- 1 -
في منجم
كانت ليلة السبت 18 فبراير سنة 1878 موعد انعقاد الجمعية الطبيعية الكيميائية في الكلية، وكان المقرر أن يذهب أعضاؤها لزيارة منجم فخم على بعد ميلين أو ثلاثة من نوتنجهام. فبعد أن تناولنا الشاي بالكلية خرجنا ومعنا الرئيس الأستاذ بارتن فركبنا الترام إلى المنجم، وهناك وجدنا بعض رجاله ينتظروننا، فقيل لنا أنه لا بد من أن يحمل كل منا مصباحا يستضيء به، وقادونا إلى غرفة المصابيح أو بالأحرى مخزنها، وقد ذكرني حين دخلته بمخزن القناديل في مسجد البلد أيام كان المسجد يضاء بالقناديل، فقد كانت رائحة الزيت المحترق تفوح من المصابيح الموقدة المصفوفة. وكان كل مصباح عبارة عن فتيلة داخل اسطوانة قصيرة من الزجاج متصلة من أعلاها بمخروط ناقص من شبك الحديد، يظاهره مثله من صفائح النحاس، وهذا ينتهي بحلقة يحمل منها المصباح تلتقي عندها أسلاك تتصل بالقاعدة وتصون زجاجتها. هذا هو مصباح (دافي) اخترعه السير (همفري دافي) لأول مرة سنة 1815 وهو على بساطته جم النفع، لأن شبكته الحديدية تحول بين اللهب: لهب المصباح (أو لهب ما قد يدخله من غازات ربما تصاعدت من شقوق يصيبها العامل في اقتطاعه الفحم) وبين أن يمتد إلى ما قد يخالط هواء المنجم من غاز قابل للالتهاب، فيحترق دفعة واحدة فينسف ما حوله. وتلك خاصة من خواص ما شابه الحديد والنحاس من المعادن أنها لسهولة سريان الحرارة فيها إذا لامست غازا ملتهبا أخذت من حرارته ما يكفي لتخفيض درجتها عن درجة الالتهاب، فإذا نفذ الغاز منها إلى خارجها نفذ غير ملتهب.
حمل كل منا مصباحا وذهبنا لننزل المنجم فإذا المنزل إليه فوهتان كأنهما بئران متجاورتان منصوب عليهما قوائم متشابكة من الحديد عظيم حجمها وارتفاعها، تحمل في أعلاها جهاز يتدلى منه سلسلة متينة، تحمل في طرفيها صندوقين كل صندوق في فوهة. والسلسلة من الطول بحيث إذا حاذى أحد الصندوقين وجه الأرض، مس الآخر أرض المنجم على عمق خمس وسبعين ومائتي ياردة. هذا هو الرافع الذي يرفع به الفحم إلى سطح الأرض ولكنه لا كالذي نعرف عن الرافع، فأنه على سماجته التي لا تليق بما جعل له، عجيب في نظامه وحركته. وهو يتحرك بالكهرباء: يدير العامل مفتاحا في إحدى تلك القوائم، فيدق جرس صغير ثلاث دقات في باطن الأرض وفي ظهرها ايذانا، وعندئذ يهوى أحد الصندوقين ويرتفع الآخر بسرعة ثلاثين ميلا في الساعة. وكل منهما في بدء هبوطه يدع سلسلة كان قد رفعها تقل حاجزا من خشب فيسد باب الفوهة، فإذا ما قارب الصندوق مقره في صعوده رفع السلسلة فأنفتح الباب.
بدأنا النزول منتصف الساعة السابعة، فدخل منا عشرة صندوقا فوسعهم مع العامل واقفين متلاصقين. وإذا في أرض الصندوق قضيبان حديديان إذا بلغ الصندوق أرض المنجم كونا جزءاً من السكة الحديدية الممتدة فيه، وعليهما توقف عربات الفحم وترتفع بما فيها إلى سطح الأرض. والهابط إلى المنجم يشعر بما لعلك شعرت ببعضه إذا كنت هبطت راكبا بعض مصاعد الحوانيت التجارية أو المباني الكبرى. يخيل إليه أن الرافع قد هوى من تحت قدميه، ويقوى هذا الشعور عنده كلما زادت سرعة الهبوط حتى إذا بدأت تتناقص في النصف الآخر من المسافة وأحس حمل أرض الرافع لقدميه أكثر من قبل خيل إليه أنه صاعد وليس بصاعد. وفي صعوده يشعر بعكس ما شعر في هبوطه. فلما تكامل عددنا داخل المنجم ذهبنا إلى غرفة الملابس فخلع بعضنا فيها رداءه، ثم سرنا في طرق فيها بعض سعة سقوفها أقبية مبنية، ونورها مصابيح كهربائية، نريد زيارة الجهاز الكهربائي الضخم الذي يجر عربات الفحم من مسافة لا تقل عن ميل. ولا تظن العربات تتحرك كما يتحرك الترام، ولكن بحبل غليظ مشدود بها إذا دار الجهاز دارت اسطوانة كبيرة بسرعة كبيرة فالتف عليها الحبل فانجرت العربات. ثم ذهبنا فرأينا مرابط الخيل التي تجر العربات فيما وراء الميل، فإذا هي ليست أسعد حالا من خيول جر الأثقال في مصر. وهي شر منها في أنها قائمة نائمة تحت الأرض لا ترى الشمس بعد نزولها المنجم حتى تموت.
ثم سرنا بعد ذلك ميلين في طرق تضيق حتى لا تكاد تتسع لشخصين يسيران جنباً لجنب، كانت من قبل عروق الفحم في الأرض فنقبها العامل بصبره ومعوله، نائما على بطنه ومستلقيا على ظهره ومائلاً على جنبه ومنحنيا وقائما. وكلما نقب خطوات إلى الارتفاع المرسوم جاء بالأخشاب الغليظة فجعلها سقفا يحمل طبقات الفحم أو الطين حتى لا تنهال؛ تحمله من جانبيه قوائم من مثله أقيمت عمودية على جانبي الطريق. ولم يخل سيرنا في تلك الطرقات من تعب، فكثيرا ما كنا نسير فيها منحنين نحس السقف بأعيننا والأرض بأرجلنا؛ ولكنا كنا نتخذ من ذلك كله فكاهات نضحك لها. فمن كان يرانا عندئذ كأن يرى أشباحا يحمل كل منها مصباحا، ولم يخل منظر المصابيح يتلو بعضها بعضا من بهجة في تلك الظلمة؛ ثم كان يسمع أصواتا تتجاوب، فلا يكاد القائد يقول (وكثر ما كان يقول) رأسك والخشبة! حتى يرفع بها صوته من خلفه، ولا يزال فم يلقى بها إلى فم كلما مر بالخشبة شخص حتى تبلغ آخر الصف. وقد تسمع بين ذلك هذا يصيح: وا دماغاه! وذاك: وا ركبتاه! أو تسمع سائلا يسأل وآخر يجيب. وأحيانا إذا استقام الطريق كانت ترتفع أصوات بعض الغناء نغنيه معا، فنجد له عندئذ ما يجد الجندي الذي أتعبه السير الموسيقى. وكنا نظن أننا ذاهبون لنرى القاطعات الكهربائية التي تقتطع الفحم؛ فإذا بالقائد يقودنا كل تلك المسافة ليرينا الفحم أين هو! فلما سألناه عن القاطعات قال هي في جهة أخرى لا نصل إليها من موقفنا ذلك الا عند منتصف الليل. فرجعنا أدراجنا نقول: متى نبلغ؟ ولم نبلغه الا بعد الثامنة، فكتب كل منا أسمه في دفتر الزائرين ثم صعدنا فزرنا المولد الكهربائي الذي يدير تلك الآلات كلها؛ فإذا بآلات يحار فيها الفكر في غرفة عرضها عشرون خطوة وطولها خمس وعشرون، ويكفي لتقدير عظم آلاتها أن التيار يتولد عن قوة محركة كهربائية قدرها 2500 فولت، ولعل ترام القاهرة لا تزيد القوة المحركة لتياره على خمسمائة.
والعامل في منجم الفحم يتقاضى أجرا كبيرا لما في عمله من الخطر والمشقة، وهو يحاسب على كل طن يقتطعه، وقد يقتطع ما يؤجر عليه سبعة جنيهات في الأسبوع. وقد وجدنا أن المنجم مقسم إلى مناطق صغيرة كل منطقة لها رمز من عدد أو حرف تعرف به ويعرف به العامل فيها. وكلما ملأ عامل عربة كتب رمزه على كل قطعة ظاهرة من فحمها ليعرف أنها له فتضاف إلى حسابه. والمنجم الذي زرناه كان يستخرج منه في اليوم في ذلك الحين مائة وألف طن من الفحم لقلة العمال، وقبل الحرب كان يستخرج منه حوالي طن في اليوم.
للأستاذ محمد احمد الغمراوي. أستاذ الكيمياء بكلية الطب
مجلة الرسالة - العدد 5
بتاريخ: 15 - 03 - 1933
في منجم
كانت ليلة السبت 18 فبراير سنة 1878 موعد انعقاد الجمعية الطبيعية الكيميائية في الكلية، وكان المقرر أن يذهب أعضاؤها لزيارة منجم فخم على بعد ميلين أو ثلاثة من نوتنجهام. فبعد أن تناولنا الشاي بالكلية خرجنا ومعنا الرئيس الأستاذ بارتن فركبنا الترام إلى المنجم، وهناك وجدنا بعض رجاله ينتظروننا، فقيل لنا أنه لا بد من أن يحمل كل منا مصباحا يستضيء به، وقادونا إلى غرفة المصابيح أو بالأحرى مخزنها، وقد ذكرني حين دخلته بمخزن القناديل في مسجد البلد أيام كان المسجد يضاء بالقناديل، فقد كانت رائحة الزيت المحترق تفوح من المصابيح الموقدة المصفوفة. وكان كل مصباح عبارة عن فتيلة داخل اسطوانة قصيرة من الزجاج متصلة من أعلاها بمخروط ناقص من شبك الحديد، يظاهره مثله من صفائح النحاس، وهذا ينتهي بحلقة يحمل منها المصباح تلتقي عندها أسلاك تتصل بالقاعدة وتصون زجاجتها. هذا هو مصباح (دافي) اخترعه السير (همفري دافي) لأول مرة سنة 1815 وهو على بساطته جم النفع، لأن شبكته الحديدية تحول بين اللهب: لهب المصباح (أو لهب ما قد يدخله من غازات ربما تصاعدت من شقوق يصيبها العامل في اقتطاعه الفحم) وبين أن يمتد إلى ما قد يخالط هواء المنجم من غاز قابل للالتهاب، فيحترق دفعة واحدة فينسف ما حوله. وتلك خاصة من خواص ما شابه الحديد والنحاس من المعادن أنها لسهولة سريان الحرارة فيها إذا لامست غازا ملتهبا أخذت من حرارته ما يكفي لتخفيض درجتها عن درجة الالتهاب، فإذا نفذ الغاز منها إلى خارجها نفذ غير ملتهب.
حمل كل منا مصباحا وذهبنا لننزل المنجم فإذا المنزل إليه فوهتان كأنهما بئران متجاورتان منصوب عليهما قوائم متشابكة من الحديد عظيم حجمها وارتفاعها، تحمل في أعلاها جهاز يتدلى منه سلسلة متينة، تحمل في طرفيها صندوقين كل صندوق في فوهة. والسلسلة من الطول بحيث إذا حاذى أحد الصندوقين وجه الأرض، مس الآخر أرض المنجم على عمق خمس وسبعين ومائتي ياردة. هذا هو الرافع الذي يرفع به الفحم إلى سطح الأرض ولكنه لا كالذي نعرف عن الرافع، فأنه على سماجته التي لا تليق بما جعل له، عجيب في نظامه وحركته. وهو يتحرك بالكهرباء: يدير العامل مفتاحا في إحدى تلك القوائم، فيدق جرس صغير ثلاث دقات في باطن الأرض وفي ظهرها ايذانا، وعندئذ يهوى أحد الصندوقين ويرتفع الآخر بسرعة ثلاثين ميلا في الساعة. وكل منهما في بدء هبوطه يدع سلسلة كان قد رفعها تقل حاجزا من خشب فيسد باب الفوهة، فإذا ما قارب الصندوق مقره في صعوده رفع السلسلة فأنفتح الباب.
بدأنا النزول منتصف الساعة السابعة، فدخل منا عشرة صندوقا فوسعهم مع العامل واقفين متلاصقين. وإذا في أرض الصندوق قضيبان حديديان إذا بلغ الصندوق أرض المنجم كونا جزءاً من السكة الحديدية الممتدة فيه، وعليهما توقف عربات الفحم وترتفع بما فيها إلى سطح الأرض. والهابط إلى المنجم يشعر بما لعلك شعرت ببعضه إذا كنت هبطت راكبا بعض مصاعد الحوانيت التجارية أو المباني الكبرى. يخيل إليه أن الرافع قد هوى من تحت قدميه، ويقوى هذا الشعور عنده كلما زادت سرعة الهبوط حتى إذا بدأت تتناقص في النصف الآخر من المسافة وأحس حمل أرض الرافع لقدميه أكثر من قبل خيل إليه أنه صاعد وليس بصاعد. وفي صعوده يشعر بعكس ما شعر في هبوطه. فلما تكامل عددنا داخل المنجم ذهبنا إلى غرفة الملابس فخلع بعضنا فيها رداءه، ثم سرنا في طرق فيها بعض سعة سقوفها أقبية مبنية، ونورها مصابيح كهربائية، نريد زيارة الجهاز الكهربائي الضخم الذي يجر عربات الفحم من مسافة لا تقل عن ميل. ولا تظن العربات تتحرك كما يتحرك الترام، ولكن بحبل غليظ مشدود بها إذا دار الجهاز دارت اسطوانة كبيرة بسرعة كبيرة فالتف عليها الحبل فانجرت العربات. ثم ذهبنا فرأينا مرابط الخيل التي تجر العربات فيما وراء الميل، فإذا هي ليست أسعد حالا من خيول جر الأثقال في مصر. وهي شر منها في أنها قائمة نائمة تحت الأرض لا ترى الشمس بعد نزولها المنجم حتى تموت.
ثم سرنا بعد ذلك ميلين في طرق تضيق حتى لا تكاد تتسع لشخصين يسيران جنباً لجنب، كانت من قبل عروق الفحم في الأرض فنقبها العامل بصبره ومعوله، نائما على بطنه ومستلقيا على ظهره ومائلاً على جنبه ومنحنيا وقائما. وكلما نقب خطوات إلى الارتفاع المرسوم جاء بالأخشاب الغليظة فجعلها سقفا يحمل طبقات الفحم أو الطين حتى لا تنهال؛ تحمله من جانبيه قوائم من مثله أقيمت عمودية على جانبي الطريق. ولم يخل سيرنا في تلك الطرقات من تعب، فكثيرا ما كنا نسير فيها منحنين نحس السقف بأعيننا والأرض بأرجلنا؛ ولكنا كنا نتخذ من ذلك كله فكاهات نضحك لها. فمن كان يرانا عندئذ كأن يرى أشباحا يحمل كل منها مصباحا، ولم يخل منظر المصابيح يتلو بعضها بعضا من بهجة في تلك الظلمة؛ ثم كان يسمع أصواتا تتجاوب، فلا يكاد القائد يقول (وكثر ما كان يقول) رأسك والخشبة! حتى يرفع بها صوته من خلفه، ولا يزال فم يلقى بها إلى فم كلما مر بالخشبة شخص حتى تبلغ آخر الصف. وقد تسمع بين ذلك هذا يصيح: وا دماغاه! وذاك: وا ركبتاه! أو تسمع سائلا يسأل وآخر يجيب. وأحيانا إذا استقام الطريق كانت ترتفع أصوات بعض الغناء نغنيه معا، فنجد له عندئذ ما يجد الجندي الذي أتعبه السير الموسيقى. وكنا نظن أننا ذاهبون لنرى القاطعات الكهربائية التي تقتطع الفحم؛ فإذا بالقائد يقودنا كل تلك المسافة ليرينا الفحم أين هو! فلما سألناه عن القاطعات قال هي في جهة أخرى لا نصل إليها من موقفنا ذلك الا عند منتصف الليل. فرجعنا أدراجنا نقول: متى نبلغ؟ ولم نبلغه الا بعد الثامنة، فكتب كل منا أسمه في دفتر الزائرين ثم صعدنا فزرنا المولد الكهربائي الذي يدير تلك الآلات كلها؛ فإذا بآلات يحار فيها الفكر في غرفة عرضها عشرون خطوة وطولها خمس وعشرون، ويكفي لتقدير عظم آلاتها أن التيار يتولد عن قوة محركة كهربائية قدرها 2500 فولت، ولعل ترام القاهرة لا تزيد القوة المحركة لتياره على خمسمائة.
والعامل في منجم الفحم يتقاضى أجرا كبيرا لما في عمله من الخطر والمشقة، وهو يحاسب على كل طن يقتطعه، وقد يقتطع ما يؤجر عليه سبعة جنيهات في الأسبوع. وقد وجدنا أن المنجم مقسم إلى مناطق صغيرة كل منطقة لها رمز من عدد أو حرف تعرف به ويعرف به العامل فيها. وكلما ملأ عامل عربة كتب رمزه على كل قطعة ظاهرة من فحمها ليعرف أنها له فتضاف إلى حسابه. والمنجم الذي زرناه كان يستخرج منه في اليوم في ذلك الحين مائة وألف طن من الفحم لقلة العمال، وقبل الحرب كان يستخرج منه حوالي طن في اليوم.
للأستاذ محمد احمد الغمراوي. أستاذ الكيمياء بكلية الطب
مجلة الرسالة - العدد 5
بتاريخ: 15 - 03 - 1933
مجلة الرسالة/العدد 5/القصص - ويكي مصدر
ar.wikisource.org