عبد الرحيم جيران - الموت والتاريخ والعقاب الأخلاقي في «ألف ليلة وليلة»

تُعَد مفاهيم الموت والتاريخ والعقاب أسسًا في فهم علاقة التخييل الحكائي بالواقع السياسي، وهي مفاهيم تكاد تُحدد علاقة الحبكة التخييلية بالسوء التاريخي، الذي ميز زمان ما قبل الانهيار الشامل للدولة العربية المركزية. وتتجمع هذه المفاهيم بوصفها عناصر نصية مُتفرقة لتُشكل في النهاية نسقًا تأويليا يسمح بإدراك إنتاج «ألف ليلة وليلة».
والمُراد – هنا- هو إظهار كيف تتضافر على مُستوى التخييل، لكي تُقدم حبكة مُفسرة لهذا السوء التاريخي. وينبغي قبل هذا التأكيد على أننا نتعامل مع هذه المفاهيم انطلاقًا من نقد ضمني للأفكار المُسبقة التي تحيط بها (بولتمان).
إن ما تسعى إليه «ألف ليلة» من خلال التعالق بين الحكاية الإطار والحكايات المُؤطرة، هو إنقاذ نظام سياسي كان يتجه نحو تدمير نفسه. وتفعل هذا بتصحيح وجهة العقاب بوصفه وسيلة لإصلاح السوء التاريخي، من طريق إعادة تحديد الموضوع الذي ينبغي أن يطوله. وينبغي فهم العقاب بوصفه آلية تخييلية تُترجم آلية الكبح التي تقمع نوازع الحرية داخل المُجتمع؛ فالحكاية الإطار تعمل على تركز السوء (الخيانة) في المرأة، لا بوصفها كائنًا بيولوجيا كما يتجلى على مُستوى ظاهر الحكاية الإطار، ولكن بوصفها دليلًا أخلاقيا يُكثف في بنيته علة التدهور المُرتقب الذي يُهدد الدولة والمُجتمع معًا. ومن ثمة يُعَد فعل القتل الذي كان يُمارسه شهريار تُجاه النساء- على مُستوى ظاهر الحكاية الإطار- عقابًا على الخيانة، لكنه يُعَد- على مستوى باطنها- عقابًا مُوجهًا نحو الرمزي الأخلاقي الذي تُمثله المرأة، وينبغي فهم الجنس (الخيانة) بوصفه مُجرد ترميز للتدهور الأخلاقي الذي كان يُفسر به السوء التاريخي تخييلًا.
ولكي نفهم هذا الأمر ينبغي طرح السؤال الآتي: من هن النساء اللواتي كن ضحايا للعقاب (فعل القتل)؟ أهن كل نساء الدولة؟ أم نساء مخصوصات ينتمين إلى تشكيل اجتماعي محدد؟ من دون ريب هن نساء ينتمين إلى التشكيل الاجتماعي الراقي. ومَردُ تعليل هذا الحكم إلى سببين: أ- لا يُمْكِن لملك أن يتزوج إلا الجميلة التي تنتمي إلى مُستوى اجتماعي راقٍ؛ فلا يُعقل أن يتزوج الذميمة، أو التي تنتمي إلى أسرة من مستوى مُتدن.
ب- إذا لم يحدث الاقتناع بالسبب الأول فإن عملية حسابية بسيطة، تجعل من قتل كل النساء غير مقبول، ويُبرر القيام بهذه العملية الحسابية كون الوزير (أب شهرزاد) لم يجد امرأة يُقدمها زوجة لشهريار؛ أي أن عدد النساء في مملكة شهريار قد وصل إلى درجة الانعدام. ولنبدأ بطرح سؤال: كم كان شهريار يقتل في السنة؟ فإذا كان يقتل كل ليلة امرأة واحدة بعد الزواج منها، فضحاياه في السنة يصلن إلى خمس وستين وثلاثمئة امرأة، وإذا بالغنا وقلنا افتراضًا أن عمليتي الزواج والقتل استمرتا لمدة عشرين سنة- وهذا أمر غير وارد- فإن المجموع سيكون ثلاثمئة وسبع آلاف امرأة. وترتيبًا على هذه النتيجة يُعُد من المُستحيل أن يقف عدد نساء مملكة شهريار عند هذا العدد، بل من المفروض أن يكُون أكثر من ذلك بكثير. وما أن نصل إلى هذه النتيجة الحسابية تتكون القناعة لدينا بأن نوع النساء الضحايا محصور في التشكيل الاجتماعي الراقي الذي يُعَد عماد الدولة السياسي والاقتصادي (بنات الوزراء والقواد والولاة والأغنياء… الخ).
وتترتب على النتيجة أعلاه أن شهرزاد لم تكن تستهدف إنقاذ جنس النساء جميعِه، بل نوعًا مُحددًا من النساء يتعين في بنات التشكيل الاجتماعي المُكون للدولة. ومن ثمة إنقاذ نظام من تدمير نفسه بتدمير الإسمنت الذي يضمن تماسكه وبقاءه. لكنها تُعيد- وهي تفعل هذا- موضعة الشر الذي هو وراء السوء التاريخي خارج التشكيل الاجتماعي الراقي إليه؛ أي في النساء المُنتميات إلى التشكيلات الاجتماعية التي هي مُرتبة في الوسط (التجار)، وفي الأسفل (السواد الفقير). ويُمْكِن إعادة تأويل العلاقة بين الحكاية الإطار والحكايات المُؤطرة- في هذا النطاق- على النحو الآتي؛ فالحكاية الأولى هي تجسيم تخييلي لسؤال تاريخي: من المسؤول عن السوء التاريخي (الشر)؟ بينما تُعَد الحكايات المُؤطرة إجابة عن هذا السؤال بتصحيح وجهته. ولهذا ينبغي إعادة موضعة العقاب بتغيير مُحتواه (التشكيل الاجتماعي) بنقله من فعل القتل إلى المسخ، وبتغيير التضافر بين المرأة (زوجة شهريار الخائنة) والدخيل (العبد الأسود: الرمز الدال على غير الخالص) في إنتاج السوء التاريخي، بنقله إلى التضافر بين المرأة والقوى الغامضة (السحر).
هكذا يحدث قلب تبرير السوء التاريخي- على مُستوى التخييل الحكائي- بنقله من التفسير الذي يُسنده إلى موضعه الحقيقي المُتمثل في القصر، الذي يُمثل السلطة، وإلى اختراقه من قِبَل الدخيل (القوميات الأخرى) إلى ما هو أخلاقي صرف. ويُنزه- في هذا الإطار- الذكوري بوصفه عماد تشكيل السلطة في المُجتمع من طريق موضعة السوء التاريخي في الأنثوي.
لم تأت شهرزاد من الكتب إلا بوصفها وصية التاريخ المُكرس، بوصفه ذاكرة ينبغي إعادة إحيائها، وهي ذاكرة الشر المُرتبط بحكاية الطرد من الجنة؛ فهي الاعتراف الأخير بكون حواء مصدر الخطيئة. وتجد نفسها مُرغمة على تحمل مسؤولية إصلاح الوضع. ومن ثمة تعمل على إخراج شهريار من حالة تدمير مُحيطه الحيوي، الذي هو لحمة سلطته من طريق دفعه إلى الفهم الصحيح للخلل التاريخي، وتغيير وجهة العقاب. وينبغي فهم الموت في «ألف ليلة وليلة في هذا النطاق، لا في غيره؛ فشهرزاد كانت تستهدف بالأساس إنقاذ نظام (دولة) من الانتحار، ومن خلال فعلها هذا كانت تسعى إلى إنقاذ السلطة التي تقوم نواتها الصلبة على ثقافة ذكورية صرف. لا يظهر هذا الإنقاذ إلا في الحكايات المُؤطرة؛ حيث تقود شهرزاد جل الشخصيات الحكائية الذكورية إلى حافة الموت (و/ أو حافة الوجود)، أي تضعها- في الأغلب- في مُواجهة نهايتها بمُواجهة قوى غير بشرية (العفاريت)، لكنها تعمل- في النهاية- على إنقاذها. ورمزية الموت ماثلة في دلالته على كونه نتيجة مُحتملة للسوء التاريخي (موت النظام السياسي)؛ فعملية الإنقاذ التي تطول وضع التواجد أمام الموت هي مُوجهة إلى التاريخ قبل أن تكُون مُوجهة إلى الشخصيات الحكائية. لا تُخرج شهرزاد نفسها من الوقوف عند حافة الموت، بل تُجرب مُواجهته قبل شخصياتها الحكائية، لكن حين تفعل هذا فليس بغاية إنقاذ نفسها في نهاية المطاف، بل لكي تنقذ نظامًا يُدمر نفسه بتدمير مُحيطه الأساس.
أكاديمي وأديب مغربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى