رشا الفوال - حلم الطيران من بساط الريح إلى الطائرة الورقية رؤية نفسية/ رشا الفوال

على افتراض أن الصورة (الرمزية) للحُلم غالبًا مشتقة من العصور القديمة والأساطير التي تأصلت في اللاوعى الجمعي كلغة تواصل بها الإنسان قديمًا؛ نجد أن الحُلم في الفرعونية مشتق من (اليقظة)؛ لأن الحالم يتجول في عوالم مختلفة أولها عالم الرب، ثم عالم الآلهة، ثم عالم الأسلاف، ثم الأشباح، ثم الأحياء، و الحُلم خلق ليلي متصل بالموت ويتم تحت تأثير القوى الشيطانية في الموروث السومري، وعند البابليين الحُلم يولد من الأرض الكبرى (الجحيم)، ولأن الحُلم يُعد لغة لها مفردات ورموز تُعبر عن حالات من (التفتح النفسي)؛ تخيل الإنسان نفسه طائرًا على بساط الريح أو عصا المقشة أو على ظهر التنين أو بالحصان الطائر، وإن كان تم إلصاق عصا المقشة بأهل الشر من الساحرات؛ فالغرابة التي قد تبدو على أحلام الإنسان بالطيران نابعة من كون تلك الأحلام تُعبر عن رسائل (لاشعورية)؛ ولأن هناك قوى ناهضة للمكبوتات قادرة على اختراق الحواجز والوصول إلى عالم الشعور كما يعتقد "فرويد"، يظل تفسير أحلام الإنسان بالطيران عبر العصور ممتدًا بين (الرمز) و(المعنى)؛ فالرسالة التي يحملها الحالم تعكس الحالة الباطنه السائدة في (الجماعة السيكولوجية)، فمن (بساط علي بابا والسندباد) إلى (بساط سيدنا سليمان عليه السلام) يتجلى المثل الشعبي (على قد بساطك مد رجليك)، إلا أن حُلم الطيران في التراث الشعبي يشكل مؤشرًا له وجاهته في تجسيد مظاهر إحساس الإنسان بالعجز، ورغبته في التحرر ومغادرة الواقع (المكاني) إلى عالم متخيل تعتمد مواد الحُلم فيه على العناصر ماقبل شعورية والتي توجد في(الذاكرة)، وعلى (الرغبة في التحرر) التي تعتبر دينامية لاشعورية بالغة التعقيد، والتي نعتبرها فكرة أساسية خفيه تُعلن عن نفسها في (سياق تعبيري) نشاهده الآن بوضوح في انشغال الأطفال والكبار بقص الأوراق الملونة وتنسيقها على شكل سداسي أو مثلث، وإضافة الذيول الطويلة الملونة، كأن السماوات أماكن حميمية تشهد نزق الإنسان الحالم وفوضاه ورغبته في التحليق وتخطي حواجز العجز والرقابة التي تعتبر قوى كابتة؛ فالطائرات الورقية تعتبر صيغًا تحويليه سمحت للرغبات المكبوته بالوصول؛ فحلم الطيران يعتبر من أحلام (التأملات الشاردة) التي عبر عنها"غاستون باشلار"، من أجل الحصول على لحظات سعادة عل الحالم يتجاوز عجزه في الواقع، للحالم إذًا طاقة تناغم مع العالم كوسيلة لمعرفة الذات، سفرًا إلى مكامن الذاكرة، فثمة مشاغبات متحققة ذات طابع بصري تحولت بمجرد التحليق إلى حالة من الوعى باللحظات الراهنة، خيوطها الراهنة هى الخيوط الفاصلة بين (الذاكرة) و(الحُلم)، بين (الزمن الواقعي) و(الزمن المتخيل)، تتجلى خصوصيتها من خلال التلاحم الحميمي بين الأرض كمكان أليف والسماء كمكان مُحرض على انعتاق الرغبات وتغييب الواقع الموضوعي، السماء التي تعتبر (شاشة الحُلم) على اعتبار أن الطائرة الورقية (محتوى بصري) يدل على أن الحالم في حالة يقظة، يدفعنا ذلك للعودة مجددًا إلى فكرة البنية المكانية ذات البُعدين، فالحالم صار مشاهدًا بمجرد ارتفاع الطائرة، تلك هى التجربة الفريدة للمكان الذي تتجلى فيه (الذات) و(الموضوع) في آن واحد، والذي يمتزج فيه الكامن بالمعلن، كأن اقتران الحلم بالمكان الحميمي الذي يوفر له الحماية (حيث لا رقابة ولا مكبوتات) هو المفسر المنطقي لرغبة الإنسان في التحليق، فالحلم يمتلك القدرة على جعل الحالات البدائية للأنا راهنة؛ فتبعثر ذات الحالم بالطيران في المكان المتخيل يتطلب أن يكون في آن واحد (هنا) و(هناك)، هذا الخلط بين (الواقعي) و(المتخيل) أسهم في خلق أحلام الطيران المتجوله في سماوات لانهائية من المتعة، كما لو أن الحالم ملأ نفسه بنفسه، عبر لعبة التكامل بين (الحلم/ الرغبة)، تلك اللعبة التي تجعله منفتحًا على مكان أكثر استيعابًا لنزقه من السلبية إلى الفاعلية، ومن العجز إلى التحرر وانتزاع الذات من انغلاقها


* بيبلوغرافيا:

1_ غاستون باشلار(1980)، "جماليات المكان"، ترجمة: غالب هلسا، دار الجاحظ، بغداد
2_ سامي على(1983)، "مكان الحلم"، ترجمة: بدر الدين عردوكي، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، ع23
3_ غاستون باشلار(1991)، "شاعرية أحلام اليقظة: علم شاعرية التأملات الشاردة"، ترجمة:جورج سعد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، بيروت
4_ عشتار داوود(2009)، "الدروب والأغنيات الصامتة: بين صوت الذاكرة وتصميت الحلم"، مجلة التربية والعلم، مج 16، ع1، العراق


* نشرت في مجلة تراث الإماراتية أغسطس 2020م



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى