سعد عبد الرحمن - العقاب الهرم.. و تداعياتها في الشعر العربي الحديث - الجزء الأول

كثير من النقاد يقيسون قيمة النص الشعري بما يتضمنه من صور فنية جديدة و جمل و تعبيرات مبتكرة غير تقليدية و ما يشيع فيه من موسيقى مؤثرة وآسرة ملائمة لمضمونه و ما يثيره فينا من مشاعر وجدانية قوية و عميقة ، و لا مشاحة في شيء من هذا كله ؛ فكله صحيح مقبول ، و لكن قيمة النص الشعري لا تعود إلى تلك العوامل فقط ، فهناك عوامل أخرى شتى تسهم أيضا في تشكيل قيمة النص بنسب تختلف و تتفاوت من نص إلى آخر من أهمها الفكرة المحورية أو التيمة الأساسية التي يدور حولها النص ، ليس المقصود من كلامنا الفكرة المحضة فالأفكار كما يقول الجاحظ " مطروحة على الطريق " أي أن الأفكار الخام مبذولة و متاحة أمام الجميع : الشاعر و الناثر و الأديب و غير الأديب و العالم و الجاهل و العربي و الأعجمي و لا تمايز أو تفاضل بين النصوص الشعرية بمقياس الفكرة الخام ؛ الفكرة المجردة ، و لكن المقصود بالفكرة هنا هي كما تتجلى و تتجسد في النص الشعري وفق معالجة الشاعر الفنية لها .
و عندما تكون الفكرة أو التيمة المحورية في النص فكرة متفردة في جوهرها أي عالجها الشاعر في نصه معالجة فنية مبتكرة فجعلها تجسد قيمة من القيم الإنسانية الرفيعة الخالدة فإن هذا يجعل من النص الشعري نصا متعديا لذاته أي نصا مؤثرا ؛ يلهم شعراء آخرين فينتجون على غراره نصوصا أخرى تدور في فلكه مع تفاوت في مستوى تلك النصوص من حيث قيمتها الفنية .
و من تلك القصائد التي تمثل نموذجا للحالة التي نتحدث عنها قصيدة " العقاب الهرم " لعباس محمود العقاد و هي قصيدة قصيرة تقع في عشرة أبيات فقط لا أكثر كتبها العقاد في عقد العشرينيات من القرن الماضي و مطلعها كما يلي :
يهم و يعييه النهوض فيجثم .. و يعزم إلا ريـشه ليـــــس يعزم
و تدور قصيدة العقاد حول فكرة هي جزء من قانون " التغير " في الحياة ذلك القانون الإلهي الذي يحكم كل شيء في العالم بل في الكون كله ، إنها ببساطة فكرة " السقوط من عل " أو " العظمة المقهورة " أو " المكانة المضيعة " أو " الشموخ المهان " ، و هذه الفكرة كما تتجلى في حياة الأفراد تتجلى أيضا في حياة الأمم ، و قد تناول العقاد الفكرة بشكل رمزي من خلال " شيخوخة العقاب " ، و العقاب طائر من كبار الجوارح و قد عرفه العرب و أولعوا به لأسباب ثلاثة رئيسية : أولا لأنه منيع أي يعيش في القمم و الأماكن العالية التي يمتنع على غيره الوصول إليها و قد ضربوا به المثل في هذا الجانب فقالوا " أمنع من عقاب " ، ثانيا لأنه قوي مهيب بين سائر الطيور ، ثالثا لأن به أنفة فالعقاب لا يأكل إلا مما يصطاده ، و قد كان لرسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) راية يقال لها " العقاب " ، إلا أن الناس حتى الأدباء و الشعراء منهم يخلطون بين العقاب و النسر فيطلقون خطأ اسم النسر على العقاب ، حتى في الترجمة عن الإنجليزية ترجموا "Eagle" بالنسر بينما ( إيجل ) في اللغة الإنجليزية اسم لطائر العقاب ، أما النسر فيسمى " Vulture " و نتيجة الوقوع في هذا الخطأ تجدهم ينسبون إلى النسر كثيرا من صفات العقاب بالرغم من أن ثمة فوارق كثيرة بين الطائرين أهمها أن العقاب أكبر حجما من النسر و أقوى منه و العقاب لا يأكل إلا من صيده كما أسلفنا بينما النسر من سباع الطير آكلة الجيف ، و كما أشار ( معجم الحيوان ) هو ليس من الجوارح كما يتوهم معظم الناس .
بيد أن العقاب و النسر كليهما يمتاز بالقوة و المنعة ، و إذا حلق أحدهما في الجو فرض سيطرته و هابته بقية الطيور .
و قصيدة العقاد بلا مبالغة لوحة رمزية بديعة تجسد فكرة " العظمة المقهورة " أو " المكانة المضيعة " من خلال مشهد عقاب أدركته الشيخوخة فوهنت قواه و لم يعد يقوى على التحليق و لا الصيد كما كان في فتوته و شبابه ، و القصيدة تنتمي إلى الاتجاه الرومانسي في الشعر من حيث كونها بمثابة رثاء للعظمة عندما يقهرها الزمن ، و لطالما أولع الرومانسيون بتسجيل مظاهر التأثير السلبي للزمن في الأشياء ، كما تنتمي إلى الاتجاه الرمزي من حيث إن أسلوب التعبير فيها عن الفكرة أسلوب غير مباشر فقد عبر العقاد عن فكرته في القصيدة من خلال استخدامه " العقاب " كرمز ، و القصيدة على صغرها تمثل الاتجاه الوجداني لمدرسة الديوان لاسيما العقاد أهم أعمدتها الثلاثة فمن خلال أبياته الأحد عشر تنضح الأحاسيس الذاتية للشاعر و تمتزج الفكرة بالشعور فلا هي فكرة مجردة و لا هو شعور محض ؛ و يتداخل عالم الحس في الطبيعة بعالم النفس كما يتجلى تقدير الشاعر للقوة في الحياة و في التعبير ، لولا أثارة من الأسلوب الجزل و المفردات غير المأنوسة مثل ( حدباء القدامى و رنق الصرصور ) و لكن للشاعر في الواقع عذره فمن أين له الفكاك و التخلص الكامل من حبائل لغة عصره ؟ .
و بنية النص تقوم على المقابلة بين مظاهر حالتي القوة و الضعف سواء أكانت بين الأشياء المختلفة كما ( بين العقاب و القطا و بين العقاب و الصرصور ) أو بين الشيء و نفسه كما ( بين العقاب في شبابه و العقاب في شيخوخته ) و من خلال المقابلة بين الشيء و نقيضه تسطع الفكرة و تظهر معالمها أمام حواسنا و يتجسم الرمز و تتضح أبعاده في وعينا ، و من البيت الأول يدخل العقاد إلى قلب المأساة ، فالعقاب الذي لم يكن يرى إلا محلقا في أجواز الفضاء يخفق بجناحيه الكبيرين القويين و لا يحط إلا على قمم الجبال و أطراف الأشجار السامقة أدركه الضعف و الوهن فإذا هم بالنهوض لا يستطيع و إذا عزم على الحركة لا يطاوعه جناحاه ، و إنه لأمر محزن إلى حد كبير أن يخفق الصرصار الحقير بجناحيه فوق الأرض بينما سيد الفضاء منكفئ على وجهه في الأرض لا يريم ؛ و إنه لأمر مؤلم جدا أن يصيح طائر القطا الضئيل بينما هو الذي كانت تذعر الطيور و ترتعد عندما تسمع صوته قد عقد لسانه الخرس .
لقد رنق الصرصور و هو على الثرى .. مكب و صاح القطا و هو أبكم
و يزيد من إحساسنا بالحالة المأساوية التي أصبح عليها العقاب فيصوره و هو يضم إلى جسده النحيل جناحيه اللذين يبدو ريشهما الأمامي ( القدامى ) و كأنه أضلاع موتى مهشمة داخل قبورها ، لقد بات ينوء بحمل جناحيه و كانا أيام شبابه يحملانه فيطير و يحلق عاليا ، و يرفع العقاب الهرم رأسه محدقا في نواحي السماء فوقه فيبدو و هو محدق كأنه شيطان رجيم يتذكر بحسرة زمنا عاشه هانئا آمنا في الفردوس قبل أن تغلب عليه شقوته فتحل به لعنة الله الأبدية ، و حين يتعب من التحديق إلى أعلى يغمض عينيه فلا يدري من يراه على هذه الحالة أهو يستشعر دنو الموت منه فهو يغمض عينيه كيلا يراه أم أنه يغمضهما ليحلم بماضيه الذهبي الجميل ؟
يلمــــــلم حدبـــــاء القــــــدامى كأنها .. أضالــــع في أرمــــــــاسها تتهشم
و يثقله حمـــــــل الجناحيــــــن بعدما .. أقلاه و هــــــو الكاســـــر المتقحم
و يلحــــظ أقطــــار السمـــــــاء كأنه .. رجيـــــم على عهد السماوات يندم
و يغمض أحيانا فهل أبصر الردى ؟ .. مقضا عليــــــه أم بماضيـــــه يحلم
و إذا أدفأت حرارة شمس الشتاء العقاب و أذهبت قشعريرة جسده الذي هدته الشيخوخة أغفى ، و ربما و هو صغير غر توهم هذه الشمس طائرا يستطيع اصطياده ، و بالرغم مما عليه العقاب الهرم من ضعف و وهن إلا أن له مهابة في عيون الطير .
و الطيور في الواقع لم تكن عاجزة عن التحرش به و مضايقته و إنما ما منعها عنه بقية هيبة من إرث شبابه الباكر و أثارة من رصيد صيته القديم :
إذا أدفأته الشمـــــس أغفى و ربما .. توهمها صيــدا له و هــــــــــو هيثم
لعينيـــــك يا شيخ الطيـــور مهابة .. يفــــر بغاث الطيــــر عنها و يهزم
و ما عجزت عنـــك الغداة و إنما .. لكل شباب هيـــــبة حيـــــــــــن يهرم
و النصوص التي جاءت تداعيا لقصيدة العقاد كثيرة و متنوعة و لكننا سنكتفي بتناول بعض منها فقط هي الأكثر تمثيلا للتداعي .



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى