عبد الرحيم جيران - الأعلى والأسفل في ألف ليلة وليلة

كل فعلٍ سرد داخلي يفترض مكانا خطابيا محملا برمزية تراتبية تقام على ثنائية الأعلى والأسفل أو المساوي. وننطلق في معالجة هذا المسألة في «ألف ليلة وليلة» من حكم أرساه ميشال فوكو في كتابه «أركيولوجيا المعرفة»، ومفاده أن المؤرخ يخاطب الممثل الأعلى للسلطة في زمانه قائلا، أنت الأعظم ممن سبقك وزمانك هو الأفضل. أكيد أن شهرزاد ليست مؤرخة ـ ولا هي مماثلة له، لأنها امرأة، والنساء لم يكن مؤتمنات على الماضي أبدا، لكنها تقوم بدور مشابه على مستوى التخييل. ولا بد من أن تراعي- في مهمتها هذه- المكان الخطابي واقتضاءاته الرمزية، وإن كان خطابها ينقل على نحو غير مباشر، ويتصرف فيه من قِبل السارد -المدون. وينبغي معالجة هذا الأمر في ضوء ثلاثة جوانب:
أ ـ تحتل شهرزاد وضع من يوجد في الأسفل تجاه مخاطب – مسرود له يوجد في وضع أعلى، ومن ثمة يفترض ألا تكون كلمتها مساوية لكلمته، وينبغي فهم الكلمة هنا، لا بوصفها تعبيرا أيديولوجيا، وإنما بوصفها معرفة محيطة بأخبار الماضي، بما يعنيه هذا من خفي ومجهول. وإذا كانت مهمتها تكمن في سرد شيء لم يسمع من قبل، فإن هذا يستلزم بطريقة غير مباشرة أن من يستمع إليها متعين في وضع من يجهل، بينما هي متعينة في وضع من يعرف. وإذا كان من يستمع إليها يعرف فلا بد أن تكون هي أكثر معرفة منه. وهذا غير مقبول في مخاطبة أنثى لمذكر، ومستنكر في مخاطبة ملك. ولهذا لا يمكن لشهريار أن يتعين في وضع خطابي أسفل. ويفترض وضع خطابي من هذا القبيل أن يدار بطريقة يكون سرد الحكاية فيه مراعيا من توجه إليه، الذي هو أعلى رتبة؛ ولحل هذا الإشكال الخطابي سردا تقحم دنيا زاد في محفل الخطاب؛ حيث تصير المسرود له الذي يضاعف وضع شهرزاد الخطابي بوصفها مساوية لها، ويصير شهريار- في أثناء سريان الخطاب- في وضع السيد العارف المثمن الذي يفحص جودة البضاعة المقدمة إليه؛ أي العارف لا بالحكايات، ولكن بما هو أثمن منها، والماثل في طرائق الحكي، والمهارة في السرد. ولا يوجد شيء في السرد ما يدل على وضعه هذا، لكنه يستنتج من استحسانه غير المعلن عنه، الذي يوحي به عدم قتل شهرزاد، وانتظاره إكمال سردها في ما يتلو من الليالي. وموقفه هذا ينم عن كونه يسمع حكيا ثمينا لم يسبق أن سمعه؛ فهو إذن من تؤول إليه في النهاية المكانة العليا الماثلة في الحكم على إجادة شهرزاد أو إخفاقها، وهو بهذا يحافظ على مكانه الخطابي الأعلى. وما كان لشهرزاد أن تقول عند متم بعض الحكايات «سأروي لك ما هو أعجب». فهذا القول يتضمن على نحو غير مباشر الحكم التثميني لشهريار غير المصرح به «هذا عجيب».
ب ـ لا يمكِن لشهرزاد أن تكون إلا راوية ماضٍ موغل في القدم، ولا صلة له بحاضر شهريار، أي أنها تؤطر ما تسرده من حكايات في زمان أسبق على وجوده. وحين تفعل هذا فليس لأن القديم ساحر، ولا لأن حكايات الغابرين أمتع وأفيد، ولكن تلافيا لجعل زمانه ناقصا؛ إذ من المفروض أن يكون الأكمل والأفضل. وتعد في صنيعها هذا شبيهة بالمؤرخ في صنيعه تجاه عصره، حيث ينزهه عن المثالب والنقائص؛ فتنزيهه هو تنزيه للحاكم. بيد أن سرد عديد من الحكايات من قِبل شهرزاد يظل- على الرغم من حرصها على تزمينه في الماضي – متصلا بالملوك، أي بمن هم مماثلون لشهريار في الوضع؛ الشيء الذي يحتم عليها أن يكون سردها متصفا بالحذر التام، خوفا من أن يجري قياس نفسه عليهم، وعصره على عصرهم؛ فيظن أنها تلمز في حقه، أو تشير إليه وعصره بطريقة غير مباشرة من طريق التلميح. ولهذا تحل هذه المشكلة بوساطة الإذن الذي يسبق الحكي، وببناء حكايات الملوك وفق تساميهم. فالإذن يخول لها فعل الحكي ويبيحه، ومن ثمة ينبغي فهم «السكوت عن الكلام المباح» في هذا الإطار، لا في إطار أخلاقي يتعلق بالموضوعات التي تدور حولها الحكايات من جنس أو غيره؛ بحيث يمْكِن ترجمة العبارة السابقة بـ»السكوت عن الكلام المأذون لها به». وهذا الإذن يحررها من أي انزلاق ممكِن في مراعاة مبدأ القياس الذي أشرنا إليه من قبل. ويضاف إلى مسألة الإذن كون الحكايات التي تروى عن الملوك تنتهي دوما بالحلم، والعفو، والمجازاة وعقاب الخارجين عن الطاعة. وهذا كافٍ لجلب رضا شهريار.
ج- ومما يفرضه المكان الخطابي أيضا تمثيل العالم، أي أن على شهرزاد أن تراعي النسق الثقافي العام الذي يشكل أفقا لتقويم الموضوعات والأشياء والعلاقات الاجتماعية من قِبل الهيمنة الرمزية، خاصة ما يتصل بالمرأة في علاقتها بالرجل، والتراتب الحاصل بينهما؛ فلا يمكن لشهرزاد أن تسرد إلا الحكايات التي تصور المرأة وفق النموذج الذي هو مبني في ذاكرة مجتمع سلطوي يعلي من شأن الذكوري، ويحط من قدر المرأة، عكس المنظور الذي رأى في صوت شهرزاد في «ألف ليلة وليلة» نوعا من انبثاق كلمة الأنثوي، وتمكنه من التعبير عن نفسه؛ فجل الحكايات التي تروى تسنِد إلى المرأة كل الشرور التي تلحق بالعالم: الخيانة، الكيد، السحر، الحيلة، المكر.. الخ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى