سعد عبد الرحمن - الجزء الخامس من ( الذئب وتجلياته في الشعر العربي القديم)

11 - ذئب الفرزدق :
يقع نص الفرزدق الذي يعد من أبدع النصوص الشعرية التي تدور حول الذئب في ثماني أبيات فقط و يسرد الفرزدق حادثته مع الذئب سردا قصصيا مشوقا فيبدأ نصه بأنه حين أشعل النار في منتصف الليل لينضج عشاءه رأى ذئبا أغبر يمشي مضطربا كعادة الذئاب باحثا عما يسد به رمقه من الطعام فدعاه أن يأتي إلى حيث أوقد النار و هو ليس من أصحابه بالطبع و كيف يكون من أصحابه حيوان مفترس ، و حين أقبل الذئب مستجيبا لرائحة الشواء خاطبه الفرزدق قائلا اقترب و لكن كن على مسافة كافية لا تتجاوزها فإنني أيها الذئب الجائع نويت أن تكون ضيفي الليلة و سأقتسم معك عشائي .
و ظل الفرزدق كلما نضج جزء مما يشويه من اللحم يلقي إليه ببعضه بينما النار تشتعل حينا فتضيء ما حولها و حينا آخر يتصاعد الدخان فيغطي على ضوء النار :
و أطلس عسال و مــا كان صاحبا .. دعـــــوت لناري مــــوهنا فأتاني
فلما أتى قلت : ادن دونـــــك إنني .. و إيـــــاك في زادي لمشتــــركان
و بت أقد الزاد بـــيــني و بيــــــنه .. على ضـــــــوء نار مرة و دخان
و لما كشر الذئب عن أنيابه خاطبه الفرزدق و هو يقبض بيده حذرا و احتياطا على قائم سيفه قائلا : تعش أيها الذئب فإن عاهدتني ألا تغدر بي فربما نكون مثل صاحبين ، و من بلاغة الفرزدق أنه لم يقل نكون صاحبين و إنما كالصاحبين ( مثل من يا ذئب يصطحبان ) ، و يفسر الفرزدق لماذا لا يمكن أن يكون هو و الذئب صاحبين حقيقة ؟ بأنه يعرف أن الغدر سمة مركوزة في طبع في الذئب رضعها مع لبان أمه و هو جرو صغير :
و قلت له لمــــا تكشــــــر ضاحكا .. و قائم سيــــــفي في يــدي بمكان
تعش فإن عاهـــدتني لا تخـــونني .. نكن مثل مــن يا ذئب يصطحبان
و أنت امرؤ يا ذئب و الغدر كنتما .. أخييـــــــن كــــــانا أرضعا بلبان
و ينبه الفرزدق الذئب إلى أن ما صنعه معه لا يفعله كثيرون من الناس فلو أنه لجأ إلى أحد آخر غيره يلتمس منه طعاما فسيكون نصيبه في الغالب ضربة بسيف أو رمية بسهم .
و يخلص الفرزدق في نهاية قصته مع الذئب بحكمة هي أن صحبة الطريق تخلق ألفة و مودة حتى بين الأعداء المتحاربين :
و لو غيــــرنا نبهت تلتمس القرى .. رمـــــاك بسهم أو شبــــــاة سنان
و كل رفيـــقي كل رحل و إن هما .. تعاطى القنـا قومـــــــاهما أخوان
و قصة الفرزدق مع الذئب تدل على أن الغلظة و جفاء الطبع و جهامة الوجه التي كان يوصف بها إن هي مجرد قناع نفسي أو درع يواجه به الناس حتى لا يطمعوا فيه و لكنه في أعماق نفسه إنسان رقيق المشاعر و الأحاسيس لا يجد غضاضة في أن يكون ضيفه الذي يقتسم معها عشاءه عن طيب خاطر حيوانا مفترسا كالذئب ، و الدليل على صحة ما استنتجناه أن ضيافة الفرزدق للذئب تكررت و لم تكن مجرد حادثة فريدة في حياته ، يقول الفرزدق في في مقطوعة أخرى له من بضعة أبيات واصفا ضيافته لذئب آخر :
و ليلة بتنا بالغريـــــــــين ضــــــافنا .. على الزاد موشي الذراعين أطلس
تلمسنا حتى أتانا و لـــــــــــم يـــزل .. لدن فطمتــــــه أمـــــــــــه يتلمس
فلـــــــو أنه إذ جاءنا كــــــان دانيــا .. لألبسته لــــــــــو أنه كــــان يلبس
و لكن تنحى جنبـــــــه بعدمــــــا دنا .. فكان كقاب القـــوس أو هو أنفس
فقاسمته نصفيــــــن بيني و بيـــــنه .. بقيــــــــة زاد و الــر كائــب نعس
كأن ابن ليلى إذ قرى الذئب زاده .. على طارق الظلماء لا يتنعس
و إذا كانت الأبيات لا تتعلق بحادثة جديدة للفرذدق مع الذئب و إنما هي رواية أخرى لحادثة واحدة فهي تأكيد لأريحية الشاعر الذي أسعده صنيعه الطيب مع الذئب و ملأ نفسه بالراحة و الحبور .
12) - ذئب الكميت الأسدي :
نص الكميت عن الذئب نص قصير يقع في ستة أبيات يبدؤه بقوله ( لقينا بها ) و الهاء هنا تعود إلى الصحراء مما يدل على أن ثمة أبياتا مفقودة قبل هذا البيت ، لقي الشاعر في الصحراء ذئبا ضريرا أي قد أضر به الجوع و قلة الزاد ، و الذئب رغم أنه صياد ماهر لكنه لا يبقي على شيء مما يصطاده فهو يأكله لوقته ( لساعته ما يستفيد و يكسب ) :
لقيت بها ذئبا ضريـــــــــــرا كــــأنه .. إلى كل من لاقى مــــن الناس مذنب
مضيعا إذا اثرى كســــوبا إذا عــــدا .. لساعتــــه ما يستفيــــــــــد و يكسب
و قد رق قلب الشاعر للذئب الذي كان يتضور من شدة الجوع و يكاد ينطق معربا عن حاله البائسة و لذلك أخرج الشاعر للذئب حصة من بقايا ما لديه من طعام فما من طعام إلا و له بقايا إما أن تلقى أو توهب للمحتاجين ، و قال له خذ هذا الطعام فسد به جوعك و لك عندي أيضا نصيب من الماء تشربه بعد أن تأكل ، و بالفعل صب بعض أصحاب الكميت للذئب قليلا من الماء ليشرب بعد الأكل ، و يعد الشاعر صنيعه مع الذئب نوعا من الصدقة يدفع الله بها عنه الأذى :
تضور ما يشكـــو به من خصاصة .. و كاد من الإفصاح بالشكـــــو يعرب
فتشنا له مـــــن ذي المزاود حصة .. و للـــــزاد أســــــــــآر تلقى و توهب
و قلت له نل ذاك و استغن بالقرى .. و من ذي الأداوي عنــــد ذلك مشرب
و صب له شوا مـــــن الماء غائر .. به كفى عنـــــــه الحيــــــــبة المتحوب
و للكميت نص آخر قصير من ثلاثة أبيات فقط يحكي فيها عن صحراء قاحلة قليلة المياه تتجول فيها الذئاب كعادتها بحثا عن الغذاء و يحكي عن استعداده أن يقتسم طعامه مع الذئب و الذئبة ذات الجراء الصغيرة ، و في البيت الثالث يكشف الشاعر عن حالة مدهشة من السمو الخلقي و رقة الشعورالإنساني تجسدت في رأفة الشاعر بهذين الحيوانين المفترسين حتى إنه ليرى لهما حقا في طعامه كمحرومين برح بهما الجوع الشديد :
بنائية المناهــــل ذات غول .. لسـرحان الفلاة لها ضبيب
يراني في الطعام له صديقا .. و شادنة العســابر رعبليب
إذا اشتكيــا إلي رأيـــت حقا .. لمحرومين شفهما السغوب
13 - ذئب البحتري :
نص البحتري عن الذئب جزء من قصيدة طويلة و يقع في ستة عشر بيتا و يعد من أجمل النصوص الوصفية في تاريخ الشعر العربي بل يرقى في سلم الفن و الإبداع حتى إنه ليعد من وجهة نظري من أجمل النصوص في تاريخ الشعر العالمي بعامة ، يبدأ البحتري حكايته مع الذئب بتحديد الوقت الذي راح يجتاز فيه الصحراء و كان ذلك في الهزيع الأخير من الليل و قد لاح وسط حلكة الظلام بصيص ضئيل من ضوء الصبح فبدا كأنه بقية من نصل صقيل ( لامع براق ) لم يحتوها الغمد ، تسربل الشاعر بظلمة الليل و هو في طريقه و كان الذئب نائما قلقا نوم اللص المتوجس الحذر ، و قد لقي الشاعر في سراه بالصحراء بعض سكانها من الطيور و الحيوانات و الزواحف ، منها ما أزعجه وقع خطوات الشاعر فغادر مرقده خائفا فزعا مثل القطا و منها ما ظل على حاله غير مبال كالثعالب و الأفاعي :
و ليل كأن الصبح في أخرياته .. حشاشة نصل ضـم إفرنده غمد
تسربلته و الذئب وسنان هاجع .. بعين ابن ليل ماله بالكرى عهد
أثير القطا الكدري عن جثماته .. و تألفني فيــــه الثعالب و الربد
ثم يركز الشاعر حديثه على الذئب الذي استيقظ حين اقترب الشاعر من مكانه و كان ذئبا رمادي اللون يملا العين مهابة و له أرجل طويلة و أضلاع بارزة تدل على ندرة ما يجده من طعام ، و للذئب ذيل طويل يمتد خلفه كحبل الدلو الغليظ بينما ظهره منحن محدودب كظهر القوس .
جوع الذئب الشديد زاد من نحافته و ضمور بطنه ( فما فيه إلا الروح و العظم و الجلد ) كما زاد من شراسته ، لذلك فعندما اقترب الشاعر من مكانه برز له و هو يصر بأسنانه شراسة فتحدث صوتا أشبه بصوت أسنان الإنسان المقرور الذي يرتعد من شدة البرد :
و أطلس ملء العيـــن يحمل زوره .. و أضلاعه من جانبيــــه شوى نهد
له ذنب مثـــــل الرشـــــاء يجـــره .. و متن كمتن القــــــوس أعوج منأد
طواه الطوى حتى استمر مريـــره .. فما فيـه إلا الروح و العظم و الجلد
يقضقض عصلا في أسنتها الردى .. كقضقضة المقـــــرور أرعده البرد
و من شدة جوعه يطمع الذئب في افتراس الشاعر و الشاعر لم يكن بأقل جوعا من الذئب لذلك فقد حدثته نفسه أن يجعل الذئب هذه الليلة فريسته قبل أن يكون هو فريسة له ، فكلاهما لظروف ندرة الطعام في تلك الصحراء القفر و شدة ما يعانيه من ألم الجوع ذئب يضمر افتراس الآخر إذا التمس منه غرة :
سما لي و بي من شدة الجوع ما به .. ببيداء لم تعرف بها عيشة رغد
كلانا بهـــــا ذئب يحـــدث نفســــه .. بصاحبه ، و الجد يتعســـه الجد
و تطور الأمر فخرج من نطاق الرغبة و النية إلى الفعل فعوى الذئب ثم أقعى في مواجهة الشاعر ينتظر اللحظة المناسبة للوثوب و الانقضاض عليه و أنشد الشاعر بعض أبيات الرجز يحمس بها نفسه و يشجعها على الصمود في مثل هذا الموقف الصعب فأستثار ذلك الذئب الذي قرر الهجوم على الشاعر فأقبل في سرعة و قوة و لكن الشاعر كان مستعدا فرماه بسهم خرج من القوس كأنه كوكب ينقض من السماء في ليلة حالة السواد و لكن السهم طاش مما زاد من شراسة الذئب و إصراره على البطش بالشاعر ، و سرعان ما أتبع الشاعر سهمه الأول بسهم آخر لكنه في هذه المرة أحسن التصويب فاخترق السهم قلب الذئب ( بحيث يكون اللب و الرعب و الحقد ) :
عوى ثم أقعى فارتجزت فهجته .. فأقبل مثــــل البـــــرق يتبعه الرعد
فأوجرته خرقاء تحسب ريـشها .. على كوكب ينقض و الليـــل مسود
فما ازداد إلا جـــرأة و صرامة .. و أيقنت أن الأمر منه هـــــــو الجد
فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها .. بحيث يكون اللب و الرعب و الحقد
سقط الذئب صريعا و قام الشاعر فجمع بعض الحصى و أوقد نارا فاشتوى عليها الذئب الصريع و أصبح المفترس بحكم الضرورة فريسة و نال الشاعر الجائع قليلا جدا من لحم فريسته أي بمقدار ما يقيم أوده و ترك الباقي معفرا برمل الصحراء :
فخر و قد أوردته منهـــــل الردى .. على ظمأ لــــو أنـــه عذب الورد
و قمت فجمعت الحصى فاشتويته .. عليه و للرمضاء مــــن تحته وقد
و نلت خسيــــسا منــــه ثم تركته .. و أقلعت عنـــه و هــو منعفر فرد
--------------------
الهوامش
11 - الفرزدق ( 38 - 114 ھ ) هو اللقب الذي اشتهر به الشاعر الأموي أبو فراس بن غالب بن صعصعة من بني تميم ، لقب بالفرذدق لغلظته و جفاء طبعه و جهامة وجهه ، يعد من شعراء الطبقة الأولى و من أشهر شعراء عصره ، كان علماء اللغة يحتجون بشعره لسلامة لغته حتى قيل : لولا الفرذدق لذهب ثلث اللغة .
12 - الكميت بن يزيد ( 60 - 120 ھ ) هو اللقب الذي اشتهر به الشاعر الأموي أبو المستهل بن يزيد من بني أسد ، كان فارسا شجاعا و فقيها و خطيبا مفوها ، عرف بتشيعه لآل البيت ، و قد قال في مديحهم و التنويه بفضائلهم الكثير من القصائد التي تعرف لدى النقاد و علماء الأدب باسم " هاشميات الكميت " .
13 - البحتري ( 205 - 284 ھ ) هو لقب أبي عبادة الوليد بن عبادة ، و يعد من أشهر شعراء العصر العباسي بل أشهرهم لى الإطلاق هو و أستاذه أو تمام ، و قد عرف البحتري بطلاوة شعره و قدرته الفذة على الوصف و التصوير و كان في حياته مقربا من الخلفاء العباسيين لا سيما الخليفة المتوكل على الله .



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى