عبدالرزاق دحنون - الشيخ إمام في حلب

كانت أمسية حلبيَّة لا تٌنسى تلك التي أحياها الشيخ إمام في صالة مسرح معاوية في حي الجميليَّة في المدينة السورية العريقة حلب الشهباء مساء يوم الاثنين 5/11/1984 وكانت السماء في تلك الساعة من الليل تُمطر رذاذاً خفيفاً دافئاً. وصلت بلا "شمسيَّة" متأخراً بضع دقائق عن موعد الحفل، وحين اقتربتُ من بناء الصالة، سمعت صوت غناء رخيم، دخلتُ، فذُهلتُ، فوقفتُ على عتبة باب المسرح، أمعن السمع والبصر. كانت خشبة المسرح مُبهرة، جلس الشيخ إمام على كرسيٍّ من الخيزران متأبطاً عوده، وهو يخبط بقدمه خشبة المسرح خبطاً متواتراً، وعن يمينه جلس الفنان التشكيلي وضارب الايقاع محمد علي، وبين ركبتيه الطبلة المصرية الشهيرة يضبط ايقاع الغناء. أُخذتُ مما رأيتُ، المكان غصَّ بالجمهور، أمتلأ بهم، لا مكان لقدم واحدة مش قدمين، قعد مَنْ لم يجد مقعداً من الصبايا والشباب على درجات السلم الحجري في الفسحة بين المقاعد. وقفتُ على عتبة باب صالة المسرح ولم أستطع تخطي العتبة حيث لا مكان، فوقفت استمع، وكان الشيخ إمام يعزف لحن أغنية "يا ولدي" للشاعر التونسي آدم فتحي. الأغنية جديدة لذلك "طبْ الإبرة تسمع لها رنة" أوتار العود هي التي ترن في فضاء الصالة، وعود الشيخ إمام رنّّان، وهذا الجمهور العريض أسير المغني يصنع به ما يشاء، وكأن يعقوب بن اسحاق الكندي حلَّ في صورة هذا الشيخ الضرير الحادي لقوافل الضمير.

يا ولدي لا تبكي
فأحزان الصغر
تمضي كالحلم مع الفجر
وقريباً تكبر يا ولدي
وتريد الدمع
فلا يجري
إن سهرت أمطارٌ معنا
أو غطى البرد شوارعنا
فالدفء يُعمَّرُ أضلعنا
ولهيب الأرض بنا
يسري
وإذا بحَّت لك
أغنية
أو أنَّت قدم حافية
فشموس رفاقك آتية
وستشرق من غضب الفقر
قد أرمى خلف الجدران
وتَحِنُّ لحبي وحناني
فانظر في قلبك
ستراني
لن يقوى القيد على الفكر
سأضمك والصدر جريحُ
وسأعشق والقلب ذبيحُ
مهما عصفت ضدي الريحُ
لن أحني في يوم ظهري
وإذا ما الدهر بنا دارَ
ومضيت إلى حيث أوارى
أكمل من بعدي المشوارَ
لا تخلف ميعاد الفجر
لن يسقي دمعٌ أشجارك
لن تبني بالآه جدارك
فاصرخ بالخوف إذا زارك
لا تخشى النار من الجمر

ألحان الشيخ إمام سهلة، ولكنها مذهلة، تَنسرب إلى النفس الإنسانية فتحييها، وإلى القلب فتوقده. والشيخ إمام مكتشف لآلئ غربل البحر بغرباله الذي لا يخطئ لؤلؤه، فأختار من لحن الحياة تلك النغمات الباقيات عبر تاريخ طويل من كدح الإنسان ونضاله في سبيل حياة أفضل. عندما تنظر إلى تعابير وايماءات وجه الشيخ إمام وهو يُنشد ويروى ويغني عارضاً موهبة فذة في الأداء الغنائي يُخيل لك أنه هو نفسه شخصية ملحمية، فإن مُحياه كله كأنما لوحته رياح العصور الغابرة، ففي ملامح وجهه تتجلى أحداث الماضي والحاضر ومعاناة البشر وحكمة الدهر ومصائبه وخيره وشره.

ولا ندري لماذا يذكِّرنا صوته الحادي لقوافل الضمير بالربيع كلّما سمعناه، وهو الذي لم نسمع له صوتاً إلاّ وهو مضمّخ بحشرجة العمر في خريفه. حشرجة أو بحّة أو سعال لا يخلو منها تسجيل من تسجيلات حفلاته، كانت تزعجه وتزعجنا وتزعج حُكَّامنا أيضاً. وسرعان ما تعايش الشيخ إمام معها، وتعودنا نحن عليها، وما استساغها حُكَّامنا -أصلحهم الله- فمنعوه من الغناء، وحاكموه، وسجنوه، ولعلها أغرب قضية في تاريخ المحاكمات أن يقول القاضي للمتهم: هات اسمعنا الأغنية التي جئت بسببها إلى المحكمة. وكان الشيخ إمام يُغنيها فعلاً بصوته الرخيم بلا عزف ولا عود، فيطلق القاضي سراحه، ويسجنه العسكر من جديد، فيمعن في السُّخرية، ويُسمعنا في صالة معاوية قصيدة الشاعر الشعبي المصري مصطفى زكي "تسقيف" وكانت جديدة أيضاً، نسمعها من الشيخ إمام أول مرة، والذي يقول في بعض مقطعها "الكلمة عفيفة وإنسانة, لا بتدخل تسكر ف الحانة, ولا ترضى الباب ف الاستانة, ولا تبقى ذليلة ومهانة, أو فرشة طرية و دفيانة, غير للشغيلة الشقيانة, الكلمة الصادقة بتتحول, وبتنزل ع الظالم دانة, ودمر عرشه اللي سبانا, وتخلي نهاره وليله مخيف" فإن غابت هذه البحَّة مرة, رحنا نبحث عنها بلهفة. قال لي ذات يوم صاحب تسجيلات "صوت بغداد" في ساحة السبع بحرات في حلب الشهباء مبتسماً مستبشراً وكنَّا طلاب علم في الجامعة: اسمع هذه التسجيل للشيخ-وكنا نبتاع تسجيلات الشيخ إمام من دكانه- عالجت صوته ونقيته قليلاً. قلتُ: لا يا سيدي، خلينا ع التسجيل القديم الذي يسعل شيخنا فيه، فقد ألفنا هذه البحَّة واستسغناها وصارت علامة فارقة من علامات الشيخ إمام. وكانت تسجيلات الشيخ إمام المُهربة-رديئة التسجيل- توجد في مطرحين في سورية مكتبة ميسلون في دمشق وصوت بغداد في حلب.

خشبة مسرح صالة معاوية عريضة وفيها وساعة و "براحة" على حد تعبير أهل مصر، فكان الشيخ إمام وضارب الإيقاع محمد علي في راحة وانسجام تام، نلحظ ذلك من خلال أداء الشيخ إمام المبهر. نعم، كان الشيخ إمام فرحاً مرتاحاً مسروراً من هذا الجمهور الذي يُقابله لأول مرة وجهاً لوجه، وكنا نحن أشدّ فرحاً وسروراً، كنا نستمع إليه وجهاً لوجه، غير مصدقين الأمر، الشيخ إمام بيننا، ما أسعدنا. جاء إلينا من لبنان بعد أن دعاه الحزب الشيوعي اللبناني للاحتفال معه في الذكرى الستين لتأسيسه. وعلى الرغم من برد شتاء ذلك العام فقد غنى الشيخ إمام في بيروت وعدة مدن لبنانية أخرى. وبعد انتهاء حفلات لبنان توجه إلى سورية، بدعوة من وزيرة الثقافة السورية السيدة نجاح العطار، فكانت حفلة صالة معاوية في حلب الشهباء أول حفلاته في سورية.

عندما بدأت أنامل الشيخ إمام تعزف مطلع لحن قصيدة "أناديكم" على أوتار العود ضجت صالة المسرح بالتصفيق. الأغنية من كلمات الشاعر الفلسطيني توفيق زيّاد وكانت عنواناً لديوانه الأول "أشد على أياديكم" الصادر عن مطبعة الاتحاد في حيفا عام 1966 وقد اجتمع الشاعر توفيق زيّاد والشيخ إمام في مدينة ليل الفرنسية عام 1984 حيث ألقى توفيق زيّاد قصيدة "أناديكم" على الجمهور ثمَّ غناها الشيخ إمام. وبعد سنوات أخذ الملحِّن والمغني اللبناني الثوري أحمد قعبور كلمات قصيدة أناديكم وصاغ لها لحناً جديداً، بل قل نشيداً صاخباً يهز الوجدان هزَّاً عنيفاً. تُحسّ أن أحمد قعبور في موسيقاه يصرخ في العمال والفلاحين على امتداد الكرة الأرضية، يناديهم ويشد على أياديهم. هي دعوة حيَّة للمقاومة الشعبية في وجه الظلم والاستبداد والاستعباد. نحن لم نهن في وطننا ولن نهون، سنحمل دمنا على أكفنا ونقتحم الشوارع والساحات في سبيل وطن حر وشعب سعيد.

أناديكم
أشدُّ على أياديكم
أبوس الأرض تحت نعالكم
وأقول: أفديكم
وأهديكم ضيا عيني
ودفء القلب أعطيكم
فمأساتي التي أحيا
نصيبي من مآسيكم.
أناديكم
أشدُّ على أياديكم
أنا ما هنت في وطني ولا صغَّرت أكتافي
وقفت بوجه ظلامي
يتيماً، عارياً، حافي
حملت دمي على كفي
وما نكَّست أعلامي
وصنت العشب فوق قبور أسلافي
أناديكم
أشدُّ على أياديكم

كنتُ بين الجمهور الواقف في باب صالة المسرح ومع أخر حرف في أغنية "أناديكم" قام الجمهور قومة رجل واحد مصفقاً بحرارة تحية لهذا المغني الفقير الضرير الذي عبَّر بالكلمة المغناة عمَّا يختلج في نفوس هذا الجمع الغفير.

وكان لا بد من نهاية لهذا الحفل الذي غنى فيه الشيخ إمام حتى التعب، ومن يُغني من القلب يتعب، على حدِّ تعبير وديع الصافي. أذكر من هذه الأغاني: سلام يا أرضنا، ح نغني، الخط دا خطي، صندوق الدنيا، حيث تألق في هذه الأغاني تألق الكبار. وفي الختام كان لابد من إنشاد مانِيفِستُو "جيفارا مات" ومن ميزات الشيخ إمام الحميدة- وهي كثيرة- التي لم يتطرق إليها من كتب أو تحدث عن هذه التجربة الغنائية الفريدة في تاريخ الموسيقى والغناء العربي أن الشيخ إمام لا يُغني الأغنية بنفس اللَّحن مرتين، بل يُضيف دائماً تنويعات لحنية جديدة في كل مرة يُغني فيها الأغنية وكأنه يستشعر حال الجمهور من حوله. في صالة معاوية في حلب الشهباء سمح وجودي في آخر الصالة أن أراقب المغني والجمهور من متراسي عند الباب. في أول رنة عود من أغنية "جيفارا مات" سكتت الصالة سكوتاً تاماً، ولا حتى نفس، الصالة بمن فيها خاشعة في محراب الشيخ إمام. في أول المقطع الثالث من أغنية جيفارا مات والتي تقول: "عيني عليه ساعة القضا". فجأة، يتوقف الشيخ إمام عن عزف العود، ويترك إيقاع محمد علي يُغرد منفرداً في فضاء الصالة لأكثر من دقيقة، فتحبس الصالة أنفاسها على صوت الطبلة المصرية، وحين يعود رنين عود الشيخ إمام تتنفس الصالة من جديد.

جيفارا مات
آخر خبر في الراديوهات
وفي الكنايس
والجوامع
وفي الحواري
والشوارع
وع القهاوي وع البارات
جيفارا مات
وتمدّ حبل الدردشه والتعليقات
مات المناضل المثال
يا ميت خساره ع الرجال
مات الجدع فوق مدفعه جوّه الغابات
جسدّ نضاله بمصرعه ومن سكات
لا طبالين يفرقعوا ولا إعلانات
ما رأيكم دام عزكم
يا أنتيكات
يا غرقانين في المأكولات والملبوسات
يا دفيانين ومولعين الدفايات
يا محفلطين يا ملمعين يا جيمسنات
يا بتوع نضال آخر زمن في العومات
ما رأيكم دام عزكم
جيفارا مات
لا طنطنه
ولا شنشنه
ولا إعلامات واستعلامات
عيني عليه ساعة القضا
من غير رفاقه تودّعه
يطلع أنينه للفضا
يزعق
ولا مين يسمعه
يمكن صرخ من الألم
من لسعة النار في الحشا
يمكن ضحك أو ابتسم أو ارتعش أو انتشى
يمكن لفظ آخر نفس كلمة وداع
لجل الجياع
يمكن وصيه
للي حاضنين القضية
في الصراع
صور كتير
ملو الخيال
وألف مليون احتمال
لكن أكيد ولا جدال
جيفارا مات موتة رجال
يا شغالين ومحرومين
يا مسلسلين رجلين وراس
خلاص
خلاص
ما لكوش خلاص
غير بالقنابل والرصاص
دا منطق العصر السعيد
عصر الزنوج والأمريكان
الكلمة للنار والحديد
والعدل أخرس أو جبان
صرخة جيفارا يا عبيد
في أي موطن أو مكان
ما فيش بديل
ما فيش مناص
يا اتجهزوا جيش الخلاص
يا تقولوا ع العالم خلاص

الشيخ إمام يا ولدي:
الشيخ إمام أناديكم:
فرقة الأولى بلدي تُغني جيفارا مات:

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى