزيقي بشكل عام رومانسيته المشوبة بروح عدمية و هي تتجلى أشد ما تتجلى في رهافة حسه و ميله إلى الحزن و التشاؤم بسبب تأكده شبه اليقيني من المصير المأساوي لكل المتمردين و نقول شبه اليقيني لأن أمل يتنازعه في شعره بشكل عام عاملان متناقضان هما : الرغبة في التمسك بالمواقف مهما كان الثمن و الشعور في نفس الوقت بعدم الجدوى و أن مصير كل المتمردين مثله إما اللعنة و الطرد من الفردوس كما في حالة إبليس أو الإخفاق ثم الموت كما في حالة سبارتكوس و ابن نوح .
و يختتم أمل نصه برضاه عن موقفه الرافض للنجاة عندما تكون في شكل هروب من الوطن ؛ و التمسك بالبقاء على أرضه حتى و إن استحال قلبه إلى وردة من عطن و استحال وطنه الذي اجتاحه الطوفان إلى بقايا وطن :
كان قلبي الذي نسجته الجروح
كان قلبي الذي لعنته الشروح
يرقد الآن فوق بقايا المدينة
وردة من عطن
بعد أن قال " لا " للسفينة
و أحب الوطن




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى