الدَّعْم كلمةٌ لا يخلو جَرْسُها الخفيف من نغَم، ربما لذلك قرَّرتْ وزارة الثقافة أن تُخصِّص أكبر قدْر من دعْمها هذه السنة للأغاني، وألقتْ بالفُتات للكتاب الذي لا يورِّث في الأنفس إلا الهم، ولو ألّفَهُ بالعزْف على الوتر الحسَّاس أبو فرج الأصفهاني!
صحيح أن كلمة الدعم خفيفة بإيقاعها على اللسان، ولكنها بالملايين متفرقة على معْشَر الطَّيْر الذي ملأ الدنيا تغريداً دون أن يُطْرب أحداً، تكتم بثِقلها أنفاس غالبية الشعب بالقدْر الذي يطيل أرواح قلَّةٍ آخرين، فهذه الأموال خارجة تفْصيداً من ظهْر المواطن الذي يتعرَّض شهرياً للجَلْد بضرائب مباشرة أو غير مباشرة، أجَلْ من هذا الظهر الذي أحْناهُ الشقاء تتحصَّل الوزارة على نصيبها من الميزانية لتُورِّد بسيولتها المشاريع الثقافية والفنية التي لِشراهة بعضها حتى لا أقول لتفاهتها، يرتوي الإبل ولا ترتوي، لأنَّ نفس الأسماء الموهوبة في خِفَّة اليد تجدها سنوياً ماسكةً الصَّف لتلقُّف الدرهم، هكذا وبالبساطة التي تُؤْكَل بها البطاطا ينقلبُ الدَّعْم ريعاً لتسْمين كل عَجُول!
ولا أعجب إلا من حكومة تنام دون أن تعْدِل كيف فكَّرتْ طيلة سنوات سياستها الفاشلة، في رفع الدَّعم عن المواد المعيشية لتخفِّف العبء على خزينة الدولة، وتضعه جبالا مُقنْطَرة على كاهل الفقراء، على الأقل وزارة الثقافة في هذه الأيام العصيبة لكورونا التي أفقدتْ كلَّ طالبِ معاشه، فطنتْ أن الناس أصبحتْ كالديكة ترقصُ مذبوحة، فهرعتْ بحكمتها في ترشيد النَّفقات إلى دعْم الغناء!
لن نُفْسِد النغم الموسيقي الذي تكْتنفه كلمةُ الدَّعم بالشَّطط في استعمال الكتابة المؤدي بدوره للكآبة، ولكن يجب أن نكون حقَّانيين ونعترف أنه ليس بالخبز فقط يعيش المواطن، وأن وزارة الثقافة وُجدتْ لإدارة الغذاء الفكري والروحي في ظروفٍ مادية ورمزية سليمة تُفْضي لنتائج يقبلها العقل، ولأنَّ المسؤولية تُحتِّم أن لا يخْتلَّ الميزان بشوكته التي قد تجرح مشاعر الناس، كان يجدر بالوزارة أن تُغلِّب في تعاملها مع ما تستقبله من مشاريع فنية أو ثقافية، كفَّة الاسْتحقاق، وأن لا تفْقِد سُمعتها من أول شطحةٍ انقلبتْ لنطحةٍ بتعيين لِجنٍ احترفتْ سياسة التواطؤات والنِّفاق!
كل الشارع المغربي الذي سئم التَّقوْقع في موضع الضحية كأرصفة هامشية تركلها الأحذية، صار يُنادي بالدَّعْم بعد أن لَمَس سهولة التَّحَصُّل على الملايين دون تعب على طبق من ذهب، الجميع حَمَل الطَّبْلة والربابة ورفع عقيرته بالغناء مُحْتشداً أمام بوابة وزارة الثقافة مُطالباً نظير مشروعه في القرع والزعيق بدعم يُساوي آلاف الدراهم، الجميع شَعَر أن الفرج قريب ليس بعيدا عن حُنْجرته التي لا تحتاج إلا لبعض الألحان رغم تآكلها بالشعارات السياسية التي اصطدمت بالخذلان، لم تضع الوزارة في حُسبانها سُبحان من لا يسهو ولا ينام، أن لجنة التحكيم الحقيقية ليست تلك التي تنسُجُها على مقاس إحدى الطاولات الطويلة بقاعة الاجتماعات، إنما هي الشارع المغربي بطوله وعرضه والذي ليس بالغباء لتُمرِّر على مسامعه من جيب المال العام أي غناء، والحقيقة أني لا أعرف كم كلَّفتْ بعضُ الروائع الغنائية حين كان الدَّعم ببلدنا مرصوداً لصناعة الهراوات، ولكنني أعرف أنَّها حقَّقتْ أرباحاً طائلة من المعجبين، وما زال الزمن عاجزاً عن محوها من ذاكرتنا السمعية رغم الميوعة التي خربت هذه الأيام طبلة الآذان، وتحضرني مثلا من الروائع أغنية "القمر الأحمر" لا أعرف كم كلَّف إنتاجها رغم أن القرائح التي أبدعتها لا تُقدَّر لموهبتها القويَّة بثمن، فالألحان للموسيقار عبد السلام عامر، والكلمات للشاعر عبد الرفيع الجواهري والطرب للمغني عبد الهادي بلخياط، ثلاثة أهرام في الإبداع المغربي الأصيل لا أعرف إلا أنهم بأغنية "القمر الأحمر" قهروا الزمن وتجاوزوه ليصبحوا أكبر من أي ثمن!
تروقني كلمة الدعم ما أخفَّها على اللسان ولو أثقلتْ بعض الجيوب بالدرهم ينطح الدرهم، تُشْعِرني أن العالم بغفْلته مازال بخير ويُفكِّر مِن حيث لا يُفكر في وجودي، يكفي أن أكون في الموعد مع الزحام وأرفع صوتي الذي لن يسمعه أحد، يكفي أن يختلط صوتي بالضَّجيج لأنال نصيبي من الدعم، فالناعورة لا تدور في بلدي إلا على إيقاع هذا النَّغَم!
.........................................
افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 8 أكتوبر 2020
صحيح أن كلمة الدعم خفيفة بإيقاعها على اللسان، ولكنها بالملايين متفرقة على معْشَر الطَّيْر الذي ملأ الدنيا تغريداً دون أن يُطْرب أحداً، تكتم بثِقلها أنفاس غالبية الشعب بالقدْر الذي يطيل أرواح قلَّةٍ آخرين، فهذه الأموال خارجة تفْصيداً من ظهْر المواطن الذي يتعرَّض شهرياً للجَلْد بضرائب مباشرة أو غير مباشرة، أجَلْ من هذا الظهر الذي أحْناهُ الشقاء تتحصَّل الوزارة على نصيبها من الميزانية لتُورِّد بسيولتها المشاريع الثقافية والفنية التي لِشراهة بعضها حتى لا أقول لتفاهتها، يرتوي الإبل ولا ترتوي، لأنَّ نفس الأسماء الموهوبة في خِفَّة اليد تجدها سنوياً ماسكةً الصَّف لتلقُّف الدرهم، هكذا وبالبساطة التي تُؤْكَل بها البطاطا ينقلبُ الدَّعْم ريعاً لتسْمين كل عَجُول!
ولا أعجب إلا من حكومة تنام دون أن تعْدِل كيف فكَّرتْ طيلة سنوات سياستها الفاشلة، في رفع الدَّعم عن المواد المعيشية لتخفِّف العبء على خزينة الدولة، وتضعه جبالا مُقنْطَرة على كاهل الفقراء، على الأقل وزارة الثقافة في هذه الأيام العصيبة لكورونا التي أفقدتْ كلَّ طالبِ معاشه، فطنتْ أن الناس أصبحتْ كالديكة ترقصُ مذبوحة، فهرعتْ بحكمتها في ترشيد النَّفقات إلى دعْم الغناء!
لن نُفْسِد النغم الموسيقي الذي تكْتنفه كلمةُ الدَّعم بالشَّطط في استعمال الكتابة المؤدي بدوره للكآبة، ولكن يجب أن نكون حقَّانيين ونعترف أنه ليس بالخبز فقط يعيش المواطن، وأن وزارة الثقافة وُجدتْ لإدارة الغذاء الفكري والروحي في ظروفٍ مادية ورمزية سليمة تُفْضي لنتائج يقبلها العقل، ولأنَّ المسؤولية تُحتِّم أن لا يخْتلَّ الميزان بشوكته التي قد تجرح مشاعر الناس، كان يجدر بالوزارة أن تُغلِّب في تعاملها مع ما تستقبله من مشاريع فنية أو ثقافية، كفَّة الاسْتحقاق، وأن لا تفْقِد سُمعتها من أول شطحةٍ انقلبتْ لنطحةٍ بتعيين لِجنٍ احترفتْ سياسة التواطؤات والنِّفاق!
كل الشارع المغربي الذي سئم التَّقوْقع في موضع الضحية كأرصفة هامشية تركلها الأحذية، صار يُنادي بالدَّعْم بعد أن لَمَس سهولة التَّحَصُّل على الملايين دون تعب على طبق من ذهب، الجميع حَمَل الطَّبْلة والربابة ورفع عقيرته بالغناء مُحْتشداً أمام بوابة وزارة الثقافة مُطالباً نظير مشروعه في القرع والزعيق بدعم يُساوي آلاف الدراهم، الجميع شَعَر أن الفرج قريب ليس بعيدا عن حُنْجرته التي لا تحتاج إلا لبعض الألحان رغم تآكلها بالشعارات السياسية التي اصطدمت بالخذلان، لم تضع الوزارة في حُسبانها سُبحان من لا يسهو ولا ينام، أن لجنة التحكيم الحقيقية ليست تلك التي تنسُجُها على مقاس إحدى الطاولات الطويلة بقاعة الاجتماعات، إنما هي الشارع المغربي بطوله وعرضه والذي ليس بالغباء لتُمرِّر على مسامعه من جيب المال العام أي غناء، والحقيقة أني لا أعرف كم كلَّفتْ بعضُ الروائع الغنائية حين كان الدَّعم ببلدنا مرصوداً لصناعة الهراوات، ولكنني أعرف أنَّها حقَّقتْ أرباحاً طائلة من المعجبين، وما زال الزمن عاجزاً عن محوها من ذاكرتنا السمعية رغم الميوعة التي خربت هذه الأيام طبلة الآذان، وتحضرني مثلا من الروائع أغنية "القمر الأحمر" لا أعرف كم كلَّف إنتاجها رغم أن القرائح التي أبدعتها لا تُقدَّر لموهبتها القويَّة بثمن، فالألحان للموسيقار عبد السلام عامر، والكلمات للشاعر عبد الرفيع الجواهري والطرب للمغني عبد الهادي بلخياط، ثلاثة أهرام في الإبداع المغربي الأصيل لا أعرف إلا أنهم بأغنية "القمر الأحمر" قهروا الزمن وتجاوزوه ليصبحوا أكبر من أي ثمن!
تروقني كلمة الدعم ما أخفَّها على اللسان ولو أثقلتْ بعض الجيوب بالدرهم ينطح الدرهم، تُشْعِرني أن العالم بغفْلته مازال بخير ويُفكِّر مِن حيث لا يُفكر في وجودي، يكفي أن أكون في الموعد مع الزحام وأرفع صوتي الذي لن يسمعه أحد، يكفي أن يختلط صوتي بالضَّجيج لأنال نصيبي من الدعم، فالناعورة لا تدور في بلدي إلا على إيقاع هذا النَّغَم!
.........................................
افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 8 أكتوبر 2020