قررتَ الرحيل غير آبهٍ بالعواقب رغم أنك قرأت "Le ventre de l'atlantique" وعرفت الوجه الآخر للحلم الجالس هناك خلف هذه الزرقة الشاسعة، بيد أنك همست لذاتك محمساً: اللجة أرحم من الهاوية، يقينا أن أجدادك اختاروا الفسحة بدل النفق! لم تكن تملك خيارا أيها التائه; هنا كنت طٌعما للحشرات ،والآلام ، تنهشك الميلارياء ويعذبك الصداع ، الصداع الرهيب الذي يصيبك كثيرا ، الصداع الرهيب الذي أبكى قبلك الشعراء والفلاسفة .
- ' رأسي يؤلمني ،والكون بأسره يؤلمني- قالها قبلك الشعراء ' بيسّوا ' ذات صداع رهيب. ها أنت شاعر آخر يترك حبيبته لبعض الوقت أملاً في عودة كبيرة ، دفنتَ شفتها السفلى بشفتيك ومررت يدك على رأسها واستدرت في الوقت الذي تسللت دمعة نحو ركن ركن شفتك ! لم يكن لك خيار سوى الصعود على المجهول أو رمي هذا الجسد من علِ، قررت الرحيل لأنك لم تجد من يقول لك ' امسك يدي' . أخذت حقائبك حين أخبرتك أمّك أنها رأتكَ في المنام تقدم خبزا لمتشرد وسط قمامة هائلة!
لم تتمكن البيداء الواسعة من إبطاء خطواتك ; أنت الصحراوي الذي تركها بحثا عن الوديان ها تعبرها بحثا عن المجهول ،وصلت إلى ليبيا عبر ' مرزق ' ثم أسرجت قدميك نحو شطآنها ،هناك رأيت البحر لأول مرة ، البحر صحراء من الماء كما الصحراء بحر من الرمل! قلت ذلك لتأكد لذاتك أنك راكبٌ لا ريب . ها هو الزورق الذي ستئمنونه حياتكم ، ها هو المهرب الذي ستعطونه أموالكم ، وها هم رفقاك في هذه الرحلة المحفوفة بأخطار جليلة. سودانيون ،وسنغاليون وأرترييون وزنوج من الجنوب وعرب وحبش . بينما انشغل الجميع مع ربه طالبا السلامة انشغلتَ بورقة وقلم ! كتبت وصيتك في سطرين :" أخيرا استوت على الجودي ، إذا نجونا لا شيء، إذا متنا فنأمل أن تصلوا على أرواحنا، وأن لا تذرفوا الدموع " طويتها وحشرتها في جيب بنطالك 'الجينز' بصعوبة بالغة .
هاج البحر تحت زورق صغير مكتظ بجوقة من المجازفين ، المارد الأزرق ، القوي الجبار ، لم يتحمل كل هذه الكلمات المحفورة في رأسك الصغير ، ترنّح الزورق ولامس البحر المالح جسدك المعسّل ، تذوق بعض من الحبر العالق بك وهاج أكثر .
بين ليبيا وإيطاليا ، هنا في وسط المحيط أدركت يقينا أن هذا الموج الغاضب لن ينزل إلا بك ، وصل الموج الذي ارتفع بطول بناية ذات بضع نجوم ثم ضرب الزورق بشدة كيدِ ملاكٍ أُمِرَ بالعقاب. تلاشى كل شيء في لحظة ، أين الزورق ، أين الشرذمة ؟ من بعيد كبعد السماء رأيت أحدهم يسعى للوصول نحو الزورق العاجز كسلحفاة مقلوبة ، كافحت لكن التيار أقوى من ذراعيك ، لنصف ساعة حاولت البقاء على قيد الحياة لكن جسدك بدأ يخونك ، عجزتْ ساقاك ،ذراعاك ، رأسك ، كنت قريبا جدا من السنغالي الذي وصل إلى الزورق حين تركت جسدك حراً ، ها أنت تذوب كالسراب ، تغيب شيئا فشيئا، وحدك عارياً من الأمل والإيمان ، غاب الرأس في هدوء البحر إلا أن يدك اليمنى ظلت تلوّح للسنغالي ، أوداعٌ أم تحية أو طوق نجاة؟ هذا ما لن يفهمه أبدا.
ها أنت تسمع كل شيء، تحوّل الهدوء إلى اللجّة ، نظرات الأسماك ،والحيتان ، أي بطن حوت يتحمل كل ما في رأسك ، هذا الحوت الذي يتلقفك لو يعلم ما في رأسك من حبر وورق لما فعل ، أخيراً بعد شهر إلا قليلا تصل إلى احدى جزر ايطاليا ، ها أنت قد وصلت لكن بلا روح ولا عينين . ولكنهم عثروا على ورقة محفوظة في قطعة بلاستيك داخل جيب بنطالك تقول ' إذا نجونا لا شيء" .
محمّد جدّي .
دقيل. أنجمينا ـ تشاد.
- ' رأسي يؤلمني ،والكون بأسره يؤلمني- قالها قبلك الشعراء ' بيسّوا ' ذات صداع رهيب. ها أنت شاعر آخر يترك حبيبته لبعض الوقت أملاً في عودة كبيرة ، دفنتَ شفتها السفلى بشفتيك ومررت يدك على رأسها واستدرت في الوقت الذي تسللت دمعة نحو ركن ركن شفتك ! لم يكن لك خيار سوى الصعود على المجهول أو رمي هذا الجسد من علِ، قررت الرحيل لأنك لم تجد من يقول لك ' امسك يدي' . أخذت حقائبك حين أخبرتك أمّك أنها رأتكَ في المنام تقدم خبزا لمتشرد وسط قمامة هائلة!
لم تتمكن البيداء الواسعة من إبطاء خطواتك ; أنت الصحراوي الذي تركها بحثا عن الوديان ها تعبرها بحثا عن المجهول ،وصلت إلى ليبيا عبر ' مرزق ' ثم أسرجت قدميك نحو شطآنها ،هناك رأيت البحر لأول مرة ، البحر صحراء من الماء كما الصحراء بحر من الرمل! قلت ذلك لتأكد لذاتك أنك راكبٌ لا ريب . ها هو الزورق الذي ستئمنونه حياتكم ، ها هو المهرب الذي ستعطونه أموالكم ، وها هم رفقاك في هذه الرحلة المحفوفة بأخطار جليلة. سودانيون ،وسنغاليون وأرترييون وزنوج من الجنوب وعرب وحبش . بينما انشغل الجميع مع ربه طالبا السلامة انشغلتَ بورقة وقلم ! كتبت وصيتك في سطرين :" أخيرا استوت على الجودي ، إذا نجونا لا شيء، إذا متنا فنأمل أن تصلوا على أرواحنا، وأن لا تذرفوا الدموع " طويتها وحشرتها في جيب بنطالك 'الجينز' بصعوبة بالغة .
هاج البحر تحت زورق صغير مكتظ بجوقة من المجازفين ، المارد الأزرق ، القوي الجبار ، لم يتحمل كل هذه الكلمات المحفورة في رأسك الصغير ، ترنّح الزورق ولامس البحر المالح جسدك المعسّل ، تذوق بعض من الحبر العالق بك وهاج أكثر .
بين ليبيا وإيطاليا ، هنا في وسط المحيط أدركت يقينا أن هذا الموج الغاضب لن ينزل إلا بك ، وصل الموج الذي ارتفع بطول بناية ذات بضع نجوم ثم ضرب الزورق بشدة كيدِ ملاكٍ أُمِرَ بالعقاب. تلاشى كل شيء في لحظة ، أين الزورق ، أين الشرذمة ؟ من بعيد كبعد السماء رأيت أحدهم يسعى للوصول نحو الزورق العاجز كسلحفاة مقلوبة ، كافحت لكن التيار أقوى من ذراعيك ، لنصف ساعة حاولت البقاء على قيد الحياة لكن جسدك بدأ يخونك ، عجزتْ ساقاك ،ذراعاك ، رأسك ، كنت قريبا جدا من السنغالي الذي وصل إلى الزورق حين تركت جسدك حراً ، ها أنت تذوب كالسراب ، تغيب شيئا فشيئا، وحدك عارياً من الأمل والإيمان ، غاب الرأس في هدوء البحر إلا أن يدك اليمنى ظلت تلوّح للسنغالي ، أوداعٌ أم تحية أو طوق نجاة؟ هذا ما لن يفهمه أبدا.
ها أنت تسمع كل شيء، تحوّل الهدوء إلى اللجّة ، نظرات الأسماك ،والحيتان ، أي بطن حوت يتحمل كل ما في رأسك ، هذا الحوت الذي يتلقفك لو يعلم ما في رأسك من حبر وورق لما فعل ، أخيراً بعد شهر إلا قليلا تصل إلى احدى جزر ايطاليا ، ها أنت قد وصلت لكن بلا روح ولا عينين . ولكنهم عثروا على ورقة محفوظة في قطعة بلاستيك داخل جيب بنطالك تقول ' إذا نجونا لا شيء" .
محمّد جدّي .
دقيل. أنجمينا ـ تشاد.