عبد الرحيم جيران - "ألف ليلة وليلة" والحريم

ما استقر في عديد من الدراسات التي قاربت «ألف ليلة وليلة»- خاصة منها تلك التي تحولها إلى وثيقة مشابهة للوثيقة التاريخية- أن من بين القضايا التي تشخصها حكاياتها مسألة الحريم السلطاني.
ويكاد يكون هذا الربط الميكانيكي مشتركا بين الدراسات الاستشراقية والعربية، على حد سواء، لكن ربطا من هذا القبيل يحتاج إلى مزيد من التمعن حتى يتحقق فهم المسألة على نحو أكثر دقة. وسنعمل على معالجة هذا الأمر وفق التصور التكويني التداولي؛ حيث تقتضي الضرورة التجديل بين فعل السرد المسند إلى شهرزاد- بما يعنيه من ربط له في محفله السردي- ومسألةِ الحريم. وهذا المسلك المنهجي هو وحده القادر على توفير الفهم الدقيق لليالي وتأويلها على الوجه الأصلح.
وسيكون المنطلق- في هذا الصدد- الوجهة نفسها التي سلكناها في بقية المقالات الأخرى المتصلة بالليالي؛ أي اعتماد الحكاية الإطار بوصفها من جهة نافذة استقطابية تجذب كل الحكايات إليها، وتبرر وجودها جنبا إلى جنب، وبوصفها تتضمن من جهة ثانية كل العناصر المساهِمة في وضعية التلفظ السردي (الأب – شهرزاد- شهريار – دنيا زاد)؛ فهي لا تتضمن أي تمثيل للحريم، أو أي إشارة إليه، بل لا تتضمن الوصيفة بوصفها عنصرا لا بد منه للملكة، أو لمن يفترض فيها أن تكون ملكة. وحتى إذا نحن تجاوزنا مسألة خلو الحكاية الإطار من تمثيل الحريم، وعددناها من باب الشطط في التأويل، فإن موقف شهريار من النساء جميعهن القائم على الشك في وفائهن يجعل من حفاظه على الحريم في قصره مسألة تتناقض مع منطق الحكي نفسه، قبل أن تتناقض مع فعله المدمر. ومن ثمة فكل ربط للحريم بشهريار يعد غير مقبول، كما لا يمكن البحث عن هذا الربط في الحكاية الإطار على الإطلاق، بل في الحكايات المؤطرة المسرودة على لسان شهرزاد، التي تخص ذواتٍ غير ذات شهريار. وتنجم عن هذا التنافر بين الحكاية الإطار (مجال التلفظ) والحكايات المؤطرة (الملفوظات) إشكالية سردية على مستوى التأويل، ونفضل تأجيل الحديث عنها إلى حين. ولمزيد من دعم عدم ربط الحريم بشهريار نلجأ إلى وعي النص الذي يقصد به ما يتضمنه من معلومات تفسره من داخله. والمعلومة التي توفرها الليالي- في هذا الصدد- ماثلة في الحكاية موضع الرهان بين شهرزاد وأبيها، التي تسبق الشروع في سرد المتن الليلي؛ أي حكاية الثور والحمار. فإذا كان المغزى الذي تقوم عليه هذه الحكاية ماثلا في مآل الحمار (ترميز لمآل شهرزاد) الذي أشفق على الثور (ترميز لمآل بنات جنس شهرزاد) فإن المغزى الثاني الماثل في علاقة صاحب الحمار والثور بزوجته يعد معلومة ثمينة، تسمح باستخلاص منظور محدد لعلاقة الرجل بالمرأة، لا على مستوى ممارسة السلطة الذكورية (ضرب الزوجة)، وإنما على مستوى الزواج، أهو متعدد أم منفرد (زوجة واحدة)؟ فالتقابل بين صاحب الحمار والثور والديك هو تقابل بين من يملك زوجة واحدة لا تطيعه، ومن يملك زوجات عديدات يطعنه. ويؤشر هذا التقابل على نمط من العيش بين الرجل والمرأة متصٍل بنسق عام يتحكم في الحياة العامة، بما في ذلك حياة القصور؛ ومن ثمة يمكِن افتراض أن مسألة الحريم – التي تتجاوز السلطان إلى الفئات الاجتماعية الميسورة- لا تنطبق على شهريار.
نأتي بعد الافتراض العام أعلاه المتعلق بالحكاية الإطار إلى الحكايات المؤطرة (الملفوظات)، فمما لا شك فيه أنها تتضمن في طياتها ما يؤشر إلى تعدد الزوجات، وعلى الحريم. وتكفي العودة إلى الحكاية المتعلقة بهارون الرشيد للوقوف عند هذا الحكم، وإذا كان لفظ الحريم لا يذكر على نحو صريح، فإن هناك لفظ الجواري الذي يقوم مقامه، ويشير إلى ما يوازيه وضعا ودلالة. وما أن يتأكد هذا تترتب عليه نتيجتان مهمتان: أولاهما تصويب موضعة مقاربة الحريم في الليالي؛ حيث لا تستقيم إلا في نطاق الحكايات المؤطرة، لا في الحكاية الإطار التي تتصل بشهريار. وثانيتهما تتصف بطابعها الإشكالي الذي يرتبط بالوضعية التداولية التكوينية للنص. ونكون في هذا السياق أمام سؤال مهم: أنوجد أمام تناقض حاد في تمثيل علاقة السلطة بالمرأة في الليالي؟ أم يتعلق الأمر بتوليف حكائي يستند إلى ثقافتين مختلفتين تتركان أثرهما في السرد الليلي؟ أكيد أن التناقض وارد، لكن ليس في عمق ثقافة واحدة، بل بين ثقافتين مختلفتين في التوجه، وفي الزمان والمكان؛ أي بين الثقافة التي نقلت منها الليالي (الآسيوية) والثقافة المنقولة إليها (العربية – الإسلامية). فانعدام الحريم متصل بالثقافة الأولى، بينما يعد وجوده مرتبطا بالثقافة الثانية. وهذا التقابل له صلة بتكوين النص الليلي في الزمان وتداوله عبر الثقافات. وهكذا يمْكِن الجزم بأن الحكاية الإطار ظلت – بما تتضمنه من حكاية الرهان المتعلقة بصاحب الحمار والثور – محافظة على أصلها الأجنبي المترجم، والمؤسس في حضن ثقافة غير عربية، بينما تعد الحكايات المؤطرة التي تمثل الحريم والتعدد الزوجي، أو ما يقوم مقامهما، دالة على الثقافة شرق الأوسطية العربية. ومما يؤكد كون الحكاية الإطار المعتمدة في مناقشة مسألة الحريم ذات ملمح أجنبي، هو كونها تعد- من حيث طابعها البنائي- تقليدا سرديا معمولا به في السرد الآسيوي (الهندي- الفارسي)، ولعل أكبر دليل- في هذا الصدد- كتاب «كليلة ودمنة الذي نقله عبد الله بن المقفع إلى اللغة العربية؛ فهو يقوم بدوره على هذا التقليد السردي؛ إذ تعتمد فيه حكاية إطار لتبرير الخرافات المحكية فيه.
قد يقع التباس بالنسبة إلى البعض، ونحن نصل إلى هذه النتيجة في الربط بين مسألة الحريم والبعد التكويني التداولي لليالي، ومفاد هذا الالتباس أن الملوك والأمراء في آسيا لم يكونوا بدورهم بمنجى من معاشرة نساء غير الزوجات- الملكات، فكيف يستثنون من مسألة الحريم؟ ينبغي عدم الخلط – في هذا النطاق بين نظام المحظيات ونظام الحريم؛ فهما نظامان مختلفان تمام الاختلاف. فالأول يتأسس على التملك القهري الذي تكون فيه المرأة المنتمية للحريم خاضعة لمنطق البيع والشراء (بضاعة) أو الهدية (الشيء)، وهو معلن غير خفي، ومشرعن بقوة المال والسلطة، بينما يقوم الثاني على العشق، ونسبية الرضا، وهو خفي غير مشرعن. ويكاد يكون هذا النظام الثاني مميزا لعديد من المجتمعات القديمة الفيودالية، بما فيها مجتمعات أوروبا (ملوك فرنسا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى