المقاهي د. محمد المخزنجي - تعذيب الشاي..

يُصر خبراء الشاي على أن «العذاب وحده هو الذي يطلق كامل خصائص الشاي»، وهذا مما يؤيدهم فيه شَرِّيبو الشاي المخضرمون، فهم يحرصون كثيرا على جعل أوراق الشاي «تتعذب» بما يكفي داخل إبريق الماء الساخن حتى تنبسط أوراق الشاي الملفوفة، لتمنح الماء أقصى مدخراتها من النكهة الساحرة، وهذا يقتضي وقتا وصبرا لا يقدر عليه غير متذوقي الشاي الحقيقيين، الذين يعرفون أن أوراق بعض الأنواع الفاخرة من الشاي يتضاعف حجمها خمس مرات إذا أُعطيت الوقت الكافي في عملية «النقع» للحصول على شاي حقيقي. لكن معنى العذاب في هذه الحالة، يظل تعبيراً شعرياً يشبه عذاب المحبين الذي ينتهي بنعيم الوصال، على عكس عذاب آخر عصري، يعانيه الشاي، وله قصة، لعلها تلخص مُعضلة بشريتنا المُعاصرة كلها. بين دفتي الكتاب الموسوعي عن الشاي «الجاد السائل - قصة الشاي من الشرق إلى الغرب»، تفرد كاتبته بياتريس هوهنجر فصلا عن قصة ظهور «أكياس الشاي»، وملخصها أن توماس سوليفان تاجر الشاي الأميركي الذي اتخذ من نيويورك مركزا لتجارته، اعتاد إرسال الشاي إلى زبائنه في عُلَب معدنية، وفي عام 1908 أدرك أن العلب المعدنية تكلفه كثيرا، فتفتق ذهنه عن إرسال الشاي في أكياس حريرية صغيرة، وفوجئ بأن زبائنه، خاصة من المؤسسات العامة، يطلبون منه إرسال الشاي في تلك الأكياس دائما. وعرف أنهم يسقطون تلك الأكياس في أباريق الماء المغلي بكاملها، مفترضين أنه كان يقصد ذلك، وكان هذا الحل يجنبهم المشاحنات التي تنشأ بعد احتساء الشاي على «من سينظف البراد»، فقد صار تنظيفه بعد استعمال أكياس الشاي أيسر!
وسرعان ما تحول «اختراع الصدفة» هذا، إلى أسلوب مهيمن على صناعة الشاي وتجارته وشربه في الولايات المتحدة وأوروبا، ومنهما غزا سائر أنحاء العالم، ثم تحولت أكياس الشاي الحريرية إلى أكياس من الشاش القطني لتوفير النفقات، وانتهت في خمسينات القرن الماضي إلى أن تكون من الورق، ولا تزال. وصار هذا عذابا مُضاعفا للشاي، وترويعا لعشاقه.
الشاي في سجن أكياسه المُستحدَثة بات عاجزا عن تمدد أوراقه بما يكفي لتمنح الماء الساخن أقصى نكهتها، وكان الشاربون المحنكون يتألمون من بؤس هذا العذاب غير الشِعري للشاي الذي يفتقدون معه مذاق الشاي الطليق، وأكثر من ذلك اكتشافهم أن أغلب الأكياس كانت تُملأ بتراب الشاي الرديء، والمُتلاعَب به ليعطي على الفور لونا بنيا محمرا يوهم باللون الياقوتي الصافي للشاي الفاخر. ثم انفجرت أول الصرخات المضادة لخطورة هذه الأكياس الورقية مع اكتشاف أنها تُصنع من الورق المُبيَّض بالكلور، مما ينتهي إلى مخلفات مشبعة بمركبات الديوكسين السامة، التي يعتبرها بعض الباحثين أشد ضررا من الإشعاع النووي!
الآن، وفي محاولة مواجهة كثير من ابتلاءات الشاي، والحرص على عدم فقدان ذواقته الموسرين في خضم التنافس مع القهوة سريعة الذوبان شديدة الإغراء وكاسحة الانتشار، نشأت شركات توجِّه منتجاتها من الشاي المميز لجمهور مميز وإن في أكياس، لكنها أكياس ليست ورقية، أو ورقية وغير مُبيضة بالكلور المُنشئ للديوكسين السام، بل بالأكسجين الآمن، وبأسعار عالية بالطبع!
وهكذا، بسعار الربح الفاحش من تجارة الشاي العالمية، وتواطؤ التطبُّع البشري النزَّاع إلى الاستسهال والاستعجال في عالم يركض ويلهث وهو عليل القلب، لا يزال عذاب الشاي مستمرا، لكنه ليس العذاب الشاعري القديم لشاي يتمدد بحرية ويستوي على مهل ويمنح سحره بسخاء، بل شاي بلا طعم وإن كان مسرف التلوين وسريع التجهيز، كما سمة حياتنا المعاصرة معظمها، مما يستدعي إلى الخاطر مُلاحظة نُشرت في كتاب عن الشاي صدر عام 1906 رأى فيها شاعر صيني قديم أن هناك ثلاثة أشياء هي الأكثر بؤسا في العالم: «أولها، إفساد خيرة الشباب بتعليم زائف، وثانيها، انحطاط الفنون الجميلة بالابتذال والإعجاب السوقي، وثالثها، الإهدار التام للشاي الرائع من خلال تلاعب معيب»!



27 أكتوبر 2018


L’image contient peut-être : boisson

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى