د. محمد سعيد شحاتة - سيرة الأنثى المرأة بين الاستلاب والقهر.. قراءة في قصة "غنايم" للدكتورة كاميليا عبد الفتاح

تدور أحداث قصة (غنايم) للكاتبة الدكتورة كاميليا عبد الفتاح في بيئة صعيدية تحكمها التقاليد الصارمة، والقيم المتوارثة التي لا يخرج عنها أحد، وهي بذلك تقدم صورة نمطية للبيئة الصعيدية توارثتها الكتابات الأدبية عبر فترات متتالية من الزمن، فهل كانت الكاتبة تريد التنويه إلى ضرورة تغيير تلك الصورة النمطية التي تحكمها الصرامة، وتتحكم فيها الموروثات، وتسليط الضوء على معاناة الأنثى داخل هذه البيئة، واستلابها؟ أو أرادت أن تقدم قصة لحياة صعيدية ما زالت موجودة بشكل أو بآخر في بعض البيئات؟ أو أرادت أن تكشف عن التغير الذي تحاول الأنثى الصعيدية إحداثه مهما تعرضت للعقاب من سلطة المجتمع والقيم المتوارثة في إطار بيئة صارمة؟ وسوف نتوقف أمام قصة (غنايم) لفهم رؤيتها الفكرية وتضاريس النفوس الإنسانية في شموخها وانكساراتها، واستلابها للموروثات المتحكمة فيها، والقابضة على تفاصيلها.
مقاربةٌ أولى:
تتنازع لفظ (غنايم) لغويا دلالتان، الأولى ما يؤخذ من المحاربين في الحرب قهرًا، وهي دلالة ناشئة عن صراع بين طرفين – أو أكثر- تنتهي بانهزام أحدهما، واستيلاء الآخر على ما كان بيد المنهزم، وهذه الدلالة هي ذات الوجود الطاغي على الذهنية المجتمعية، ولذلك كان القول الشائع (رضي من الغنيمة بالإياب) دالا على العودة دون تحقيق الأهداف المرجوة، وقد وجدنا في المعاجم العربية أقوالا تدور حول هذا الإطار العام، ومنها (غنم الشيء فاز به، ربحه، عكس غرم – غنِم في الحرب: ظفِر بمال عدوِّه، أصاب غنيمة – الغُنْمُ :غنيمة، ما يُؤخذ من المحاربين في الحرب قهرًا أو عنوة) وقد نشأت هذه الدلالة وتبلورت وتعمقت في إطار صراع قبائلي في العصر الجاهلي، ثم بعد ذلك في إطار ديني هيمن على العلاقة بين المؤمنين والكافرين، وهو لا شك إطار يحكمه الصراع بين الحق والباطل، ومن ثم فإن هذه الدلالة تحمل في طياتها عناصر الصراع، وبالتالي يكون النصر أو الهزيمة، وإن لم تصرح بذلك، أما الدلالة الثانية فهي دلالة لغوية عامة لم يكتب لها الذيوع والانتشار كالدلالة الأولى، وهذه الدلالة العامة أنّ الغنيمة هي كل فائدة تستحصل عن طريق التجارة والكسب أو الحرب، وقد كتب القرطبي في ذيل تفسير آية الغنائم «إنّ الغنيمة في اللغة هي الخير الذي يناله الفرد أو الجماعة بالسعي والجد» ولكن هذه الدلالة العامة لم يكتب لها الشيوع والانتشار كالدلالة الأولى، ولا يمكن استبعاد الدلالة اللغوية من الذاكرة الجمعية أثناء إطلاق الأسماء على أصحابها؛ فهي حاضرة – بشكل أو بآخر – في تلك الذاكرة الجمعية؛ لأن تلك الذاكرة الجمعية هي نتاج تراكمات متتالية لمفاهيم وقيم توارثتها جيلا بعد جيل، وترسَّخت حتى صارت تشكل أنسجتها، ومن ثم تتحكم في المجتمعات، وتهيمن على منظومة القيم فيها، بحيث لا يستطيع أحد في تلك المجتمعات الخروج عن تلك المنظومة، وإذا فكَّر في الخروج يكتشف أنه أصبح منبوذا فكريا ومجتمعيا، وأحيانا دينيا. وفي هذا الإطار يمكن قراءة عنوان القصة (غنايم) للكاتبة كاميليا عبد الفتاح، فلفظ (غنايم) لفظ ذو جذور دينية وظفته الكاتبة؛ لتمزج من خلاله بين الجراحات النفسية والمجتمعية، وتراكمات الاستلاب والقهر التي تتعرض له الأنثى كما يتعرض له الذكر على السواء، كلٌّ بشكل مختلف، فالأنثى مستلبة من الذكر ومن المجتمع، ومنظومة قيمه الحاكمة له والمتحكمة في أفراده، وهي – أي الأنثى – مقهورة من خلال خضوعها القهري لهذه المنظومة من القيم، وإلا تمت تصفيتها نفسيا دائما، وجسديا أحيانا، والذكر مستلبٌ أيضا من هذه المنظومة من القيم؛ فهو لا يستطيع بحال من الأحوال الخروج عنها وإلا أصبح منبوذا مجتمعيا وأخلاقيا ودينيا، وهو أيضا مقهور من خلال خضوعه القهري لهذه المنظومة الحاكمة للمجتمع والمتحكمة في كافة رجاله، وإلا نبذته عائلته ومحيطه المجتمعي، ونسجوا حوله الحكايات، وتمت تصفيته نفسيا وأخلاقيا ودينيا. ومن ثم يدور الصراع بين هذه العناصر داخل المجتمعات، وحين يغفل أحد الأطراف يمارس الطرف الآخر محاولات الخروج عن المألوف في هذه المجتمعات، وقد رصدت القصة ذلك بوضوح تام، تقول في الحديث عن سليم أخي غنايم (كان أخوها"سليمُ" هو الوحيد في الصّعيد كله الذي لا يهنأ بنوم القيلولة - أو الليل - قلقًا عليها، وارتيابًا منها، لكنّ سلطانَ النوم كان يدهمهُ بغفوةٍ إجبارية تَسقطُ فيها رأسُه بين كتفيه كأنه قد تلقَّى طعنةً مفاجئة) فهو دائم المتابعة لأخته قلقا عليها من ناحية، وارتيابا منها من ناحية أخرى، والقلق عليها يمكن تفسيره وقبوله؛ فهي أخته والقلق عليها شيء طبيعي، أما الارتياب فإن تفسيره يدخل ضمن الخضوع لسلطة منظومة القيم المتحكمة في المجتمع، وخوفه الدائم من مخالفتها؛ لأن ذلك يمثل ضياعا له ولهيبته، وتصفيته مجتمعيا ونفسيا وأخلاقيا وقيميًّا، وقد عبَّر سليم عن ذلك في الحوار الذي دار بينه وبين والد الراوية (في المرة الأخيرة التي اختفت فيها – أي غنايم – دقّ سليمُ بابَ بيتنا بجنونٍ، نظر في عينِ أبي الذي بادلهُ نظرةً طويلةً واجمةً، فوضع كفّيه على رأسه في جزعٍ كأنه تلقّى عليها ضربة موجعة ، ضيَّقَ عينيه بقوةٍ كأنهما قبضتان يخنقُ بهما" غنايم"، قال أبي وهو يفركُ قبضتيه في قلق : يعني حتروح منّنا فين؟! زأر سليمٌ : البتّ أَّما بتكون هِبَاب وشينة بتروح يا خال، رِجْلها بتتعتَّر.. وشَّها ووشِّنا بيتعفَّر في التراب) إنه الخضوع القهري لمنظومة المجتمع الحاكمة لحركة أفراده، والمتحكمة في أحكامهم ونظرتهم للناس والأشياء، ولا يمكن الخروج عنها، ومن ثم كان سليم دائم العقاب لأخته في كل مرة تحاول الخروج عن تلك المنظومة، وقد ورد ذلك مرتين في القصة على مستويين مختلفين، ففي المرة الأولى ورد إطارا عاما (يشدّها من يدها .. يُدخلها البيتَ .. نسمع صراخها وزئيره، وهو ينهالُ عليها ضربا بعد أن يغلق البابَ بالمزلاجِ حتى لا ينقذها أحدٌ منّا : إيه اللي ودّاكي سكة التعابين يا واكلة ناسك ؟!) أما المرة الثانية فقد كانت أشد قسوة؛ إذ تأكد خروج (غنايم) عن قيم المجتمع ومنظومته الحاكمة حين ارتمت في حضن العايق (حدّقَ سليم فزعًا في عينيها، في ثوبها المعفّر بتراب الجبل، في المِزَقِ التي برزَ منها فخذاها وهي تحاولُ لملمَتها بكفّ مرتعشة .. أسرعَ إليها مُفلِتًا من ذراعيّ أبي .. انقضَّ على شعرها الذي أفلتَ من قبضته لأول مرة بعد أن فرده دهنُ الثعبان ، أمسكها من ذراعها، أوقعها على الأرضِ، سحبَها وهو يركلُها في كلّ مكانٍ، تطايرَ ترابُ الجبل من ثوبها وحطّ على جدرانِ كلِّ البيوت، كان سليم يزأر كالجنِّ مفلتًا من أذرع الرجال الذين بدوا كأنّ بيوتهم لم تعد تحتملهم، فقذفت بهم في وجه " غنايم ". حبسَها" سليمُ " في البيت .. ربطَها - كالكلبِ - بسلسلة وقفلٍ في الحائط جنب هِباب الفرن الذي لطَّخ به وجهَها فامتلأت به كفُّاه، وضع مفتاح القفل في جيبه، كان يخرجُ للجيران هادئًا، يبكي بين يدي أبي، يضربُ رأسه في الجدار لأنه عجزَ عن التربّص بالعايق الكلب وقتله في المكان الذي سرقَ فيه شرفَ"غنايم") وهنا يبدو الشعور بالضياع التام من سليم لأنه لم يستطع أن يحافظ على شرف أخته، ولم يستطع أن يقتل العايق الذي سلبها شرفها، ومن ثم فهو لن ينجو من النهاية الحتمية المعروفة في هذا المجتمع، وهي التصفية النفسية، ولكن الموقف يعبر عن الخضوع القهري لمنظومة القيم في هذا المجتمع، فهو إما أن يحافظ على أخته أو يقتل من سلبها شرفها، ولكنه لم يستطع أن يحقق أيا من هذين الجانبين.
وفي المقابل نجد (غنايم) مستلبة وخاضعة لتراكمات المجتمع وقيمه؛ فهي حين تذهب إلى الجبل لمقابلة العايق/معشوقها كانت تحاول أن تخفي آثار ما تقوم به (كانت غنايمُ في كل مرة ٍ تتعثّرُ أكثر من مرةٍ رغم كلِّ محاولاتها أن تتفادى السقوط حتى لا تتعفّر ملابسُها أو تتمزق في التراب، فينكشفُ فخذاها و تُقتَضحُ أمام"سليم"وأهل الحارة) فنجد سيطرة الخوف الدائم عليها من أخيها وأهل الحارة/ الاستلاب من المجتمع المحيط بها، سواء القريب/أخوها، الذي يراقبها دائما، أوالبعيد/أهل الحارة الذين يمثلون سلطة القيم، وقد بدت محاولات غنايم التخفي عن رقابة سلطة المجتمع القريب والبعيد في أكثر من موضع في القصة، فنجد (فلم تكن – أي أمها العجوز – ترى"غنايمَ" في وقفاتها الطويلة أمام المرآة تتأملُ تفاصيلَ جسدها اليابس ..تتحسَّسُه في شوقٍ مُرهق، لم ترَها تجرّبُ قميصَ النوم الذي كانت تدسّهُ في السّحارة الخشبية بعدما اشترته من السوق، وأسرعت – حين رآها عمي"فضالي" - بإخفائه في الكيس مع الدجاجة التي سيتم تسمينُها ثلاثةَ أيام في حوش البيت قبل الذبح) تشتمل العبارة السابقة على جانبين من التخفي، فالجانب الأول هو التخفي عن الأم العجوز، وقد جاء نتيجة ضعف نظر الأم فلا تستطيع رؤية ابنتها وهي تمارس بعض التصرفات التي يمكن أن تستنتج منها الأم – لو كانت مبصرة – تغير ابنتها، وخروجها عن قيم المجتمع، ويمكن تأويل ذلك أن الكاتبة أرادت أن تبرز غفلة المجتمع المحيط بغنايم عنها، وأنها تفعل ما تفعل نتيجة هذه الغفلة وأن هذا المجتمع مهما حاول ممارسة قهره واستلابه لها فإنها تستطيع أن تفعل ما تريد حتى وإن كانت ستتعرض للعقاب، ويبدو الجانب الثاني من محاولات غنايم التخفي عن محيطها حين اشترت قميص النوم من السوق، وأخفته بسرعة في الكيس مع الدجاجة حين رآها عمي فضالي، وفي موضع آخر نرى غنايم تستغل غفلة من حولها لممارسة ما تريد (وارتمى على ظهرها – أي شَعْرها – فاندفعت تفتحُ باب البيت بقوة في غفوة من غفوات سليم، خرجت إلى الشارع وهي تُسوّيه بأطرافِ أصابعها في فرحٍ وزهوٍ، ركضت إلى الجبل مُنتشية تبعثر خصلاته فوق وجهها، تتواثبُ قدماها فوق الخطوط المُتعرجة التي تشكّلتْ من زحف الثعابينِ في الممرات الرملية التي تنتهي بشعلة العايق)، وفي موضع آخر ترصد الكاتبة هذا الملمح من شخصية غنايم (كان أخوها"سليمُ" هو الوحيد في الصّعيد كله الذي لا يهنأُ بنوم القيلولة - أو الليل - قلقًا عليها، وارتيابًا منها، لكنّ سلطانَ النوم كان يدهمهُ بغفوةٍ إجبارية تَسقطُ فيها رأسُه بين كتفيه كأنه قد تلقَّى طعنةً مفاجئة، فتنشطُ "غنايم" ..تخرجُ من البيتِ، تتلوى بين الأزقة المظلمة والحارات الضيقة كدودة جائعة شرهة) إن استغلالها غفلة المجتمع المحيط بها لممارسة ما تريد لا يعني أنها لا تخاف من هذا المجتمع، أو تشعر بسطوته؛ فقد بدا ذلك واضحا فيما سبق حين كانت تخرج لمقابلة العايق، فقد كانت تتفادى السقوط؛ حتى لا تتعفر ملابسها، أو تتمزق في التراب فينكشف فخذاها، وتفتضح أمام سليم وأهل الحارة.
لقد لاحظنا أن الصراع هو الحاكم لحركة الأحداث في القصة، وهذا الصراع هو الذي تحدثنا عنه في دلالة اللفظ (غنايم) حين أوضحنا أنه لفظ ذو جذور دينية وظفته الكاتبة؛ لتمزج من خلاله بين الجراحات النفسية والمجتمعية، وتراكمات الاستلاب والقهر التي تتعرض له الأنثى كما يتعرض له الذكر على السواء، كلٌّ بشكل مختلف.
وفي القسم الثاني من الدراسة سوف نتوقف عند حركة المعنى وسيميائية العنوان، وتشكُّل ملامح الشخصيات، والصراع بين الشخصيات المحتلفة داخل البيئة الصارمة، والموروثات المتحكمة وفق الرؤية الفكرية لكل شخصية، وسوف نتوقف كذلك عند الرؤية الفكرية وشبكة العلاقات اللغوية المنتجة لدلالات النص.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى