عبد الرحيم جيران - إشكالية الزمان والتدوين والتاريخ في ألف ليلة وليلة

18qpt850.jpg

ستأخذ مسألة مُعالجة الزمان في هذا المقال وجهة أخرى، لكن سنُؤجِّل الحديث عن خلفيتها النظريّة إلى حين اكتمال الكتاب، الذي نُنجزه حول «ألف ليلة وليلة»، ونكتفي بالقول: ينبغي تجاوز البعد التقنيّ في النظر إلى الزمان في السرد، وكلّ نظرة ظاهراتيّة لا تأخذ بعين المُراعاة كونه يتمتّع بتكثيف للتاريخ والرمز والدلالة في بنيته؛ ما يعني أنّه ليس مُجرّد إطار- نسق (البنيوية) أو تجربة (الظاهراتية)، ولكنّه حيِّز تتبادل الدلالة فيه والتعبير (الكتابة والمتخيل والتخييل) والتاريخ، الفاعلية على نحو تضافريّ تجديليّ.
هذا ما تُعلِّمنا إيّاه حكايات «ألف ليلة وليلة»؛ فهي تضعنا أمام إشكالية الزمان المُخيَّل، وتفعل هذا بوساطة دليل مُكَثِّف يُربك تمايز الزمان. وتكفي العودة- في هذا الصدد- إلى حكاية «الحمّال» لفهم هذا الاتّصاف، وبالضبط إلى هذا التعبير السرديّ، «وتبعها فوقفت على دكان فاكهاني، واشترت منه تفاحًا شاميًّا وسفرجلًا عثمانيًّا وخوخًا عمانيًّا وياسمينًا حلبيًّا…». والغاية من هذا تحديد مصدر الفواكه لأنّه هو الأهمّ في موضوعنا؛ فمن ضمن ما اشترت الدلّالةُ السفرجل «العثمانيّ»، وهذه النسبة السلاليّة (العثمانيّون) تُعَدُّ- بالنسبة إلينا- دليلًا مُكَثِّفًا؛ إذ يتفاعل داخله العرق (التاريخ) والزمان (زمان التدوين) والمكان (موقع حضور سلطة جديدة). ومعنى هذا التكثيف ماثل في الإشارة إلى زمان الخلافة العثمانيّة، أمّا ما كان قبل نشوئها فَعِرْق يُعرف بالترك من دون انتساب عائليّ سياسيّ. وتكمن إشكالية الزمان المُركَّب في هذا التكثيف الذي يتميَّز به الدليل «عثمانيّ»؛ فهو يُشير إلى البون الزمانيّ بينه وزمان الحكاية الذي يعود إلى العصر العباسيّ الأوّل (زمان هارون الرشيد: الخليفة الخامس: القرن الثاني الهـجري) كما يُحدَّد من داخل الحكاية. ويصل هذا البون الزمانيّ إلى ما يقرب خمسة قرون؛ ومن ثمّة يكُون من الوجيه- في نطاق هذا البون- طرح السؤال الآتي: أيُشير الدليل المُكثِّف «عثمانيّ» إلى زمان حكاية «الحمّال» (الليلة التاسعة: رقم 9 يرمز للولادة: ولادة الليالي: زمان تدوينها) أم إلى زمان فعل السرد المُسند إلى شهرزاد، الذي يروي الحكاية، أم إلى الزمان التي دُوِّنتْ فيه أو أُدرِجت فيه في «الليالي»؟
ليس أمامنا في بسط هذه الإشكالية الزمانيّة وفهمها سوى ثلاث فرضيات: أ- فرضية تدخّل زمان التدوين في الحكاية. ب- فرضية إدراج حكاية «الحمّال» في زمان لاحق على متن «الليالي». ج- فرضية تساوق زمان فعل السرد المسند إلى شهرزاد وزمان الحكاية المذكورة؛ ففي ما يخصّ الفرضية الأولى فإنّها تُشير إلى تأثير زمان تدوين الحكاية في صياغتها شكلًا ودلالةً، وهو تدخّل يعود إلى ما بعد القرن السابع الهجريّ، لكنّه تدخّل واعٍ وغير تامّ مُصادفةً، وقد تمّ بوساطة المجاز المُرسل الذي يدلّ فيه الجزء (سفرجل عثمانيّ) على الكلّ (عصر التدوين)؛ فلم يَكُن من المُمْكِن رواية حكاية حول السلطة المُهيمِنة (الخلافة العثمانيّة) في هذا العصر، لأنّه ما زال حيًّا وفتّاكًا، ولا يسمح بلمْزِه، ولو على مُستوى الحكاية، كما أنّه زمان انتهاء العصر العباسيّ الثالث، وتحوّل الخليفة العباسيّ إلى رمز فقط، بينما آلت السلطة الفعليّة إلى المماليك في القاهرة.
وفي ما يخصّ الفرضة الثانية فإنّ إدراج حكاية «الحمّال» في زمان مُغاير (القرن السابع الهجري) لزمان حكايتها (القرن الثاني الهجري) فقد كان ضرورة تخييليّة، أُريد منها أن يُواجِه زمانُ المجد التاريخيّ (عصر هارون الرشيد) نتاجَه الماثل في السوء التاريخيّ من طريق إحيائه، ووضعه مُباشرة أمام نفسه في حالته المُتّسمة بالتدهور.
أمّا في ما يتّصل بالفرضية الثالثة فإنّ مُساوقة زمان فعل سرد حكاية «الحمّال» الزمانَ الذي تجري فيه؛ أيّ زمان هارون الرشيد فأمر مُستبعد، ولا يُمْكِن المُصادقة عليه؛ إذ من المُجازفة اللمز- والحكاية لمّازة- في صدد عصر سلطة حيّة وقويّة وفتّاكة اتّصفت بكونها أكثر مُراقبةً لما يحدث في مُحيطها، قولًا وفعلًا وفنًّا. ومعنى هذا تعذّر سرد حكاية تُلمِز عصرَ هارون الرشيد إبّان خلافته، أو حتّى ما بعده، لأنّها ستلمِز الخليفةَ من بعده (الأمين) الذي يَرِدُ في الحكاية ذاتها بوصفه مُذنِبًا.
نميل إلى الفرضية الثانية التي تتّصل بإدراج حكاية «الحمّال» في نسيج «الليالي»، أمّا الفرضية الأولى فهي تتّصل بالفرضية الثالثة التي تَعُدّ الحكاية المذكورة، قد أُنتجت في زمان يسبق زمان تدوينها خلال بدايات العصر العثمانيّ. وإذا كان الأمر كذلك فالمقصود من الملمح المُركَّب للزمان في سرده هذه الحكاية، هو عقد مُواجهة بين عصر المجد وما آل إليه؛ فثالوث السلطة (هارون الرشيد (الحكم) وجعفر البرمكي (التدبير السياسي) ومسرور السياف (آلة القمع) هو مُجرَّد رمز يُمثِّل العصر المُزدهر؛ ويُستجلب إلى الحكاية ليرى عناصر ضعفه التي كانت وراء السوء التاريخيّ مُجسَّدة أمامه، ويستمع إليها. وبعبارة أخرى ليرى التركة التي آلت منه إلى ما تلاه من عصور مُتدهوِرة. وتُمثِّل حكايات الصعاليك (أبناء الملوك) رمزًا لهذه التركة على مُستوى الحكم. ويتماشى هذا مع بوادر الانحلال وتحوّل الخلفاء إلى رمز شكليّ. وما الصعاليك إلّا تخييل يرمز إليهم. وإذا كان الصعاليك يتّصفون باشتراكهم جميعهم في فقدان عين واحدة، والتوهان في الأرض، وحلق اللحية، فإنّهم يُجسِّدون بهذه الصفات ضعف الرؤية (الإرادة) وفقدان الطموح، والتعبير عن مُشابهة المرأة (بوصفها رمزًا للتبعية)؛ فلا أحد منهم سعى إلى استرداد ملكه، ولجأ كلّ واحد منهم إلى بغداد بحثًا عن هارون الرشيد، ليروي له قصّته لعله يُنقذه من مصيره البائس. وليس هذا اللجوء سوى لجوء الحكاية إلى هارون الرشيد (وعصره) لتروي على مسمعه ما كان نتاجًا لسلطته التي بنت مجدها على تكميم الأفواه، وتتجسّس عليه، بعد أن كان هو من يتجسّس عليها وهي تتلعثم على الشفاه في عصره. وربّما كانت «حكاية الوزير نور الدين مع أخيه شمس الدين» (الليلة العشرون) أكثر تعبيرًا عن علاقة الزمان بالتخييل؛ حيث يُمْكِن عَدُّ هجرة نور الدين من مصر- بوصفها رمز ضعف الخلفاء العباسيّين وهيمنة المماليك- إلى البصرة- بوصفها رمزًا لزمان المجد- نوعًا من النزول في الزمان، بحثًا عمّا لم يمنحه التاريخ. وتخييل هذه الحكاية هو عكس تخييل حكاية «الحمّال»، فزمان هارون الرشيد هو الذي يتجاوز لحظته نحو زمان الانحلال. هل هو كمون السوء التاريخيّ في قتل من يروي زمانه (جعفر البرمكي هو من يروي هذه الحكاية) من قِبَل هارون الرشيد؟


أكاديمي وأديب مغربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى