عبد الرحيم جيران - فعل السرد والتجربة والحجة

تنبغي الإشارة- قبل مُعالجة العلاقة بين فعل السرد وسارده والتجربة – إلى مجموعة من التحوّطات الإجرائيّة، وفي مُقدِّمتها اتّخاذ الحكايات المُؤطَّرة مجالًا لفحص هذا الأمر، وثانيها، أنّ مفهوم التجربة لا يقلّ تخييلًا عن الحكاية، وثالثها، النظر إلى فعل السرد من منظور مختلف عن التصوّرات السائدة في النظر إليه من زاوية اتّصاله بالسارد؛ حيث يُرى إليه من زاوية ارتباطه بموضوع من جهة، وبالتاريخ من جهة ثانية، ورابعها، قيام فعل السرد على المصداقية التي تتّصل بمطلب الثقة، كما أشرنا إليه في مقال سابق. خامسًا، يُعَدُّ ما نُقرِّره من نتائج- في هذا الصدد- من طبيعة فرضيّة تتطلّب فحصها في متن الليالي كُلِّه.
إذا ما نُظر إلى فعل السرد المُتعلّق بالحكايات الثلاث الأولى المُتولِّدة عن حكاية «التاجر والعفريت» فإنّ أوّل شيء يُثير التنبّه، هو كون السرّاد الداخليّون يصطحبون معهم الحجّة على ما يحكونه؛ فالسارد الأوّل يصطحب معه غزالة، والثاني كلبتين، والثالث بغلة. وإن دلّ هذا على شيء فعلى كون السرّاد الثلاثة يتكهَّنون سؤال المسرود له الداخليّ «العفريت» غير المُصرَّح به، والذي هو مُتوقَّع على نحو مُضمر من قِبَلِهم، وهذا السؤال هو: «ما حجّتك على صدق ما ستحكيه؟»؛ ويقود هذا إلى أنّ المحكي ينبغي أن يكُون واقعيًّا، لا بمعنى قبوله الحدوث فتصديقه، وإنّما بمعنى أنّه مُحقَّق في حياة السارد الشخصيّة، ومن ثمّة يرتفع الفهم الذي يكُون به المحكي مُنفصلًا عن سارده، أو كذبًا (البحتري) أو بمثابة إنزال الباطل منزلة الحقّ (الجاحظ)؛ فيصير مفحوصًا في ضوء المُجرَّب الحقيقيّ. ولا وجود لهذا الأخير إلّا بوجود الأثر المادّيّ الملموس الدالّ عليه؛ فتتحوّل كلٌّ من الغزالة والكلبتين والبغلة إلى آثار دالّة عليه، وشواهدَ على وقوعه، وهي سابقة في الوجود على فعل السرد. ويترتّب على هذا أنّ مفهوم السارد يتغيّر، إذ لم يَعُد يسرد موضوعات خياليّة، بل موضوعات حقيقيّة داخلة في مجال تجربته، ومُتّصفة بكونها مُكوِّنًا من مُكوِّنات الحياة الخاصّة به؛ فهو لا يروي حكاية الآخرين الغابرين، بل حكايته الخاصّة المُجرَّبة. وهذه الحكاية لا تُعَدُّ منتهية، بل مُستمرّة في الحاضر، بفعل استمرار أثرها المُتمثِّل في الشاهد (أقصد الغزالة والكلبتين والبغلة) الذي يصطحبه معه السارد. كما أنّ الحكاية التي تُسرد تتّصف بالحيوية التي تتمثل في كونها تروى من خلال من عايشها، ولا تخضع لآثار النقل الذي تُوصف به الحكايات التي تروي الغياب، وتنتمي إلى أزمنة مجهولة، فزمان الحكاية تجريبيّ ملموس، ويتمثّل في حضور شخصيتيه الرئيستين: الذات وضدّ الذات معًا في لحظة روايتها. إنّ المسرود له (العفريت أساسًا) لا تعجبه الحكايات المروية لأنّها غريبة تحكي شيئًا غير مألوف وحسب، بل لأنّها وقعت بالفعل أيضًا. أمّا المسوخ التي عليها الشواهد- الحجج الآثار (الغزالة، الكلبتان- البغلة) فهو أمر لا يدخل في باب المُتعذِّر أو غير المألوف، لأنّه يُعَدّ جزءا من معرفة مجتمع يُعَدُّ تمسيخ الإنسان فيه مُكوِّنًا من مُكوِّنات عالمه الموسوعيّ، كما أنّه رمز للتاريخ المُنعطف عن مسيره المؤمّل. هكذا تصير أفعال السرّاد التي تُسند إلى السرّاد الداخليّين- على الأقلّ في هذه الحكايات- مشروطة بالتجربة والمعايشة الدالّتين على الواقعي- المُحقَّق، كما تُسرَّد بوساطة ضمير المُتكلِّم.
وتُبْنى الفرضية المذكورة- في هذا الصدد- على كون فعل السرد المرتبط بالمُحقَّق التجريبيّ يَرِدُ في الأغلب في حكايات المسخ. ولا يظهر هذا في الحكايات الثلاث المُتولِّدة عن حكاية التاجر والعفريت فحسب، بل أيضًا في حكاية ابن الملك المسحور الذي نصفه الأسفل من حجر ونصفه الآخر من لحم ودم، والتي تحكي الشخصية فيها تجربتها الخاصّة على لسانها. وتُعَدّ حالتها المسخية أثرًا شاهدًا وحجّة على المُجرَّب المُحقَّق، واستمرارًا في زمان السرد المُسند إليها. والحالة المسخية هي ظاهِر يحتاج إلى تفسير باطنه الخفي الذي هو الحكاية.
لا بدّ من تأويل اللجوء إلى السرد المُتّصل بالملموس المعيش. هل الأمر يتعلّق بكون شهريار- بوصفه مسرودًا إليه خارجيًّا على مستوى الحكايات المُؤطَّرة التي تروى- شبيهًا بالعفريت، لا يقبل من الحكايات التي تتّصل بالمسخ إلّا تلك التي عايشها من يرويها. إذا كان الأمر هكذا فستترتّب عليه نتائج، من ضمنها أنّ السلطة ترغب في التأكّد من كلّ شيء، ولا تقبل ما ليس له أصل، وتشكّ في الخيالي لأنّه مثار شبهة، ولا تصدّق إلّا الواضح الذي لا يُشوش على القصّة الرمزيّة للحقيقة، كما هي مُسنَّنة في مُتخيَّلها، والتي تعني أساسًا أنّها التجسيد الملموس لها، وما هذه الحقيقة سوى كونها مُجسِّدةً للنور (الشمس)؛ ومن ثمّة فهي لا تقبل إلّا ما يُشبهها في القول أو غيره، وعلى حكاية المسخ أن يكُون لها نصيب من هذه المُشابهة، فيجب تبعًا لهذا أن تكُون صادقة، ولا بدّ لمن يرويها أن يكُون قد عاشها، أو عايشها. ولعلّ من ضمن هذه النتائج أنّ سرد المسخ يتطلّب- بوصفه رمزًا يُكثِّف تفسير الانحسار التاريخيّ بما هو أخلاقي- تعليل ظاهره (الواقع المُتدهور) بالكشف عن باطنه بوساطة الشهادة المُعايِشة، كما في كتابة التاريخ. وحتّى نُفسِّر هذا الأمر ينبغي التساؤل عمّا إذا كان فعل السرد المُنتَج على هذا النحو يتّصل بمعرفة ما إذا كانت لحظة الأزمة ـ في أثناء تدوين «ألف ليلة وليلة»- كانت في أمسّ الحاجة إلى فهم ما كان يحدث من سوء تاريخيّ وتأويله؛ ومن ثمّة ينعكس هذا على بناء فعل السرد القائم على المُجرَّب المُحقّق؛ بحيث يُبنى وفق طريقة مُوائمة تستجيب إلى تأويل الغامض (المسخ) الذي هو مُوازٍ حكائيّ للغامض الموجود في الواقع السياسيّ، لعالم مُتّجه نحو الانسداد والانحطاط. إذا كان الأمر كذلك فكيف يتأثّر بناء الحكاية من قِبَل السارد؟ نقف هنا أمام طريقة مُميَّزة؛ حيث يعمد فعل السرد إلى تمثيل الظاهر- السطح الحيوانيّ المُتعلِّق بالشاهد- الأثر (المسخ)، ثمّ التدليل على باطنه الإنسانيّ بوساطة الحكاية، بما يعنيه هذا التدليل من تمثيل للتحوّل من هيئة إلى أخرى. لكنّ هذه الطريقة تامّة بوساطة المجاز المرسل القائم على إطلاق المُسبَّب (المسخ) وإرادة المُسبِّب (الشرّ). لكنّ تمثيل الباطن كان يُحرّف عن أصله السياسيّ المُتّصل بالسلطة، ويُجسَّد في السبب الأخلاقيّ، خاصّة في خيانة المرأة وكيدها. ولم يكن للسرد أن يتم إلا انطلاقا من النهاية صوب البداية: هل الأمر مُوازٍ- هنا- للرغبة الدفينة في العودة بالحاضر السياسيّ (النهاية) نحو ماضي المجد (البدايات)؟



أكاديمي وأديب مغربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى