فاروق وادي - من يوقظنا على لحن آخر لكورساكوف؟!

في تلك الليلة الظلماء، مساء الثامن والعشرين من أيلول 1970، وعلى إيقاع الدم الذي شرع يتخثّر في الشوارع وعلى جدران البيوت، كانت جبال عمّان السبعة تردد صدى النداء الخارج من أعماق شعب أرهقته النيران التي استعرت على مدى عشرة أيّام أو ما يزيد: الله أكبر.. الله أكبر!
الله أكبر،
نداء توحّد في إطلاقه القاتل والقتيل، الجندي والفدائي، المقاتل والشهيد، اليمين واليسار. كلهم، توحّدوا في النداء، ليتوحدوا بعد لحظة.. في البكاء!
ففي تلك الليلة الظلماء، كان جمال عبد الناصر يلملم جراح الأمّة ويرحل، تاركاً لنا أحزاناً كثيرة، سوف تشتد سواداً، وتتكاثر من بعده.. دون إذن من أحد!
***
بقدر ما كان عبد الناصر مصريّاً، يحمل لون الطمي وأصالة الرائحة المنبعثة من عشب النيل، فقد كان عربيّاً.. فلسطينيّاً. وإن كانت هموم مصر الغارقة في ليل الاستعمار والفساد هي التي ظلّت تؤرِّقه وتحث خطاه نحو التغيير، فقد كانت فلسطين، الحاضرة دوماً في دمه، هي المحرِّك، والمسرَّع، لخطواته الثوريّة.
كان وعي المجزرة يعيد تشكيل الوعي. فقد كان الدم الفلسطيني الذي سال في دير ياسين، هو وحده القادر على منح حركة الضبّاط الأحرار بعدها القومي العربي.
ففي الرابع عشر من نيسان 1948، وبعد خمسة أيّام من المجزرة الرهيبة التي اقترفتها عصابات الإرهاب الصهيونيّة في القرية المقدسيّة، شهد منزل ضابط مصري كان يجهله البعض.. إلاّ التاريخ، وكان اسمه جمال عبد الناصر حسين، اجتماعاً تاريخياً عبِّر فيه المجتمعون عن إدراكهم العميق بأن المشكلة المصريّة لا يمكن أن تنعزل عن مجالها العربي الحيوي، وأن ثمّة روابط عديدة، استراتيجيّة، بين ما يحدث في مصر وما يحدث خارجها على امتداد الوطن العربي، وفلسطين في موقع القلب منه.
إنه الوعي الذي حرّك الضابط الشاب للتوجه إلى القائد الفلسطيني الحاج أمين الحسيني، طالباً التطوع مع رفاقه للدفاع عن فلسطين. ثمّ حرّكه في ما بعد للتوجه إلى جبهة القتال، والنضال مع شرفاء الأمّة في حرب حرّكها الفساد بأسلحته الفاسدة، وسياسته الأكثر فساداً.
وكانت الهزيمة في فلسطين عاملاً مسرِّعاً للعمليّة التاريخيّة التحوُّليّة في مصر، ومفجِّراً للثورة التي حلمت بها الجماهير.
فعلى ألحان رميسكي كورساكوف.. وسيمفونيّته الشهيرة "شهرزاد"، التي تعالت ضرباتها في أحد أيّام يوليو/ تموز 1952، كان جمال عبد الناصر يتخذ قراره: سنضرب ضربتنا بعد أيّام..
فكانت الضربة التي جاءت من معلِّم.. وكانت الثورة..
***
الذين رددوا النداء في جبال عمّان السبعة لحظة الرّحيل، كانوا يوقنون في قرارة أنفسهم أن جمال عبد الناصر قد افتداهم، فدفع حياته ثمناً لحياتهم.
ـ هناك رجال ونساء وأطفال يموتون في الأردن.. ونحن في سباق ضارٍ مع الموت.. نحن في معركة ضدّ الموت.
ذلك الصوت السريّ، ذلك الهمس الذي حملته الريح للشعب الذي أطلق النداء وهو ينخرط في الدم والبكاء، جاءه بصوت الرّجل، قبل يوم واحد من الغياب، وكان يتحدِّث مع رفاق لاحظوا الوهن في خطواته وأنفاسه، قبل أن يسبقه الموت إليه.. ليطفئ، وإلى الأبد، وهج رجل أشعل العزّة في وجدان أمة أرهقتها الهزائم وجراح الجيوش الغازية.
ـ أريد أن أنام.. أرغب في نوم طويل.. طويل!
قال الرجل لأم أولاده، وهو الذي كان يملك من سحر الكاريزما ما يكفي لتحريك أمّة.
ثمّ نام عميقاً.. عميقاً، وطويلاً.. طويلاً، ولم يستيقظ أبداً منذ ذلك الزمن البعيد، في تلك الليلة البعيدة.
ومنذ تلك الليلة الظلماء، شرع سدنة الظلام في الهيمنة، ليشدوا الأمّة بأجمعها إلى مملكة الليل المدلهمّ.. ولنغرق نحن، من بعده، في سبات عميق!
زمن مضى، من بعده، لم يتوقّف فيها الظلام في الولوغ في الظلام، حتّى بتنا نشهد العتمة تتخثّر فينا من فرط الانتظار..
عقود طويلة من الغياب، عقود حمسة بكلّ ثقلها وتراخيها المريع...
فمن يمسح دمعنا يا ريِّس هذا الزّمان بعد هذا الغياب الطويل؟ من يوقظنا من بعدك؟ من يستيقظ ويوقظنا على اللحن ذاته؟
مَن مِن صلبك الآن.. يصغي لضربات أخرى لرمسكي كورساكوف، ويتهيّأ للضربة؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ نعيد نشر المقالة في الذكرى الخمسين لرحيل جمال عبد النّاصر.
والبورتريه للفنان الفلسطيني: اسماعيل شمّوط.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى